الهوية الإسلامية في سيرورتها التاريخية

السنة الثالثة عشر ـ العدد 149 ـ (رجب 1435 هـ) أيار ـ 2014 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لا تزال الهوية كمصطلح وكمعنى وكاعتقاد قيمي، تحظى بجدل كبير، وتحفل بالكثير من النقاشات الفكرية بين مختلف مواقع ودوائر الثقافة العربية الإسلامية، بسبب عدم حسم إشكاليتها التاريخية والواقعية، خصوصاً بالنسبة لمجتمعات تقليدية ترتكز ثقافياً ومعرفياً على قيم "هوياتية" تتصل بطبيعة مجالها الديني والحضاري كمجتمعات متدينة ذات هوية اعتقادية إسلامية الطابع والامتداد.

والإشكالية تظهر على الدوام في محاولة الإجابة على السؤال التالي:

هل باستطاعة وعاء هويتنا الحضارية التاريخية المتمثلة في قيم الإسلام، استيعاب وهضم قيم العصر المتنوعة الهائلة المختلفة إلى حد كبير عما أفرزته وقدمته تلك الهوية من قيم ومبادئ وسلوكيات وعادات وتقاليد وأنماط عمل ومعاني حياتية ووجودية مهيمنة كلياً على حياة وتصرفات الفرد والمجتمع المسلم؟!!.

لا شك أن محاولة الإجابة النظرية على هذا السؤال الحيوي، تشكل نصف الطريق لحسم إشكالية الهوية في مجتمعاتنا في بعدها العملي.

ويكمن المعنى الحقيقي لمفهوم الهوية -وربما من هنا أيضاً تتحدد القيمة الحقيقية الفعلية لأية دولة أو أمة- في مدى القدرة التي يمكن أن تستثمرها هذه الدولة أو تلك الأمة لتزخيم مبادراتها العملية وانخراطها المنتج والفاعل في مختلف الأصعدة و"التدبيرات" الحياتية، وتوسيع حجم مشاركتها الإبداعية في شتى الميادين الوجودية المعاشة على مستوى تطوير حياة الفرد، وتأمين متطلباته، وتنمية قواه ومداركه ليشارك بقوة في صنع وجوده ومصيره.. هنا تتحدد كفاءة الأمة وفعاليتها الوجودية، وليس في نكوصها الماضوي الهوياتي – إذا صح التعبير- للعيش في جدران الزمن المقفل ودهاليز النظريات الواهمة والمتوهمة.

من هنا يمكن القول بأنه من الصعب إعطاء مصطلح الهوية معنى محدداً تماماً ونهائياً مغلقاً غير قابل للتجدد والتحول بما يناسب تطورات الوجود في بعديه الزماني والمكاني.. فأنا مثلاً إنسان أعيش في عصر جديد مختلف بصورة شبه كلية عن العصور السابقة التي كان يعيش فيها أجدادي القدامى الذين كانت لهم مكاسبهم ومتطلباتهم ومستلزمات وجودهم التي تختلف كثيراً عن متطلباتي واحتياجاتي والتزاماتي الراهنة التي لها شروط ومناخات وبنى معرفية وعملية جديدة.. كما أنه كانت لهم هموم ومشاكل وتحديات ذاتية وموضوعية مختلفة تماماً عن هموم عصرنا الحاضر، ولا شك بأن هويتهم القيمية العملية التي آمنوا بها، وكانوا يمارسونها – والتي تناسبت مع مستوى وجودهم وعيشهم في الزمان والمكان الماضي- اختلفت كثيراً في اللاحق الزمني، ولم تعد قادرة على الإيفاء بما تتطلبه مستجدات وتغيرات الحياة وتطورات العالم المعاصر.. أي أنها لم تعد تمتلك ربما قوة الدفع والزخم التحريضية المطلوبة التي بات يحتاجها الإنسان المعاصر أكثر من أخيه الذي كان يعيش في الزمن الماضي، والذي يمكن أن تدفعه وتعطيه قوة وطاقة الانطلاق لتحقيق متطلبات وجوده المادية والعملية الكثيرة والمتنوعة والمتعددة.. فنحن نعيش في عصر متشابك ومعقد وشديد التلون والتنوع في كل المجالات.. نتعامل فيه مع مفردات ومصطلحات ووقائع وأحداث ومسميات ورموز وعوالم متغيرة شديدة التعقيد على المستوى المعرفي والرقمي والعلمي.

وهنا من حق الجميع أن يشك ويستفسر عن إمكانية هذه الهوية التاريخية الإسلامية التي تشكلت سابقاً، في أن تكون قادرة – من خلال قواها الدافعة - على إعطاء حامليها والدائرين في فلكها، طاقة التجدد والإبداع والبناء وتمثل تطورات الحياة والعصر، لا بل والحضور المنتج فيهما؟!..

وما يقصد بالهوية هنا، هو هذا الإطار النفسي والفكري العام الذي يعبّر عن وجود الفرد الاجتماعي، وحراكه السياسي العملي.. إنها نتيجة طبيعية للتفاعل الحاصل بين مجموعة من العوامل الفكرية والمعرفية التي تحكم سلوك أعضائه، توجه حركتهم، وتحدد لهم مساراته المختلفة في الحياة، وذلك على مستوى التأهيل الصحيح والواضح للشخصية العامة للفرد (والمجتمع ككل) لتحكم على طبيعة العلاقة الكائنة بين الأنا وبين الآخر، بما تختزنه (هذه الهوية) في داخلها من قيم ولغة وعادات وتقاليد مشتركة، وتعبر عن ذات الجماعة التي تقوم بممارسة تلك المشتركات ضمن وطن واحد. وبذلك تكون الهوية - بالمعنى المذكور أعلاه - مرتبطة بالوعي التاريخي الوطني  والثقافي من أجل أن يكون التاريخ مصدر علمها وثقافتها وانفتاحها وامتدادها إلى ساحات الحياة الإنسانية كلها. وطبيعي جداً أن لا يكون هذا التعريف نهائياً مما يفسح المجال للاختلاف والسجال، لأنه لم يتم الاتفاق بعد - وهذا أمر صعب - على تحديد مفهوم دقيق واضح ونهائي بين الجماعة البشرية، يعرف ويوضح معنى الهوية.

وعلى ضوء ذلك يمكن أن نعتبر الهوية الحضارية – إلى جانب ثوابتها القيمية كالعدل والحرية والمساواة والحق وووالخ - تعبيراً عن الناس، عن إرادتهم، ووعيهم، وطبائعهم وأمزجتهم، وتصوراتهم عن الكون والوجود والحياة في سياق تحديدها لطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة فيما بينهم، ومعايير السلوك ووسائل المشروعية، ونظام القيم واجب الإتباع، أو علاقتهم ببيئتهم، أو بعالم ما فوق الطبيعة.

وحتى نحدد المعنى الذي نقصده من فكرة أن الهوية التاريخية الإسلامية يمكن أن تقبل التحول والتغير والنسبية، للانسجام مع العصر، والتأقلم مع مختلف أبعاده، وأفكاره الإجرائية السياسية وغير السياسية،  فلا بد من أن نميز بين العناصر الثابتة في هذه الهوية التي أوجدها انتماء المجتمعات إلى الدائرة الحضارية والتاريخية الإسلامية. وهي تشتمل على انتماء المسلمين إلى دائرة الإسلام، وإتباعهم للقرآن الكريم، والنبي الكريم محمد(ص)... وما انبثق عن ذلك من قيم العدالة والحرية والمساواة مما لا يستطيع الزمن أن يتدخل في عناصرها ليعدل أو يغير باعتبار أنها يختزن في داخله كل عناصر الثبات، ومقومات الاستمرار والبقاء كأفكار جوهرانية لا أثر للزمن والمكان عليها.

وأما العناصر المتحركة (المتغيرة): فهي تتشكل نتيجة لما تكتسبه المجتمعات الإسلامية من خصائص ومزايا ثقافية بفعل عوامل ذاتية وموضوعية متغيرة من داخل هذه المجتمعات، أو خارجها.. حيث يساهم تفاعلها مع بعضها البعض- بكل ما يحتويه الواقع من عناصر ومعطيات متغيرة ومتحولة – ومع العناصر الثابتة، في إنضاج وتكوين الجانب المتغير(النسبي) من الهوية الثقافية للمسلمين. ويتضمن هذا الجانب مجمل الحلول التي تقدم للمشاكل والتحديات والإشكاليات المختلفة التي تتحرك في الحياة في نطاق زمني معين، بحيث أنها تتجلى في الواقع من خلال ظهور حاجات ومتطلبات بشرية جديدة. وهذا الشيء هو الذي يمكن أن نتحدث فيه عن معنى القديم والجديد، باعتبار أن عنصري الزمان والمكان يتداخلان كلياً في تفاصيله الذاتية والموضوعية.

وطالما أن الأمر كذلك، يمكن أن نقول بوجود جانبين للثقافة الإسلامية، جانب خاص يمثل أداة الهوية الذاتية، والتأكيد الذاتي والموضوعي على عناصر الثبات، وجانب عام تشترك فيه الثقافة مع الآخر في سياق حركة المتغيرات.

من هنا تطرح علينا متطلبات الحياة المتغيرة باستمرار (وبخاصة ظروف العولمة الراهنة) أسئلة ثقافية ملحة، تتعلق بالعلاقة القائمة حالياً، أو التي يجب أن تقوم بينها وبين الهوية الثقافية والحضارية للمجتمعات التي صدمتها تحديات العصر (ومنها العولمة ومجتمعات ما بعد التواصل السوبراني المعلوماتي الفائق السرعة) بتعقيداتها وتشابكاتها المتعددة، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية.. والسؤال الذي يبرز هنا: ما هو تأثير هذه التحولات والمستجدات على الثقافة الإسلامية؟!. وما هو الموقف (الشرعي والديني) للهوية الإسلامية منها؟!.

وهل تمتلك هذه الثقافة التاريخية الأصيلة الوسائل والإمكانيات الخاصة التي تؤهلها للقيام بالتفاعل والانفتاح على باقي الثقافات من موقع الندية والتكافؤ والحوار، وليس من موقع الصراع والاستلاب؟!. وهل صحيح أن الثقافة -التي يسعى العصر الحضاري الراهن إلى ترويجها وتعميمها في العالم كله- ستمحو الخصوصية والهوية الحضارية الخاصة بالثقافة الإسلامية؟!.

أما بالنسبة لما تتميز به مجتمعاتنا من خصوصيات، فيمكن ضبطها في الظواهر التالية:

- وجود مجموعة المعايير والقيم الناجمة عن التصور أو المفهوم الإسلامي للحياة والكون والوجود والإنسان.

- اللغة والثقافة الخاصة بها، وما تفرزه من أنماط فكرية ومعرفية.

- مجموعة العادات والتقاليد والأنماط السلوكية المعبرة عن التوجه الثقافي لهذه المجتمعات.

- أنماط التربية والتنشئة الاجتماعية داخل الأسرة وفي المجتمع.

- أشكال خاصة من الاجتماع التربوي والديني والسياسي.

- مجموعة من السلوكيات والتوجهات والدوافع والحوافز.

في التحليل يمكن القول: نحن نعيش حالياً في ظل عصر جديد ومتنوع في مفاهيمه وأساليبه ومعاملاته، وهو يختلف اختلافاً كبيراً عن العصور السابقة، ونعايش فيه مشكلات وتحديات واقعية شديدة الغنى في كثافتها وألوانها، بحيث أنها أحدثت فراغاً وجودياً هائلاً، وفتحت المجال الواسع لإثارة وطرح مجموعة كبيرة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة النظم السياسية والاقتصادية، وبأنظمة المعنى ومعايير القيم والثقافة التي يمكن أن تقوم في القرن الحادي والعشرين.. والواضح لنا جميعاً هنا أن مفردة "الصراع" عادت لتتحكم (وتسيطر) بقوة من جديد بمختلف الأوضاع الراهنة بمحددات وآليات عمل خارجية جديدة.. أبقت على المضمون العنيف والمتوتر، وغيرت شكل التعامل فقط. 

إن الهوية التاريخية لنا كمسلمين، وبحكم أنها ولدت ونشأت، خلال مراحل زمنية سابقة، لم تكن فيها تطورات ووقائع الحياة سوى في حجمها البسيط العادي، ستعاني كثيراً في انفتاحها على الحياة التي تعقدت وتغيرت وامتدت في الحياة زماناً ومكاناً وحجماً واسعاً... من هنا لا بد لوعينا بتلك الهوية – كوعي لكل ما يرتبط بها من مفردات تاريخية رمزية مادية وغير مادية - من أن يتطور أكثر فأكثر خاصة من خلال شحن قضايانا وذكرياتنا وهويتنا الإسلامية كلها بدلالات ومعطيات واقعية جديدة مستمدة من ظروفنا وأحوالنا الراهنة، لتشعرنا بأهمية وعينا الفعال لحوادث التاريخ التي تبدو كأحد عناوين ومظاهر تلك الهوية التاريخية الإسلامية. وهذا السلوك المنفتح على الواقع والحياة يبقي الذكرى التاريخية(الهوية) حية(على مدى الزمن الطويل) في ضمير ووجدان الأمة، وفي داخل عقلها ومشاعرها الوجدانية. وهذا ما يستدعي - من قبلنا - أن نرفع من وتائر مواجهتنا مع النفس والواقع حتى نصل إلى مرحلة متقدمة من الصدق والمسؤولية في وعينا لرسالتنا ولكل ما حولنا، ومن حولنا، من حركة التطور والتقدم، ومن دون أن نبتعد عن الخطوط الإسلامية الأساسية.

في الواقع إن قيمة الهوية التاريخية التي ينشأ عليها الإنسان في أي موقع من مواقع الحياة تكمن في إعطاء الزخم المعنوي والروحي لحركة الأفراد في المجتمع. أي أن يتحركوا في حياة مجتمعاتهم بكل قوة وفعالية ومسؤولية سواء على مستوى  الواقع الداخلي في إطار التخطيط والعمل والسلوك المنظم المدروس، أو على مستوى الواقع الخارجي في ضرورة الانخراط الفعال في عملية صنع حقيقية وصحيحة للمستقبل الحضاري الإنساني، وإعادة بناء القيم الإنسانية ونظامها العالمي الراهن.

من هنا نحن نريد لهويتنا الإسلامية أن تعطينا الدفع والقوة للانطلاق المنتج والمؤثر نحو الحاضر والمستقبل، خصوصاً وأننا أمة لا تزال تبحث عن دور وموقع عملي لها في هذا العالم الذي تلفه حركة الصراعات ومواقع التحدي في كل حدب وصوب.

وحتى نستجيب لتلك التحديات هناك شرط جوهري معياري لتحقيق ما نسميه بـ"التأقلم أو التكيف" الديني مع تلك التحديات وعلى رأسها قيم العصر الحديثة كالديمقراطية والتعددية الفكرية والدينية في سياقاتنا الثقافية الإسلامية.. هذا الشرط هو العمل من داخل النسق المرجعي والرمزي الخصوصي في صياغة قيم التحرر الفردي والجماعي التي لا يخلو منها أي دين ولا أية ثقافة..

إننا نعتقد أن دراستنا الحضارية لهويتنا وإعادة تركيبها بما يتناسب مع أجواء ومعطيات العصر والحياة المتحركة الحالية - لا بمعنى التخلي عن ثوابتنا وحضارتنا لنعيش عقدة "الجديد" أو "العصر" في كل فكر و سلوك وعمل - يشكل أحد أهم القنوات والآليات الضرورية المطلوب العمل عليها لكي نسير على طريق الإنتاج والعمل، بعد أن نقوم بمعالجة تحدياتنا القديمة والجديدة ومواجهتها وعدم الهروب منها، أو الخضوع لها.

من هنا فإن التأكيد الدائم على ضرورة الإحياء والتمثل الحركي المتجدد لمفردات هويتنا الثقافية الإسلامية، لابد أن ينطلق (عن وعي وإدراك كاملين) من خلال العمل على القيم والمبادئ الرفيعة والعالية التي تختزنها تلك المفردات الذاتية والموضوعية.. فها هي مثلاً ثورة عاشوراء تتجلى – كمعلم وهوية تاريخية أصيلة دائمة التجدد والاخضرار- من خلال كونها ثورة عامة لتحريك الواقع الإسلامي كله ضد الحكم الظالم والفاسد والجائر، ولدرء التخطيط الكافر لعملاء الاستكبار والكفر في داخل الحياة الإسلامية، حتى نقول لكل الأجيال الإسلامية القادمة: هذا هو الإمام الحسين(ع). "وهو هوية ثورية وتغييرية ضد مواقع الفساد والانحراف. وهو سيد شباب أهل الجنة. وهو إمام من أئمة المسلمين، لا يتحرك إلا من خلال الخط الذي رسمه الله. وهو يمثل لنا القدوة والأسوة الحسنة في مسألة الدعوة والحركة والثورة والجهاد".

باحث وكاتب سوري(*) 

اعلى الصفحة