أردوغان والتحديات الصعبة

السنة الثالثة عشر ـ العدد 149 ـ (رجب 1435 هـ) أيار ـ 2014 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تبدو حكومة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وكأنها أمام معادلة صعبة تقوم على الفساد وتداعياته في الداخل والفشل الإقليمي في الخارج، فقد فاقمت تطورات الأزمة السورية وكذلك تطورات الأحداث في مصر عقب سقوط حكم الإخوان المسلمين وصعود نجم عبد الفتاح السيسي الذي تشير كل المعطيات إلى أنه سيكون الرئيس المقبل لمصر، وما قد ينتج عن وصوله إلى الرئاسة من تداعياتها سلبية على العلاقات التركية المصرية بعد أن اتخذ أردوغان موقفاً عدائياً منه ومن حركة الشعب المصري التي انتفضت ضد حكم الرئيس السابق محمد مرسي.

فاقمت هذه التطورات من التحديات أمام أردوغان الذي راهن على وصول حركات الأخوان المسلمين إلى السلطة في الدول العربية على بلورة مشروع إقليمي تركي ببعد إيديولوجي يكون قيادته في تركيا.

خطورة هذه التداعيات أنها تتراكم في وجه أردوغان وحكومته وحزبه (العدالة والتنمية) على شكل قضايا مزمنة قابلة للانفجار خصوصاً في ظل الأسلوب الهجومي لأردوغان الذي بدلاً من أن يقوم بمراجعة لسياسة تركيا سرعان ما يحول كل ما سبق إلى معركة ضد الخصوم في الداخل والخارج، وبسبب هذا الأسلوب الهجومي كثيراً ما يفقد أردوغان أعصابه ويقترب أداوه السياسي من تفجير الوضع الداخلي التركي، وقد بدا هذا الأمر جلياً بعد فوز حزبه في الانتخابات المحلية، ففي خطاب الفوز عقب إعلان نتائج الانتخابات المحلية شن أردوغان هجوماً لاذعاً على خصمه اللدود وحليفه السابق الداعية فتح الله غولن وكذلك زعيم المعارضة التركية المتمثلة برئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، إذ اتهم أردوغان خصومه في المعارضة بالخيانة والتأمر، متخذاً لاحقاً سلسلة خطوات سياسية وقانونية عبر البرلمان لإقصائهم بدلا من مد يد المصالحة لهم وترتيب البيت التركي من الداخل حيث الانقسام الذي يستشري في كل الاتجاهات داخل المجتمع التركي.     

تحديات داخلية صعبة

دون شك، تبدو حكومة أردوغان وكأنها أمام مجموعة ضخمة من التحديات ، لعل أهمها:

1- كيفية التعامل مع تعاظم الجبهة الشعبية المناهضة لحكمه، فهذه الجبهة ومنذ اندلاع انتفاضة تقسيم في اسطنبول وانتقالها إلى العاصمة أنقرة ومن ثم أزمير المعقل التاريخي لحزب الشعب الجمهوري، يحاول أردوغان قمع الحراك الاجتماعي والسياسي وتصويرها، وكأنها تمثل حركة رعاع تتكون من مجموعة من اللصوص والحرامية في حين تعبر الحركة عن مضمون اجتماعي سياسي، رافض لصيغة الحكم الشمولي بعد أن سيطر حزب العدالة والتنمية على الرئاسات الثلاثة (الحكومة والبرلمان والجمهورية) واستغل أغلبيته البرلمانية في فرض سياسيات قسرية على المجتمع ومؤسساته والحرية الشخصية للأفراد وصلت إلى حد حجب وسائل التواصل الاجتماعي كـتويتر واليوتيوب على الرغم من أنها هذه الوسائل أصبحت من معايير الشفافية للدول وتدخل في إطار الحريات العامة للشعوب والمجتمعات والأفراد.

2 – كيفية التعامل مع قضية الفساد وتداعياتها، فهذه القضية لم تهز تركيا فقط، بل هزت أيضاً حزب العدالة والتنمية نفسه، إذ أظهرته كحزب حاضن للفساد بعد أن كان أردوغان يقول طوال الفترة الماضية إن حزبه هو الحزب الوحيد في تركيا الذي ليس فيه فساد، فظهرت صورة أردوغان صورة الرجل الذي يحضن الفساد ويديره ويتستر عليه ويحكم الشعب بعقلية الدكتاتور، ولعل ما فاقم الأزمة، هو أنه بدلاً من أن يقوم أردوغان بمعالجة فضيحة الفساد عبر القضاء فقد حوّل القضية إلى معركة سياسية ضد الخصوم، إذ على خلفية هذه الفضيحة قام بنقل قرابة عشرة آلاف عنصر أمن وشرطة وكذلك مدعون عامون من أماكن عملهم أو حتى فصلهم من العمل، ثم أراد تغيير النظام القضائي في البلاد عبر إصدار تشريعي قانوني يلحق القضاء كهيئة مستقلة بسلطة وزير العدل الذي في النهاية هو موظف في حكومة أردوغان قبل أن تطعن المحكمة الدستورية العليا بالتشريع القانوني وتبطل مفعوله، وهو ما أدخل أردوغان في معركة مع المحكمة الدستورية العليا ورئيسها هاشم كليج الذي يبدو أنه سيكون مرشح المعارضة التركية لانتخابات رئاسة الجمهورية المقررة في العاشر من آب/أغسطس المقبل في مواجهة مع أردوغان على منصب رئيس.

3- ترتيب البيت الداخلي للحكم، فمع دخول تركيا مرحلة الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية، تبدو ثمة أزمة في كيفية ترتيب البيت الداخلي التركي، إذ أن أردوغان يسعى بكل أمكن للوصول إلى قصر تشانقايا الرئاسي حيث يبدو التنافس بينه وبين رفيق دربه الرئيس عبد الله غل على قدم وساق، وفي انتظار حسم الخلافات بين الرجلين بشأن الترشح للانتخابات الرئاسية، ثمة سيناريوهات تتحدث عن إمكانية تكرار تجربة فلاديمير بوتين - ديمترتي ميدفيدف مع أردوغان – عبد الله غل، وإذا لم يحصل مثل هذا السيناريو فالخلافات بين الرجلين مرشحة للتفجر خصوصاً وأنه خارج منصب رئاسة الجمهورية لم يعد بإمكان أردوغان شغل منصب رئيس الوزراء، نظراً لأن القوانين الداخلية لحزب العدالة والتنمية تمنع شغل أي قيادي منصبه لأكثر من ثلاث دورات متتالية. وحتى لو وصل أردوغان إلى منصب رئاسة الجمهورية، فإن ثمة معضلة تتعلق بكيفية تعديل الدستور التركي من أجل إقامة نظام رئاسي قوي على الطريقة الأمريكية أو الفرنسية حيث سبق وأن فشل أردوغان في تمرير هكذا تعديل دستوري عبر البرلمان بعد أن فشلت اللجنة التي شكلها لإنجاز التعديل الدستوري المطلوب حيث تم حل اللجنة لاحقاً.

4- القضية الكردية، فبعد أن أخفقت عملية السلام التي أطلقها الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في آذار العام الماضي بدأت هذه القضية تنذر بالتفجر من جديد حيث طالبت قيادة حزب العمال الكردستاني من الحكومة التركية بضرورة اتخاذ خطوات جدية لحل القضية الكردية سليماً وإلا فإنها في حل من عملية السلام ووقف إطلاق النار من جانب واحد، وقد أظهرت الأعوام الماضية عدم جدية أردوغان في حل هذه القضية واتخاذ خطوات عملية في هذه المجال، إذ أن جل اهتمامه يتركز على كيفية طرح الشعارات وتمرير الوقت ومحاولة التأثير على الحزب الكردستاني للتخلي عن السلاح وحل نفسه دون القيام بخطوات عملية، كما أن أردوغان اعتمد بشكل كبير على القيادة الكردية في إقليم كردستان العراق للضغط على حزب العمال الكردستاني من أجل الاستجابة لشروطه حيث ينطلق إزاء الحل السياسي للقضية الكردية من حساباته السياسية الداخلية المتعلقة بالسلطة.

5- التحدي الذي لا يقل أهمية عن ما سبق، يتعلق بالعامل الاقتصادي والأوضاع المعيشية، فبعد الطفرة الاقتصادية التي حققتها تركيا بفضل الاستثمار الداخلي والخارجي والذي بفضله وصلت تركيا إلى ترتيب 17 عالمياً وحققت نسبة نمو اقتصادي في نهاية عام  2012 تجاوزت 9% تراجعت نسبة النمو هذه في نهاية الماضي إلى حدود 4%، كما أن الاستثمارات المالية التي تدفقت إلى تركيا خلال الفترة الماضية باتت رهينة الأوضاع السياسية التي تقترب من الانفجار، ويكفي هنا أن نذكر أنه على خلفية الموقف من ما حصل في مصر جمدت دولة الإمارات العربية المتحدة وحدها ما يزيد عن 14 مليار دولار من استثماراتها في تركيا، كما أن تداعيات الأزمة السورية أثرت بشكل كبير على الاقتصاد التركي خاصة لجهة الاستيراد والتصدير، إذ أن سوريا كانت الجسر الاقتصادي لتركيا إلى الأردن ودول الخليج ومصر، وبسبب ذلك تراجع حجم الصادرات والاستيراد، زاد حجم الديون الخارجية من 100 مليار دولار عام 2000 إلى 307 مليارات دولار عام 2011، والنقطة الأخطر هي أن هذه الديون هي ديون طويلة الأمد ولم تدخل فترة السداد،كما بلغ حجم الديون الداخلية 190 مليار دولار، وفي حال دخول هذه الديون مرحلة السداد فإن تركيا ستدخل مرحلة صعبة قد يعرضها لمرحلة الانهيار الاقتصاد، بما يؤثر كل ذلك على الحياة المعيشية للمواطن التركي وانهيار قيمة العملة التركية أمام الدولار، بما يعني أن التحدي الاقتصادي سيبرز كتحدي أساسي وخطير أمام حكومة حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة، ولعل هذا ما دفع إلى تراجع كبير في درجة التصنيف الائتماني لتركيا من قبل المؤسسات الاقتصادية العالمية.                                                        

6- كيفية إدارة الأزمة مع الجيش، فعلى الرغم من نجاح أردوغان في تقليص دور الجيش التركي في الحياة العامة للبلاد عبر سلسلة إصلاحات سياسية وقانونية، وإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي التركي ودور المجلس في صنع القرار السياسي للبلاد وإبعاد العناصر العسكرية المناوئة لحكم أردوغان وإدخال عناصر موالية له في قيادات الجيوش التركية، إلا أن أردوغان يعيش هاجس الخوف من قيام الجيش بانقلاب عسكري ضده ، خصوصاً بعد أن وقف الجيش في مصر إلى جانب الثورة الشعبية ضد حكم مرسي، حيث يخشى أردوغان في العمق من تكرار هذا السيناريو في بلاده، وعليه يحاول في الفترة الأخيرة مد اليد إلى المؤسسة العسكرية عبر الإفراج عن عشرات الضباط الذين تم سجنهم بتهمة التحضير لانقلاب ضد حكمه والتورط في قضايا دعم الإرهاب حسب التوصيف الرسمي للحكومة.

تحديات خارجية

بموازاة التحديات الداخلية أعلاه ثمة تحديات كبيرة لا تقل صعوبة في وجه حكومة أردوغان، ولعل من أهم هذه التحديات.

1- الأزمة السورية: إذ أن السياسة التركية وصلت إلى طريق مسدود تجاه الأزمة السورية، بعد راهنت حكومة رجب طيب أردوغان على سقوط سريع للنظام السوري على غرار ما حصل في تونس ومصر وليبيا، وعلى الرغم من أن كل التورط التركي في هذه الأزمة واحتضان المعارضة السورية السياسية والعسكرية وتقديم كافة أشكال الدعم والمساندة للمجموعات المسلحة فإن النظام السوري صمد لأكثر من ثلاث سنوات وهو يتحرك على الأرض كمنتصر، وباتت هذه الأزمة تنعكس على الداخل التركي خصوصاً بعد أن تحولت الحدود السورية – التركية إلى وضع يشبه الحدود الأفغانية – الباكستانية وبات خطر الجماعات المسلحة ينتقل عبر الحدود إلى الداخل التركي ويهدد أمنه، وهنا يحمل الجميع أردوغان المسؤولية الشخصية عن ما جرى.

2- شكل سقوط حكم مرسي ومن خلفه حكم الأخوان المسلمين في مصر ضربة قاتلة للمشروع الإقليمي التركي الذي قام على أساس بعد أيديولوجي أساسه دعم جماعات الإسلام السياسي وتحديداً حركات الأخوان المسلمين والسعي لإيصالها إلى السلطة، بحثاً عن مركزية تركية في المنطقة، وقد أدت تداعيات ما حصل في مصر إلى انكشاف المشروع الإقليمي التركي وصدامه حتى مع دول الخليج ولاسيما السعودية والإمارات على خلفية اختلاف الموقف من مشروع الأخوان المسلمين في مصر والمنطقة.

3- الصدام على المستوى الإقليمي مع دول المنطقة ولاسيما سورية وإيران وروسيا والعراق، والسبب الأساس لهذا الصدام، هو تخلي أنقرة عن سياسة صفر المشاكل مع هذه الدول والعودة إلى القيام بالدور الوظيفي في الإستراتيجية الغربية تجاه دول المنطقة، وعلى هذا الأساس نشرت تركيا  الدروع الصاروخية الأطلسية وكذلك قواعد باتريوت على أراضيها وسعت إلى جلب الحلف الأطلسي للانخراط في تهديد أمن دول الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى توتر علاقات تركيا مع هذه الدول. والتحدي هنا يتعلق بكيفية أقامة تركيا علاقات إيجابية مع هذه الدول في الوقت الذي تنتهج فيه سياسة تصب لصالح السياسة الأمريكية ضد المنطقة. 

4- على الرغم من كل الدور الذي تؤديه تركيا في المنظومة الأطلسية – الغربية فإن علاقات تركيا مع الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة تكتنفها العديد من المشكلات، ولعل السبب الرئيسي لذلك هو اختلاف حسابات الجانبين ومحاولة تركيا الذهاب خارج الدور المرسوم لها غربياً بحثاً عن دور مركزي لها في الشرق الأوسط، وقد تجلى هذا الأمر بشكل جلي تجاه الأزمة السورية، ففي الوقت الذي انتهجت الولايات المتحدة سياسة الحرب الناعمة ضد النظام السوري وتراكم العناصر المعرفية والسياسية والدبلوماسية لإسقاطه، لجأت تركيا إلى دعم الجماعات الإرهابية المسلحة بما في ذلك تلك التي صنفتها واشنطن في خانة الإرهاب ولاسيما تنظيم جبهة النصرة، ولعل هذا ما أدى إلى نشوب أزمة صامتة بين أنقرة وواشنطن التي تنسق مع روسيا من أجل حل سياسي للأزمة السورية فيما تستعجل أنقرة إسقاط النظام السوري حتى لو من خلال دعم التنظيمات المسلحة المرتبطة بتنظيم القاعدة بغية إسقاط النظام السوري، وهو ما أدى إلى أزمة عدم ثقة بين الجانبين تجلت في توقف التشاور الذي كان مستمراً بين أردوغان وأوباما خلال الفترة الماضية.

5- أزمة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي: يعرف الجميع أن تركيا ومنذ أكثر من نصف قرن سعت بكل ما تملك من جهود للانضمام إلى العضوية الأوروبية، ولكن اصطدم هذا السعي على الدوام بالرفض الأوروبي لأسباب أوروبية اقتصادية وسياسية وحضارية. اليوم وفي ظل حكومة أردوغان وتوجهاتها ومشكلاتها الكثيرة تبدو أن تركيا وكأنها خسرت هذا الخيار بشكل نهائي خاصة في ظل اللهجة العثمانية لأردوغان، بما يعني أن الخيار التركي الأوروبي اقترب من عدمه. 

أردوغان أسير الفساد والفشل الإقليمي

تفاقم الفساد الداخلي والفشل الإقليمي، حقيقتان تلخصان الوضع الصعب لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان هذه الأيام.

في الواقع، على الرغم من فوز حزب أردوغان في الانتخابات المحلية، فإن الأخير بات أسيراً لتداعيات فضيحة الفساد التي هزت حكومته وحزبه ومصداقيته الأخلاقية والشخصية، وقد جعلته هذه الفضيحة في حالة أقرب إلى الجنون، إذ يبدو وكأنه يقود انقلاباً ضد الدولة والمجتمع والقضاء والصحافة من أجل إبعاد سمة الفساد عنه مع أن الأدلة باتت واضحة، ويبدو أننا سنشهد المزيد من التسجيلات في ظل الحديث عن أن أنصار خصمه القوي فتح الله غولن كانوا يتنصتون على جميع مكالمات أردوغان، ولعل تسريب العديد من التسجيلات الصوتية الخاصة بأردوغان وكبار قادة حزبه، دفع بأردوغان إلى حظر العديد من وسائل التواصل الاجتماعي كتويتر واليوتيوب على الرغم من رفض القضاء ذلك، ولعل الهدف الأساسي لأردوغان من ذلك هو الحد من نشر هذه التسجيلات بغية منع التداعيات السلبية عليه عشية استحقاق الانتخابات الرئاسية والمحلية، وعليه فإن أردوغان سيعمل كل ما هو ممكن مستفيداً من أغلبيته البرلمانية لتحصين نفسه، وما إصدار قانون الاستخبارات الذي يعطي الحق المطلق لأجهزة الاستخبارات في التنصت على هواتف الأشخاص والمؤسسات على الرغم من الاعتراض الكبير عليه إلا من باب التحصين القانوني والسياسي، نظراً لأن كثيرين في تركيا يتوقعون أن يطال القضاء أردوغان إذا ما أصبح الأخير خارج الحصانة السياسية التي توفرها له الحكم بسبب شبهات الفساد التي تحوم حوله، وعليه فإن أردوغان سيعمل بكل ما أمكن للبقاء في السلطة من أجل تأمين هذه الحصانة.

الأمر الثاني أن أردوغان الذي أطلق جموح أحلامه وطموحاته الإمبراطورية على وقع ما سمي بثورات الربيع العربي بات أسيراً لفشل سياسته الإقليمية، فمن سياسته تجاه سورية إلى مصر والعراق وحتى إيران وروسيا واليونان وأرمينيا... باتت سياسته هذه رمزاً للفشل والتوتر والسلبية. ويعود هذا الفشل إلى سببين أساسيين.

الأول: هو حضور البعد الغربي بشكل قوي في السياسة التركية الخارجية انطلاقاً من الارتباط التركي العضوي بالغرب حيث العضوية في الحلف الأطلسي والدوران في فلك السياسة الأمريكية.

الثاني: البعد الإيديولوجي المصبوغ بالعثمانية الجديدة في السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، وهو بعد له ذكريات مريرة في حياة شعوب المنطقة من جهة، ومن جهة ثانية عمق من البعد الطائفي في المنطقة وخلق المزيد من الانقسام والشرخ. وفي جميع الأحوال، لا يمكن النظر إلى فضيحة الفساد وتداعياتها دون الفشل الإقليمي الذي هو الوجه الأخر والمكمل لسياسة أردوغان التي وضعت تركيا في مأزق كبير.  

النتيجة الطبيعية لهذه السياسية، هي أن تركيا باتت تغلي وتقترب من الانفجار، فلسان حال المعارضة على الرغم من ضعفها وتفككها بات يطالب أردوغان بالاستقالة، والجميع يحمله مسؤولية ما وصل إليه الوضع في البلاد من توتر وقلق وخوف واضطرب. ولكن اللافت أن أردوغان يرد على كل دعوة له بمراجعة سياسته بالمزيد من التصعيد وشن حرب فعلية على المعارضة والخصوم، مستنداً في ذلك إلى البرلمان وتشريع الحرب الممنهجة ضد الخصوم، فخلال فترة قصيرة أصدر البرلمان التركي عشرات القوانين الجديدة بشأن الانترنت والقضاء وحرية الإعلام والتظاهر والاستخبارات.. وغير ذلك من القوانين التي هدفت بالدرجة إلى وضع المزيد من الضوابط على حركة المجتمع ومطالبته التخلص من حكومة أردوغان تعبيراً عن انتفاضة تقسيم المتقدة تحت الرماد.

في الواقع، تبدو تركيا وكأنها تدخل في مرحلة حرب داخلية طويلة المدى، ولعل الفضل في كل ذلك يعود إلى أردوغان بالدرجة الأولى، فالرجل الذي تحدث طويلاً عن العدالة والنزاهة ومحاربة الفساد بات رمزاً للفساد ولإقصاء المعارضة والقضاء على التنوع والالتفاف على حقوق القوميات والأقليات والمذاهب، والرجل الذي تحدث طويلاً عن العمق الإسلامي والإخاء الإسلامي والجوار.. انقلب على كل هذه الشعارات وتحول إلى عامل لضرب الاستقرار في دول المنطقة وتقسيمها طائفيا، انطلاقا من أوهام سياسية وأبعاد إيديولوجية وضعتا تركيا في مآزق داخلية وخارجية مركبة، ووضعت البلاد أمام تحديات صعبة ومتفاقمة، باتت معها وضع البلاد وكأنه يقترب من نقطة اللاعودة.

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة