الغرب، كمعنى وإشكالية واقعة..

السنة الثالثة عشر ـ العدد 148 ـ ( جمادى الثانية 1435 هـ) نيسان ـ 2014 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

ما هو الغرب؟! ومما يتشكل، بالمعنى المعرفي والعملي؟! هل هو مجرد حالة ذهنية افتراضية؟! أم أنه واقع سياسي حقيقي تشكل تاريخياً بالاستناد لجملة عوامل ومكونات فكرية واجتماعية تداخلت فيها الجغرافية والمصالح الاقتصادية والسياسية؟!..

ثم ما هو موقع ودور العامل الديني في صياغة وتشكل الحضارة الغربية الحديثة؟! وهل له موقع محوري أم ثانوي في تنظيم العلاقات المجتمعية السياسية والعملية في الغرب؟! وهل صحيح أن هذا الغرب – الذي كرس منذ عدة قرون، مبدأ العلمنة وفصل الدين عن الدولة، ومبايعة العقل البشري كمصدر وحيد للمعرفة- لم يعد حالياً دينياً في تعاملاته وعلاقاته مع باقي الثقافات والحضارات القائمة ومنها ثقافتنا الإسلامية؟!.. بل يتعاطى معها من منظور المصالح المتبادلة الخاضعة لمنطق السوق التداولي، وحسابات المنفعة؟!.. 

في الواقع نريد منذ البداية أن نحدد ما نقصده بالغرب، وهو هنا الغرب بالمعنى الجغرافي (وليس بالمعنى "السياسي- الثقافي" فقط المتداول حالياً في مختلف الأوساط الدولية) الذي يتحرك في الواقع العالمي - في مجمل علاقاته الدولية - كأي نظام سياسي آخر بما يحقق تطلعاته ويضمن مصالحه ومصالح شعوبه وضمان تحقق واستقرار وازدهار مجتمعاته وبلدانه.

والملاحظ هنا أن الكثير من المؤرخين والمفكرين أعطوا لمفهوم الغرب دلالة فكرية ثقافية ووصفة مفهومية نقلته من المعنى الجغرافي إلى معنى آخر جديد طغت عليه الرؤية الثقافية التي باتت تنظر إلى الغرب من منظور كونه واقعاً مفاهيمياً غير مرتبط بمنطقة جغرافية معينة كما كان عليه الحال في السابق. وبهذه النظرة أصبحت دولة مثل اليابان – الواقعة في أقصى الشرق - من الدول الغربية القوية والمهيمنة على العالم اقتصادياً باعتبارها إحدى دول مجموعة الثمانية الصناعية الكبرى الأقوى في العالم والتي تشكل مع كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وكندا مجموعة السبعة الكبار (مضافاً إليهم لاحقاً روسيا) الذين يتحكمون باقتصاد العالم ومصيره ومستقبله. وهذا توجُّه فكري وحالة توسيع أيديولوجي وليس بعداً جغرافياً، يرتكز على ما تقوم به تلك الإدارات السياسية الغربية من فرض إرادتها ومعاييرها ونظمها الحضارية على الآخر..

أما الغرب الحضاري والتنويري (غرب فلسفة الأنوار العقلية) الذي أبدع وأنتج وأضاف (ولا يزال يبدع ويضيف) أشياء وإبداعات إنسانية جديدة (فكرية وعلمية وتقنية وصناعية هائلة وو..الخ) فهو ليس موضع نقاشنا وانتقادنا هنا، على الرغم من وجود كثير من الملاحظات الفكرية النقدية على طبيعة الرؤى والتصورات المفاهيمية التي يعتقدها ويعتنقها حول طبيعة قناعاته ورؤيته وفلسفته في الوجود والحياة والإنسان.

ويبدو لنا حالياً أن النظرة للغرب باعتباره فضاءً سياسياً وسياقاً حضارياً هي النظرة القائمة لدى قطاعات واسعة من نخبنا ومفكرينا وأفراد مجتمعاتنا.. وبهذا المعنى يصبح الغرب صفة تطلق على مجمل هذا المناخ "الحضاري - الثقافي" المتشكل تاريخياً في أوروبا بعد حدوث تحولات وصراعات سياسية واجتماعية عنيفة عاصفة (من قبيل: حروب أهلية ونزاعات طائفية مذهبية - مواجهات شرسة بين ممثلي الدين والعلماء على خلفية العنف الكنسي العاري الذي مورس بحق هؤلاء العلماء ممن وضعوا قوانين ونواميس علمية واكتشفوا نظريات وسنن حياتية وكونية مخالفة لرؤى ومقدسات الكنيسة والإكليروس المسيحي- تطورات علمية واكتشافات قانونية) أفضت بمجملها إلى خلق تيارات الحداثة والعلمنة والتنوير الأوروبي التي أقرت وكرست المبادئ التالية:

- حرية الفرد المطلقة وعدم وجود أية سلطة مهيمنة عليه سوى سلطته الذاتية الضميرية الخاصة به. وبذلك تم إلغاء دور وتأثير الطقوسية الدينية المسيحية على الأفراد والمجتمعات التي كانت تدور في فلك رجالات الدين ممن كانوا يمتلكون زمام المبادرة والحكم بالتكاتف والتعاضد مع السلطات الزمنية التي كانت قائمة في ذلك الوقت.

- واعتمدت مبدأ (وعقيدة) العلمنة كثقافة ومنهج عملي حيادي تجاه الأديان والطوائف..

- وأبعدت الدين عن ساحة الفعل الوجودي الخارجية، وأرجعته إلى وضعه الطبيعي السابق كحالة من حالات الإيمان الفردي الذاتي الذي لا علاقة له بمجريات الواقع ومتغيرات الحياة من حوله..

وبمعنى آخر فقد أقام الغرب وجوده الرمزي والمفاهيمي على الفلسفة العقلية والعلمية المرتكزة على العقل والتجربة والحس والرؤية العيانية.. وهي نظرة كونية وفلسفة حياتية عن الوجود والإنسان مختلفة ومغايرة للنظرة الكونية الإسلامية التي كرست مبدأ الخلافة والأمانة.

والغرب كدول وتيارات وواقع "جغرافي- سياسي" ليس واحداً متوحداً إلا بالجهة الجغرافية التي تعيش عليها حالياً معظم المجتمعات الغربية المتدينة مسيحياً، وهي الجهة الواقعة إلى الغرب من مركز الحضارة الإسلامية (مهبط الأديان والرسالات: فلسطين-شبه الجزيرة العربية)، كما أن الطبائع بين مختلف التيارات والأنظمة الفكرية المسيطرة هناك متفاوتة ومتغيرة، والأمزجة مختلفة ومتقلبة.. فما يمكن أن تشاهده وتتفاعل إيجاباً أو سلباً معه في انجلترا مثلاً قد يبدو مختلفاً عن فرنسا، وهما بدورهما مختلفان عن ألمانيا وإيطاليا.. فنحن – إذاً - نلاحظ وجود حالة تنوع في طبيعة النظرة للأديان والثقافات والقوميات.. أي أنه يوجد أكثر من تيار ثقافي وديني مؤثر في العالم الغربي فيما يخص العلاقة مع الإسلام، ومع الحضارة العربية الإسلامية:

- فهناك التيار الديني المتطرف (المشابه – في السياق العام - للتيارات الأصولية المتشددة والمتعصبة في اجتماعنا الديني الإسلامي) الذي لا يزال ينظر إلى الإسلام بنفس النظرة القروسطية القديمة التي كانت تعتبر الإسلام ديناً غير سماوي، وأن محمداً(ص) ليس نبياً، وأن عقائده التي جاء بها عبثية ولا معنى لها لأنها تنكر الحقائق المسيحية . والواضح أن هذا التيار ضعف في الغرب الحديث، ولم يعد له أتباع كثيرون، بسبب رسوخ قيم الحداثة العقلية التي أفضت إليها قيم ومبادئ عصر النهضة الأوروبي.

طبعاً لا يمكننا غض النظر هنا عن التحريض شبه الدائم الذي تقوم به وتغذيه باستمرار نخب سياسية وثقافية ومراكز قوى سياسية ودينية صهيونية متطرفة منتشرة في العالم الغربي ضد الإسلام والمسلمين. وقد ساهم هذا المناخ السلبي -المتولد تاريخياً  والموجود أصلاً في داخل البيئة الثقافية الغربية تجاه العرب والمسلمين- في إبقاء حالة الشك وعدم الثقة بين أتباع الديانتين (المسيحية والإسلام)، بما يخدم مصالح القوى السابقة في إذكاء عوامل التنابذ والخلاف بينهما، ويحقق مكاسبها الخاصة في استدامة الصورة النمطية العنيفة للمسلم في الذهنية الغربية عموماً.

- وهناك أيضاً التيار العلماني المسيطر حالياً على واقع وحياة وسياسات المجتمعات الغربية عموماً، والمتحرر تقريباً من نمطية وأوهام التفكير الديني المسيحي واليهودي القديم (الذي لا يعكس حقائق بمقدار ما يحرف وقائع ويختلق أحداثاً، ويقرر قيماً ومبادئ)..

وهذا التيار الحداثي الغربي ليس مهتماً – بصورة عامة - بأقوال وأفكار وثقافة المتدينين والأديان عموماً، بل إنه ينظر بحيادية تامة إلى الأديان كلها، ويقر مبدأ الدولة وضرورة الخضوع لسلطتها ونظامها العام الذي لا يميز بين أتباع دين وآخر.. فالجميع متساوون أمام القانون الوضعي، ولكلٍ حقه في التعبد، وحريته التعبير وفي الولاء والالتزام بأي طقس ديني.. فالدساتير التي توصل إليها الغرب الحديث علمانية تكفل الحريات الخاصة والعامة لكافة مواطنيها وحتى للمقيمين على أراضيها.

أما الجذر الأساسي الذي ارتكز عليه الغرب في نشأته ونموه، فهو الجذر المغروس في عمق الحضارة اليونانية القديمة – حضارة العقل - التي شكلت التربة والوعاء الحضاري الأهم الذي استقت منه أوروبا (والغرب عموماً) ازدهارها وتطورها وأسس تقدمها اللاحق بعد مرورها بأدوار وتطورات ثقافية وسياسية ومجتمعية أهلية شديدة التعقيد والتنوع.. كما كان للمسيحية تأثير كبير أيضاً في ذلك أيضاً، خصوصاًَ بعد تبنيها واحتضانها من قبل الحضارة الرومانية.

ومن المعروف تاريخياً أن الإمبراطورية الرومانية قامت على أجزاء واسعة من القارة الأوروبية وكان سقوطها في القرن الخامس الميلادي مدخلاً وبوابة لكثير من التغيرات والتحولات في القارة كان من أبرزها ما حدث إبان عصر الهجرات حيث عانت أوروبا كثيراً في ظل صعوبة الحياة والمعيشة في العصور المظلمة.

وقد كان للحضارة العربية الإسلامية - التي شعّت في الأندلس - دورٌ حيويٌّ مهمٌّ في انبثاق النهضة الأوروبية التي تجلت من خلال ذلك الدور المميز للفكر الإسلامي في الأندلس – لاسيما عبر فكر ابن رشد - ليس فقط في إيصال ولكن في إعادة قراءة الفلسفة الإغريقية، على عكس ما تحاول المصادر الغربية إشاعته والترويج له من أن الأسطورة المؤسسة للغرب تشكلت فقط على مرجعية "يونانية – رومانية"، ومن دون وجود أي دور أو فضل للمصادر الشرقية أو غير المسيحية الأخرى (كالمصرية، الهندية, الإسلامية, ...) على الحضارة الأوروبية .

وبعد دخول عصر النهضة الأوروبي، وفترة الممالك الجديدة، وبداية تحرر المجتمعات من ربقة الحكم الديني الكنسي الظالم، بدأت عصور الاستكشاف، وانطلقت الاختراعات العلمية، وازداد الاهتمام بالعلوم الإنسانية والتطبيقية. وكانت البرتغال أول من بدأ بالاستكشاف في القرن الخامس عشر الميلادي وتبعتها بعد ذلك إسبانيا، ومن ثم جاءت بعدهما فرنسا والمملكة المتحدة وهولندا.. حيث لاحظنا كيف قامت كل من هذه الدول باستعمار الشعوب الفقيرة والاستيلاء على أراضيها في قارات آسيا وأفريقيا والأمريكيتين حيث (تحركت الهيمنة الاستعمارية الغربية انطلاقاً من مزاعم وأوهام ثلاثة هي، الدين (المسيحية)، والنقاء العرقي، والتفوق العرقي. وقد استخدمت هذه المسوِّغات لتبرير غزو مختلف العوالم الأرضية، وإخضاعها والسيطرة عليه).

وبعد انتهاء عصر الاكتشافات الجغرافية، وتدفق المواد الخام من أراضي المستعمرات، أصبح الشغل الشاغل للغرب متركزاً حول ضرورة نشر وبث أفكار الديمقراطية وكيفية تطبيقها. فانطلقت الشعوب الأوروبية للمناداة بالحرية والمساواة الفردية، وكان أبرز حدث توج تلك الأفكار والتوجهات هو الثورة الفرنسية التي خلقت مناخاً ثقافياً وسياسياً جديداً في أوروبا، وأشاعت أفكار الثورة على الإقطاعيين أو رجال الدين في مختلف مناطق القارة. كما وأدى نشوء القوميات - بمعناها الحديث - إلى تعزيز الصراع الدائر بين القوى العظمى في أوروبا على دول العالم الحديث. وكان من أشهر تلك الصراعات ما حدث عند استلام نابليون بونابرت السلطة في فرنسا، حيث أنشأ ما عرف باسم الإمبراطورية الفرنسية التي سرعان ما انهارت. وبعد سقوط نابليون هدأت القارة الأوروبية نسبياً، وبدأ في تلك الفترة انهيار الممالك ونظم الحكم القديمة.

وبعد ذلك – تحديداً في القرن الثامن عشر الميلادي - بدأت الانطلاقة الفاعلة والمنتجة للتنوير والحداثة الغربية، وانطلقت الثورة الصناعية في المملكة المتحدة (بريطانيا العظمى)، وكان من أهم نتائجها تحويل الاقتصاد الأوروبي تدريجياً من الاعتماد الكلي على الزراعة والمنتجات الزراعية فقط إلى الاعتماد على الصناعة أيضاً، بعد اختراع الآلة البخارية، والمحرك، واكتشاف الفحم الحجري الذي كان عصب الصناعة آنذاك.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة كانت أوروبا مقسمة إلى كتلتين ومنقسمة على ذاتها إلى حلفين سياسيين واقتصاديين رئيسيين هما، الحلف الشرقي (الكتلة الشيوعية) المتركزة في أوروبا الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق، والحلف الغربي (حلف الأطلسي) الرأسمالي، المتركز في غرب القارة الأوروبية وبعض أجزائها الجنوبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. وبعده حدثت جملة تحولات قادت إلى سقوط الكتلة الشيوعية بعد تهدم سور برلين وإعادة توحيد ألمانيا وتوحد أوروبا اقتصادياً وسياسياً تقريباً.

أخيراً نؤكد بأن الغرب هو نظير لنا في عالمنا المعاصر، سبق حضارتنا بأشواط كثيرة جداً تقنياً وعلمياً وتنموياً، وحضارة هذا الغرب تختزن بطبيعة الحال في داخلها عناصر وجوانب إيجابية كثيرة لا حصر لها، فهي تمثل خلاصة الحضارات البشرية (تراكم الخبرات والمعارف والتطورات ومختلف أنواع النتاجات العلمية والتقنية الهائلة المتسارعة والمستمرة في تسارعها) التي تعاقبت على وجه الأرض. وحققت وحدها الإنجازات الحضارية والعلمية والتقنية منذ القرن الثامن عشر, مثل الآلة البخارية والكمبيوتر والتقدم الطبي والديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية.

ولكن المشكلة أن ما رافق تطور الغرب الهائل لم يكن في كثير من نواحيه إيجابياً ونافعاً للبشر ككل خصوصاً في ظل هيمنة العقيدة المركزية التي لا تزال تتحكم بهذا الغرب وهي العقيدة النفعية البراغماتية الطاغية هناك على حساب القيم والإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان السامية التي يتغنى بها الغرب على المنابر، ويتناساها قصداً في الممارسات والسلوكيات والعلاقات.

لقد زادت حالة الفوضى البيئية والسياسية والاجتماعية والثقافية والمعنوية، وارتفعت معدلات العنف الدموي، وتصاعد حجم التفاوت الهائل في مستوى الحياة بين أبناء الشعوب الأوروبية وبين أبناء الشعوب الأخرى، ومنها شعوبنا العربية والإسلامية.. هذا كله مما يسجل كوصمة عار على جبين هذا الغرب الغني في مادته وصناعته وتطوره العلمي اللامحدود، ولكن الفقير في معاني وتطلعات ومصائر وغايات الحياة الإنسانية التي ارتضاها الخالق للناس على مستوى أن يكون هذا الإنسان هو الممثل اللائق بوعيه وعقله وتكامله المعنوي ليكون ممثلاً لله على الأرض كخليفة مستأمن على الحجر والشجر والبشر والعلاقات والطموحات والإنتاج والفعل والمصائر.

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة