اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الثالثة عشر ـ العدد 148 ـ ( جمادى الثانية 1435 هـ) نيسان ـ 2014 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

من تحت هذا الركام

قلت مهلاً أيها الحرف الناهضُ من واحات الشرق.. دعني أسكب فيك دمي قبل أن تمتطي نثير الشمس.. دعني أجدلُ ضفائرَها مع ما تحمل من معانٍ تشذي أرجاءَ الرسائلِ التي تترجم السعادة، والغبطةَ يوم أقرأ كتبَ المبدعين في وطنٍ دخل التاريخَ لكي لا يخرج منه. أجل: إن أمتنا تشكل ذاكرةً كاملةً متكاملةً للتاريخ الإنساني بأبعاده.. كيف لا وألقُ الماضي تقبُسُ منه النجومُ والشموسُ وترتديه الأقمارُ ثيابَ عز وفخار، أدخلُ دونَ استئذانٍ إلى معسكرات الحروف مدججاً لأفجر معانيها بشحناتِ الروحِ الناضجةِ على فوهاتِ براكينها التي تقذفُ في فضاء الجسد والروح والعقل سحبَ الحيرةِ والذهولِ لأنني أدركُ سلفاً عمقَ الصلة ما بين العقل، والجسد والروح أو ما يصل بينهم على الأقل.

دخلت الساحة متهيباً خائفاً ومذعوراً خشية ألا أستطيع العوم في هذا الضجيج المزمن في داخلنا.. كان سلاحي اليتيم قلمي ولا سواه، وبعضُ الأوراق الصفراء القديمة، وشمعةٌ تلفظُ أنفاسها الأخيرة على خجل وحياء، فمن أين سيكون أولُ الكلام والبداية؟.. واللسانُ تتزاحم عليه الكلمةُ، وتتسابقُ لتندلقَ باتجاه العُرف والدلالة، بحثت طويلاً عن أولِ حرف يرتبط بغيره ليجرَّ سرباً من الكلمات اللواتي يمتلكن الروح والمعنى.‏

وانطلقت العربةُ الأولى بلا حصان، وبلا طريق، وبلا أشجار تستظلُّ بها التعابيرُ الساخنةُ التي نعلقها على جدار النفس بلا مشاجب ضوئية شفافة. نرى معاني الكلمات من خلف اللوحة التي أعياني رسمُها فتكورتْ فوقها قطعةٌ من جليدٍ تبحث عن الذات الضائعة، والمبعثرةِ على أشلاء الزمن الهارب من وجه الحق.

هذا زمنٌ فقَدَ ذاتَهُ وهويته، وها هو دميةٌ بيد الرعب، والإرهاب، والغطرسة والعولمة، والضياع. هذا الزمنُ المبرمجُ لمن استطاع أن يمتطيه برقاً وراحلة، سبوقاً.. إنني أسوق كلماتي ولا أدري كيف أرتبها، ولا أنظم سياقها أمام ما نرى، ونسمع، وندهش حتى يسأل الإنسان والفرد نفسه أين نحن من هذا كله؟. وبزخم مائج يأتي الجديدُ بلا مدى مقيد، أو فواصلَ مرسومةٍ، وفي القاطرةِ الأخيرةِ يزدحم العالمُ الآخرُ ومعهُ الفقرُ، والجوعُ كالشتيمة، والهزائمُ، والفراغُ الداخلي القاتلُ والمشوه، وسلاحُهُ خطابُ التنظير، والأيديولوجيا والبحث عن إبرة في كومة قش.

تتسعُ المسافاتُ، ويصعُبُ اللحاقُ في هذه الزحمةِ المجنونة.. لقد اهتز وكاد أن يتلاشى ما بنته الأمةُ منذ مئات السنين.. ونحن السبب، لأننا نعلق أخطاءنا وهفواتنا على مشاجب الآخرين والمؤامرة.

إنني أقف أمام هذه اللوحة التي لم أعد قادراً على تمييز ألوانها وأشكالها، وأطيافها، فتبدو هلاميةً رجراجةً وضبابيةً يخترقها السرابُ، والعتمةُ، والمجهول، وعلينا أن نبحث عن مسارب النجاة. ربما نستطيع تقليصَ المسافةِ والزمنِ بيننا وبينهم.. وربما نخترعُ دروعاً تقينا من أنياب المستقبل ونواجذ الشرِّ الدائم، والقادمِ إلينا لابتلاعنا تماماً، ولجعلِ شخصيتنا كسلعة تعرض على أرصفة المارة للعرض عند الطلب.‏

وربما على الشواطئ المهجورة تنهشنا نوارسُ العصر المتوحش، أو سنكون حقلَ تجاربٍ لكلِّ ما يخطر على ذهن أصحابِ العولمة التي ارتجفت منها الدولُ الرأسمالية ذاتُها. لعل الأحداثَ الجسامَ التي تتالت علينا، وتوالت تباعاً قد أحدثت شروخاً أفقيةً وعمودية، وأغرقتنا بالتفكير المرتبك دون ضوابط، أو نظامٍ، فننفعل في الحدثِ انفعالاً غوغائياً، ويبتعدُ الحلُّ، ونضيعُ من جديد في المتاهة نبحث هنا وهناك دون فائدة تذكر، وهنا نسأل: أين دور مفكرينا؟ وأين دور علمائنا ومثقفينا وأدبائنا؟ وكل من له صلة بحركة التاريخ، والتطور.‏

قد نكون على تخوم الزمن إن لم نكن خارجَهُ تماماً لأنه يتجاوز الذين ينامون في محطاتِ انطلاقه، فتكونُ العربةُ الأخيرةُ للمتباكين على الأطلال، أو للباحثين عن أوهام لم تكن موجودة أصلاً.. فيعبثُ بها هاجسُ الأوهام، والظنون، والريبة، والشك بالنفس والذات والآخر وبكلِّ شيء.. أما آن لنا أن نستيقظ من هذا السبات المزمن الذي يعشعش في داخلنا ويتسلق على هاماتنا كنباتات متطفلةٍ أو يسيطر على تفكيرنا؟ أما آن لنا أن ننطلق إلى الفضاءات الأوسع والأرحب لنعيدَ بناءنا من جديد ونواصلَ البناءَ وتبادلَ الرأي والتنسيقَ بين أجزاء الأمة المتناصرة وما يتناسبُ مع مرحلية الزمن، ومتطلباته، ومقتضياتِ المصالح التي تهم كل بلد، أو قُطْر من خلال تبادلِ واحترامِ الرأي والرأي الآخر، والحوارِ الأخوي الهادفِ إلى تحقيقِ الحدِّ الأدنى لوجودنا.

إني أكتبُ من وجعٍ دفين. يوقظني الحرفُ الناهضُ من ركامِ السكون في زمنِ الصمتِ المرعب والساكنِ على ضفةِ الدموع.‏

من تحت هذا الركام يجب أن ننهض وتنتصب قاماتُنا انتصابَ سيوفِ الحق التي لا تنبو ولا خيلٌ تكبو.. ويجب أن نخرج من هذا الصخب، لنعود إلى ما كنا عليه في خندق واحد وفي صف واحد نرفد البشرية بما نحمله من البشائر، أو التي يحملها الصباح على أجنحته المشمسة ورياشِ أنواره التي لا تطفئها العاصفة، وتظل ترفرفُ في الفضاء لتبشر بالخير للإنسان.. والإنسانِ الذي يبني الإنسانَ الحقيقي.. لأن بناءه يعني، وبكل تأكيد بناء الوطن الذي يفيء تحت سقفه الجميع، إنه الصدر الذي يتسع للجميع مهما كانت مشارب مواطنيه وانتماءاتهم وأطيافهم حين يعلو صوت القانون.‏

اعلى الصفحة