على خلفية صعودهم وهبوطهم السريع خلال الفترة الماضية
مقاربة نقدية في نظرية (مشروع) التنمية عند الإسلاميين؟!

السنة الثالثة عشر ـ العدد 147 ـ ( جمادى الاولى 1435 هـ) آذار ـ 2014 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بدأ التيار الإسلامي ينكص ويتراجع عن كثير من خياراته والتزاماته ومعاييره في موضوعة الدولة والحكم، حيث أنه وبعد أن شهدناه يتجهز ويعد العدة لاستلام دفة الحكم لأول مرة في العديد من الدول العربية – وقد فعلها في مصر- التي حدثت فيها ثورات شعبية سميت بثورات "الربيع العربي".

تراجعت شعبيته، وانعدمت خياراته لصالح نمو وعي مجتمعي جديد يرفض مصادرة الحريات العامة، بل ويدعو لتكريس الحريات الفردية المدنية، ويحاول بناء دستور عصري جديد متطور يبني المستقبل الحداثي بدلاً من العودة للماضي المجيد، ويفعل دور ومسؤولية الفرد في عملية صنع القرار وبناء بلده وتطوير مجتمعه، كما حدث في تونس ومصر حيث تراجعت خيارات الحركتين الإسلاميتين المصرية والتونسية.

ومع الانطلاق الجدي لتحقيق الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.. بدأت تطرح مع هذا الاستعداد الكثير من الأسئلة القلقة –التي يثيرها كثير من المثقفين والنخب الفكرية المتنوعة الاتجاهات والمشارب- تجاه ما يمكن أن يقوم به هذا التيار الجماهيري العريض من أعمال وممارسات على صعيد الحكم وتدبر شؤون الحكم والسلطة، وفن إدارة الدولة ومستقبل تلك البلدان، وحول مدى إمكانية نجاحه في تحقيق التنمية المنشودة اجتماعياً واقتصادياً، وخدمة الناس من خلال إلغاء مناخات وأجواء ومجمل مكونات ومفردات الاستبداد السياسي السابق، والعمل على تأسيس واقع سياسي اجتماعي جديد أساسه الحريات العامة، ومكافحة البطالة، والقضاء على الفساد، والرهان على مبادئ الحكم الديموقراطي في وصول تلك المجتمعات إلى بر الأمان السياسي والازدهار المجتمعي..

وأما الآن وقد باتت أفكار ونظريات وخطابات وطروحات الإسلاميين حول مفهوم الحكم والسياسة وكيفية إدارة دفة الحكم، ومقولاتهم حول الحريات العامة والتنمية السياسية والاقتصادية على محك التجربة والاختبار الواقعي، لابد من الانتظار قليلاً حتى نتبين كيف سيقوم هؤلاء القادة الجدد بتنفيذ رؤيتهم لمنظومة عمل المؤسسات والدولة تحت تجربة الحكم العملية..

ولكن يبقى التساؤل مشروعاً: هل سينجح الإسلاميون –بعد حالة الفشل الأولى- في اختبار القيادة والحكم بعد طول إقصاء وتغييب وتهميش مقصود وممنهج، كما نجحوا نسبياً في قيادة دفة المعارضة على مدى عقود بالرغم من تعرضهم لكثير من حملات القمع والاضطهاد والاستبعاد السياسي؟! وهل سيقدمون تجربة مميزة بالتعاون والتشارك (وليس التفرد) مع باقي أفرقاء وفصائل وتيارات السياسة في بلدانهم؟.. ثم بالأساس ما هي طبيعة هذا المشروع الإسلامي لتحقيق هذه الأغراض والغايات النبيلة القاضية بتأمين مصالح الناس الاقتصادية والإنسانية عموماً؟

من المعروف تاريخياً أن مشروع النهوض الفكري والتنموي من وجهة النظر الإسلامية كان يشتمل على ركيزتين رئيسيتين ذواتا أثرين، سلبي وإيجابي:

- الأولى (الأثر السلبي): بناء طرح نظري ومعرفي ومعياري متماسك.. أي تحقيق كتلة نقدية كلامية ذات امتدادات نظرية معمقة ومهمة لمجمل نظريات ومشاريع النهوض التنموية التي كانت سائدة.. من خلال العمل على تقديم أطروحة نقدية لكل مناهج وأطر التنمية السياسية والاقتصادية التي كانت مهيمنة وسائدة سابقاً كالشيوعية والرأسمالية، ومن دار في فلكهما، والسعي الفكري لإسقاطها من ذهنية المجتمع والناس في عالمنا العربي والإسلامي باعتبار أنها لا تلائم طبيعة الوعي الإسلامي، وأنه قد تمت تجربتها، وبالتالي أثبت الواقع العملي في كثير من مجتمعات العالم التي أخذت بها وتم خوض تجارب عملية لكلتا النظريتين –ومنها مجتمعاتنا العربية التي طبقت بصورة سلبية هذين النمطين من التنمية الفوقية القسرية-  فشل تلك الأفكار والطروحات الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية العملية، بحيث أنها أدت في المحصلة النهائية إلى حالة الخراب والدمار، وما يشبه حالة الحطام السياسي والاقتصادي والاجتماعي..

وبتعبير آخر، قادت التطبيقات النخبوية القسرية الفوقية (أي كانت بلا رصيد مجتمعي واحتواء شعبي طوعي) لأفكار التنمية الاشتراكية والرأسمالية إلى شكل من أشكال الحداثة القشرية الكسيحة المشوهة أفرزت بدورها واقعاً اجتماعياً وسياسياً هشاً ومفككاً نجم عن حالة رثة من الاقتصاد الريعي "المافياوي" الذي هيمنت وتهيمن عليه مراكز قوى شبه نظامية تتبنى وتنفذ أسوأ تطبيقات الرأسمالية من حيث الاستثمار الإدخاري والبذخي والطفيلي، سحقت معه كافة طبقات المجتمع الذي بات مقسماً من هذه الناحية إلى طبقتين، طبقة قليلة العدد، ولكنها مترفة طفيلية، وتملك نسبة كبيرة من ثروات الأمة، وطبقة أخرى تمثل غالبية الشعوب والجماهير، لا تملك سوى قوت يومها إلى حد كبير، أي أن مواردها وثرواتها لا تتمتع بها إطلاقاً في ظل سيطرة واقع سياسي ضاغط بقوة لصالح تلك الطبقة، يسهل أعمالها، ويوفر لها مناخات النجاح القانونية والاقتصادية والإدارية.

- الثانية (الأثر الإيجابي): بعد نقد الأطروحتين الماركسية والرأسمالية، حاول الإسلاميون عموماً وضع تصور فلسفي وأطروحة فكرية معرفية محكمة ورصينة للبديل المقترح إسلامياً والمرتكز على مفاهيم وطروحات الإسلام، أي على رؤية إسلامية عامة لمشروع النهوض الشامل للأمة ككل سياسياً وفكرياً واجتماعياً، وليس فقط لدولة من هنا وأخرى من هناك.. وهذا ثابت في مناهج أفكار وعمل كل تلك الحركات الإسلامية شيعية كانت أم سنية.

 

وقد كان هذا النهج الفكري واضحاً عند الكثير من منظري هذا التيار الإسلامي، حيث يمكن لنا أن نلحظ تمييز أتباع هذا الخط في مجمل خطاباتهم الفكرية المدرسية بين ما هو منهج للتنمية الاقتصادية، وبين ما هو إطار لهذه التنمية. ويرى واحد من أبرز هؤلاء المنظرين من ذوي الخبرة والتماسك الفكري والمعرفي الصلب والمنهجية العلمية الدقيقة الناقدة لمناهج الغرب الاقتصادية، وأحد أبرز منظري ومتفلسفي هذا المنهج التأصيلي الإسلامي وهو الشهيد السيد محمد باقر الصدر (الذي لا تزال معطيات الفكر الإسلامي التأصيلي بمختلف مدارسه ونخبه وخطاباته المعاصرة تنهل من موارده، وتجتر أفكاره ونظرياته وإبداعاته) أن ما تمت تجربته حتى الآن على هذا الصعيد في عالمنا العربي والإسلامي لم يكن إلا محاولات حثيثة وجادة ولكنها غير موفقة لاستعارة واستلهام أفكار وأطر للتنمية الاجتماعية والاقتصادية من خارج السياق الحضاري والفلسفي والتاريخي للأمة الإسلامية، سبق أن عرفتها شعوب غربية مختلفة في المضمون الروحي والمفاهيمي..

ويرى الصدر أن التبعية للغرب - التي كانت سمة هذه الأطر المستعارة غير الموفقة عملياً- مرت بثلاث مراحل:

1. المرحلة الأولى-التبعية السياسية:

وهي مرحلة حكم الاستعمار المباشر للعالم العربي والإسلامي، وهيمنته الكلية على العوالم الداخلية والخارجية لتلك البلدان، وتحكمه في سير وجهتها السياسية والاقتصادية، وتدخله المباشر في توجيه دفة الحكم والسياسة والاقتصاد ووالخ.

2. المرحلة الثانية - مرحلة التبعية الاقتصادية:

وهي المرحلة التي رافقت قيام ونشوء كثير من الكيانات السياسية المستقلة أو (شبه المستقلة!) في بلداننا العربية والإسلامية بحداثتها القشرية، ولكنها تركت المجال للاقتصاد الأوروبي – بمختلف مفاهيمه وطروحاته المفاهيمية- أن يستثمر موارد ومقدرات ومواد خام تلك البلاد، ويتحكم في ثرواتها وطاقاتها البشرية والطبيعية الهائلة البكر، ويوجه اقتصادها الداخلي بحسب مصالحه، ومنافعه الخاصة، محتكراً مواردها الأولية، وكثيراً من مرافق الحياة الاقتصادية فيها، مالئاً فراغاتها برؤوس أموال أجنبية بحجة تمرين وتدريب أبناء هذه البلدان المتخلفة على تحمل أعباء التطوير الاقتصادي... بينما كانت الحقيقة المرة هي أنه كان مهتماً فقط بتلك البلدان من جهتين، أولاً تأمين موارده الخام من تلك البلدان الغنية، وثانياً، تحويل تلك البلدان إلى سوق واسع لبيع منتجاته بعد إعادة تصنيع تلك المواد والمواد الخام، أي بيعها لنفس تلك الدول كمواد مصنعة وسلع ومنتوجات.

3. المرحلة الثالثة-مرحلة التبعية في المنهج:

وقد مارستها تجارب عديدة في العالم العربي والإسلامي حاولت أن تستقل سياسياً، وتتخلص نهائياً من سيطرة الاقتصاد الأوروبي بالاعتماد على قدراتها وإمكانيتها الذاتية، ولكنها لم تستطع أن تخرج في فهمها لطبيعة المشكلة التي يجسدها تخلفها الاقتصادي عن إطار الفهم الأوروبي لها، فظلت أسيرة المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي في بناء اقتصاده، الذي أضحى لا يضاهى. والسبب في هذه التبعية للغرب يكمن في انعدام وجود التربة العلمية والبنية العلمية التقنية والتكنولوجية المتينة القوية في داخل البلدان العربية والإسلامية عموماً، وعدم وجود فضاء ثقافي ومعرفي قادر على توليد أسس حقيقية للبحث العلمي باعتباره هو علة التطور والتقدم في أي بلد، يمكن أن يمكنه من بناء قدراتها وتطوير معارفه على أسس قاعدية علمية متينة.

ويبدو أن السيد الصدر لم يتوقف عند المرحلتين الأولى والثانية من مراحل تبعية ما يسمى بـ"الاقتصاد الإسلامي" وتجاربه للاقتصاد الأوروبي، لأنهما كانتا مرحلتين قسريتين، وتجسدان النفوذ المباشر للاستعمار الغربي على المنطقة، ولكنه توقف طويلاً أمام المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التبعية المنهجية، لأنها تميزت بمحاولة جديدة للتخطيط والتنمية المستقلة، ولكنها -بالرغم من ذلك- عجزت عن تحقيق أهدافها وتطلعاتها.. ويعود سبب الفشل –بحسب الصدر- إلى أن تجربة النهوض الاقتصادي الأوروبي ليست تجربة حيادية مطلقة السداد والصحة أو وصفة طبية جاهزة لعلاج المريض وقابلة للتطبيق في كل زمان ومكان وعلى أي مجتمع وإنسان.. لأنها بالذات تعتبر تجربة خاصة لها سياقها الحضاري، وهي تجربة الإنسان الأوروبي المتصلة بظروفه وخصائصه الروحية والفكرية والاجتماعية، وهي أيضاً جزء من فلسفته ورؤيته وطبيعة نظرته الكونية في العلاقة مع الكون والحياة والمجتمع والثروة وغيرها.. وقد استطاعت لهذه الأسباب أن تحقق نجاحها المذهل، وتؤتي ثمارها ونتائجها على هذا النحو الذي نشهده حتى الآن.

ويرى الشهيد الصدر أيضاً أن فشل تجارب التنمية المستندة إلى التجارب الأوروبية في عالمنا العربي والإسلامي يعود أيضاً إلى علاقة التناقض والصراع بين الأمة الإسلامية والاستعمار الغربي بما يجعل كل شكل من أشكال التبعية لهذا الاستعمار مصدراً لحساسية الأمة وعدم استجابتها.. وبديهي أن أي مشروع للتنمية لا يحظى بالحماس والاستجابة على صعيد الأمة مآله إلى الفشل الحتمي مهما تلون، ومهما أخذ من أشكال وأطر محلية الإطار غربية المضمون.

إن حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي واضح ومكين ومقبول -كما يقول الشهيد الصدر- ليست مجرد حاجة إلى إطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب، لكي يمكن أن توضع التنمية ضمن هذا الإطار أو ذاك بمجرد تبني الدولة له والتزامها به. بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف أن تؤدي دورها المطلوب الا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع ان يدمج الأمة ضمنه وقامت على أساس يتفاعل معها.. فحركة الأمة كلها شرط أساسي لإنجاح أي تنمية وأي معركة شاملة ضد التخلف، لأن حركتها تعبير عن نموها ونمو إرادتها وانطلاق مواهبها الداخلية.. فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للأمة يجب أن يسيرا في خط واحد.

ونلاحظ هنا أن الشهيد الصدر يعتبر التنمية الاقتصادية معركة حقيقية وهو إذ يلتقي في هذا الاعتبار مع الأدبيات القومية والاشتراكية في نظرتها إلى مشروع التنمية كما قدمتها التجارب التي شهدتها المنطقة العربية والإسلامية على أيدي التيارات القومية والاشتراكية، فإنه لا شك يختلف مع هذه التيارات في أنها خاضت معركة التنمية للاستقلال الاقتصادي عن الغرب ومصالحه بمنهج الغرب نفسه. وهو يرى أن المعركة لا تتجزأ، وأن خوض المعركة في مجال التنمية والاستقلال يتطلب ثورة على المنهج نفسه باشتقاق منهج للتنمية يخاطب مكونات الأمة نفسها ويجسد عقيدتها وثقافتها.

ويرى الشهيد الصدر أن من بين تجارب التنمية المتعددة والمختلفة في هذه المنطقة لا توجد تجربة واضحة توفرت لها عناصر الاستجابة والحماس الضرورين لخوض المعركة ضد التخلف. لأن أياً من هذه التجارب لم تشتمل على منهج تنموي مستقل، وظلت التبعية -في المنهج على الأقل- سمة كل هذه التجارب، وهذا من الحقائق التي لا يقتصر انطباقها على حالة الشعوب الإسلامية.

لذلك فان منهج الشهيد الصدر للبديل الإسلامي لمشروع النهوض والتنمية اتسم بطابع السجال الشامل مع الفكر الغربي ومناهجه وأطره. ورأى أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تنتزع استقلالها الاقتصادي ونموذجها المستقل للتنمية، أو أن تنتصر في معركتها ضد التخلف والتخلف الاقتصادي إلا من خلال تعبئة فكرية وروحية ونفسية شاملة تستطيع الأمة من خلالها أن تواجه كل أشكال الضغط والمصادرة التي مارسها وسوف يمارسها الاقتصاد الرأسمالي الغربي وأي اقتصاد قوي آخر ضد أية محاولة لإنتاج تنمية إسلامية مزدهرة ومستقلة..

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة