اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنةالثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

الضفدع والماء الساخن والسياسة..!

في دفاتر الحكايا القديمة نقرأ أن شيخاً بعث إليه بعض السلاطين بأبنائهم ليعدهم لخلافتهم في السيطرة على رقاب العباد والتحكم بمصائرهم. فجمعهم هذا الشيخ وذهب بهم إلى الغابة، وهناك وبعد أن خُـيّـل إليهم أنه سوف يتحدث عن تاريخ الشعوب وعن المعارك الفاصلة في عمر الأرض, وجدوه وقد وضع كتبه جانباً ثم قال: اليوم سوف أعلمكم كيف تطبخون الضفدع حياً. نظر الأمراء إلى بعضهم ليتأكدوا من أنهم سمعوا الهذيان نفسه.. وعندما عادوا إليه بأبصارهم التي بدأت تشكك في العمر الافتراضي لعقل هذا المتأرجح بين الموت والموت.. كان يتابع كلامه وكأن شيئاً لم يكن: لنرَ من منكم لديه بعض الحلول؟.. ترددت الكلمة بين جدران أدمغتهم استغراباً.. قليلاً أذهلتهم غرابة السؤال.. لكن أحدهم رد بعفوية قائلاً: نطبخه في إناء فيه ماء يغلي!! بكل هذه البساطة!!! ردد الشيخ في تهكم.. وما الذي سوف يغريه بالبقاء في إناء لا يوجد به إلا ماء.. ويغلي أيضاً.. ترى لو كنت مكانه هل كنت ترغب في البقاء؟؟!! سكن الجمع الأميري.. وأحس الجميع بسحابة من الغباء تظللهم.. أما العجوز.. وبعد أن حطم أسوار المقام السلطاني في نفوس صغار التيجان، وبعد أن زرع في قرارة ذاتهم أنهم بحضرة من هو أعلم منهم بكثير، هنا قال.. لا.. بل نقش قاعدته الخبيثة في قلوبهم: لو وضعنا الضفدع في الماء الساخن لقفز منه فوراً.. مهما كانت المغريات.. هو حب البقاء، ولو وضعناه في ماء دافئ لبقي قليلاً ثم قفز خارجاً.. طلباً للغذاء، لكن لو وضعناه في الماء الدافئ فوق النار الهادئة ووضعنا في الماء بعض الطعام بطريقة تجعل الحصول عليه صعباً ولكن ليس مستحيلاً فإن الضفدع سيبقى في الإناء حتى يموت مغلياً!!!.. لماذا لا يقفز والماء يغلي ؟؟! قال الشيخ سائلاً نفسه.. لأن ردة فعله التي كان يتميز بها قد تم ترويضها بالماء الدافئ الذي زادت سخونته تدريجياً، حتى أصبحت ردة الفعل تلك خيطاً من دخان لا يعلم أحد أين ذهب.

ثم أكمل الشيخ رافعاً صوته: هكذا أيتها العقول الفارغة تحكم الأمم.. هكذا توضع الأغلال في أعناق الشعوب.. تلك التي لا طاقة لكم بمواجهتها.. ولا قدرة لكم على تحمل غضبتها.. أشغلوها بالبحث عن طعامها بيدٍ.. وباليد الأخرى حافظوا على استمرار اتقاد النار الهادئة تحتها في ازديادٍ محسوب.. احذروا من أن تزيدوا حدة النار فجأة.. إلا بعد أن تروا أطرافها قد تمددت وأصبحت غير قادرة على اتخاذ قرار قفزتها.. ولا يغيبنّ عن بالكم استمرار وجود الطعام ولكن بالقدر الضروري.. فقط لإشغالها عن التفكير في ما تحت الإناء.

ثم أخذ الشيخ في التحرك أمامهم واضعاً يديه خلف ظهره وهو يقول: هناك عقولٌ لا تستطيع التفكير في أكثر من أمر واحدٍ في ذات الآن.. أشغلوها بأمرها ذاك. وهناك عقولٌ حُبست في محيط جسدها.. لا تفكر إلا في إشباع رغباته.. اجعلوا تلك الرغبات أفقاً لا نهاية له.. ثم توقف الشيخ ووجه نظراته إليهم.. حادة.. قوية.. نفذت إلى أعماقهم مثل الخوف.. وقال: ولكن الخطر ورعب الخطر.. في عقولٍ تتعب في مرادها التواريخ.. عقولٍ ترى من خلال الأعمال مستقبل النوايا.. وتقرأ الخطى جيداً فتعرف المصير.. عقولٍ ترفض مبدأ الإناء من أساسه.. وتعرف كل الحيل.. عقولٍ تأبى أن تعيش في غير الرؤوس.. همومها أكبر من أن تحملها أمة.. وطموحاتها أعلى منزلةً من نجمة.. وعزائمها لا يفنيها حتى الموت إذ هي تنزرع في كل من عرفهم وآمن بما آمنوا به.

إن واجهتكم مثل هذه العقول.. فقد استعصت على من كانوا قبلكم.. نصيحتى إليكم.. أعطوهم ما يطلبوكم.. ولن يطلبوا غير حقهم.. فإن لم تفعلوا فسوف يعلون ثم لا يعطونكم ما تطلبون..

هذا في دفاتر الذكريات.. وهذا ما يضجُّ به الوجدُ.. لكن هل هناك اليوم بعضٌ من هذه العقول؟!.. لا أعتقد.. لأنها إن وُجِدَتْ فهي الآن إعلانٌ على شاهدة القبرِ.. وبعضُ ذكرى لمن حملوا جنسية العم سام كي لا يركنوا إلى الإناءِ الذي سيحيلَهم إلى مجرَّد أجسادٍ ممسوحةِ المعالم، وأيادي بلا بصمات، وأرواحٍ تبحثُ عن ملاذها ولقمة عيش أبنائها هرباً من الإناء الصغير وارتماءً بالقِدْرِ الذي أعدَّهُ البيتُ الأبيضُ والذي يزدادُ فيه الطعام والملاذ والنارُ تغلي بمقدار يجعل هذه العقول تنضج على النار الهادئة كي تصبحَ لينةً وسائغةً وسهلة الاندثار..

اللهم أجِرنا من العقول الفارغة التي تحكمنا، ومن الحكماء الذين يديرون شؤون الحكام ويعدِّون أبناءهم ليحكمونا.. اللهم خلِّصنا من الحكم بالوراثة.. ونجنا من مفاعيل الاستنساخ التي لا تنجح إلا في بلادنا ومع حكَّامنا وسلالاتهم التي لا تبور.. آمين رب العالمين.

اعلى الصفحة