أسلحة الدمار الشامل من منظور فقهي(4)

السنةالثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: الدكتور علي ناصر(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لا شك أن هذا البحث حيوي ولاسيما في ظل الاتفاق النووي الجديد بين إيران والدول الست، الذي حافظت إيران من خلاله أيضاً على اقتصادها، واستقرارها، وقوتها، وسيادتها، واستقلالها، ونوويتها، على الساحة الدولية بعد مرور أكثر من عقدين على نجاح الثورة الإسلامية فيها، على الرغم من الحصار السياسي، والعقوبات الاقتصادية لها، من قبل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفاؤها من الدول العربية، ولاسيما المملكة العربية السعودية.

وفي ذلك انتصار للدبلوماسية الإيرانية، التي جلبت اعترافاً رسمياً من هذه الدول، بحق إيران في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وعملت على فك الحصار الاقتصادي جزئياً، وعلى تحرير تدريجي لأموالها الموجودة في البنوك الغربية، وعلى الاعتراف بها كدولة نووية، مقابل تخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم من 20% إلى 5% الكافية لتحقيق أهدافها السلمية، مع الالتفات إلى أن إيران حصلت على القدرة الإنتاجية النووية الكمية والنوعية المستقلة على أراضيها، وفق القانون الدولي، ورغم أنف أعدائها.

وما لا شك فيه أن الأصل في الإسلام هو الرحمة الإلهية للبشر، فالإسلام يريد سعادة البشر، ويسعى إلى فرض السلام عليهم واستصلاحهم، ولا يسعى إلى التنكيل بهم، على سبيل التشفي والانتقام. ولا يزال الحديث الجدلي قائماً حول موقف الإسلام من صناعة الأسلحة النووية واقتنائها، وحول شرعية استخدامها في الحروب والمعارك، ولكن لم نجد فيها بحثاً وافياً إلا نادراً. ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى عدم استخدام هذه الأسلحة في البلدان الإسلامية، بل إلى عدم وصول هذه البلدان إلى تقنيّة هذه الأسلحة في السنوات الخالية، أو إلى أن الموضوع حساس وخطير إلى درجة لم يتجرأ بعض أهل العلم على البحث فيه. لكن على الرغم من ذلك لم يكن من الصحيح إغفال هذه المسألة، وذلك لضرورة إعطاء وجهة نظر إسلامية تجيب على تساؤلات الباحثين، والسياسيين، وعامة الناس، وتواكب العصر.

البند الأول– جواز إنتاج أسلحة الدمار الشامل – السُّنَّة نموذجاً

لقد أكدت السنة الشريفة مفاد الآيات القرآنية، فالمؤمن يدافع عن قيمه كما يدافع عن نفسه، وعرضه، وماله، كما في قول الرسول الأكرم(ص): "الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه"(1). ولما كان علو الإسلام لا يتحقق بدون الأخذ بأسباب القوة بحسب كل زمان ومكان، وجب على المسلمين تحقيق عزتهم عبر الأخذ بأسباب القوة، ومنها إنتاج هذه الأسلحة، لأن أكثر الأسلحة قوةً، وفتكاً، وتدميراً، وإرهاباً، هي أسلحة الدمار الشامل، وبالتالي فإن من يمتلكها يُرعب أعداءه ويحقق النصر المعنوي عليهم، ويحدِّد سقف المعركة الممكنة، إن لم يكن للطرف الآخر قدرة على الردع. فيكون السعي لتحصيل تكنولوجيا إنتاج أسلحة الدمار الشامل، ولاسيما النووية منها، وصنعها، أمراً جائزاً شرعاً إلا ما خرج منه بدليل.

أضف إلى ذلك ما ورد عن الإمام علي (ع)، الذي كان حزيناً لما آل إليه وضع المسلمين، فقام بواجبه كإمامٍ لهذه الأمة، وولي لأمور المسلمين، فأكثر تأليبهم، أي تحريضهم، وإغراءهم بقتال الأعداء، وتأنيبهم، أي أشد اللوم، ولكنهم ضعفوا، وفتروا، على الرغم من أن ممالكهم تزوى، أي تقبض. فطلب منهم ألا يتثاقلوا، ولا يقروا بالخسف، أي أن لا يعترفوا بالضيم، ويصبروا له، وأن لا يبوءوا بالذل، قائلاً: "ألا ترون إلى أطرافكم قد انتُقِصت، وإلى أمصارِكم قد افتُتِحت، وإلى ممالِكِكُم تَزوى، وإلى بلادكم تُغزى! انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوِّكم، ولا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف، وتبوءوا بالذل، ويكون نصيبكم الأخسّ، وأن أخا الحرب الأرق، ومن نام لم يُنَمْ عنه، والسلام"(2).

ومنطوق جملة "ومن نام لم يُنَمْ عنه"، أن المؤمن المجاهد ينبغي له أن لا ينام أثناء الحرب، فلا بد من مجموعات تحرس المجموعات التي تستريح أثناء الحرب، وفي أرض المعركة. أما مفهوم هذه الجملة، في كل زمان، فهو أن المؤمنين المجاهدين، لا بد لهم من اليقظة الدائمة على مستوى تحصيل معلومات عن خطط العدو، وأسلحته، كمّاً، ونوعاً، بل لا بد من تحصيل أنواع أفضل من أسلحة العدو، تتفوق عليها، وكميةً أكبر، كي يتمكن المجاهدون من الاستمرار في المعركة، وتحقيق النصر. ففي عصرنا الحاضر، لا معنى لليقظة من دون العمل على تحصيل أسباب القوة، التي تردع العدو، أو تُلحق به الهزيمة في حال قرَّر شنَّ هجومٍ على بلاد المسلمين، وهذا يعني أن العدو إذا امتلك أسلحة دمار شامل فلا بد من امتلاك المسلمين لهذه الأسلحة، كي يتحقق توازن الرُّعب، وإلا وقع المسلمون فريسة الأعداء المتوحشين، الذين لا يراعون قانوناً دولياً، ولا إنسانياً، حين ينوون غزو بلادنا، طمعاً بخيراتنا، وأرضنا، وعرضنا، وأموالنا.  

ولا بد لنا في هذا المجال من الاستفادة من أقوال علماء المسلمين، فقد لاحظ بعض الفقهاء دخول هذه القضايا المستجدّة فأجازوا استخدامها في الحرب المُحِقَّة، بل جعلوا ذلك من الواجبات المشمولة لدليل لزوم إعداد القوّة، كما لاحظوا هذا التطّور في آلات الحرب في مباحثهم في السبق والرماية، حيث عمَّموا ذلك إلى السبق والرماية بمختلف الوسائل الحربية؛ لأنهم فهموا هذا الباب أنه مما يتصل بالإعداد والاستعداد للحروب.

ويرى السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم(3) أن القيام بالتجارب النووية، وصنع أسلحة الدمار الشامل أمر جائز، وأن الإضرار بالبيئة أمر نسبي، ولكنه يؤكد على القدرة على حفظه والتحكم به:       

1- "نفس الصنع لا يحرم، خاصة مع امتلاك الآخرين لذلك. نعم لا بد من التوثق التام والدقيق بأن لا يقع السلاح بأيدي أنظمة متساهلة أو دكتاتورية تستبيح حرمات الآخرين، ويمثل ذلك عقبة رئيسية أمام الصنع. ولا بد من قوانين صارمة في هذا المجال، والتوثق التام من ضمان عدم استخدام السلاح - ولو لاحقاً – في غير الضرورة القصوى المشروعة. 

2- الضرر بالبيئة تختلف درجاته، وهو لا يقتصر على التجارب النووية، ولا بد في كل الحالات من الموازنة وملاحظة الأولويات"(4).

ويُجَوِّز الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي(5) إنتاج أسلحة الدمار الشامل، لتتكافأ قوتنا مع قوة الأعداء، قائلاً: "يجوز صنع أسلحة الدمار الشامل واقتناؤها عملاً بالآية القرآنية ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ..﴾(6)، كما يجب أن ينهض العالم الإسلامي ليقول إن على المسلمين إعداد القوة في هذا المجال لتتكافأ قوتنا مع قوة الأعداء، فـ"إسرائيل" تتفنن في صنع، واقتناء، هذه الأسلحة بكافة أنواعها"(7). ويؤيد تصريحه الشفهي هذا بتصريح خطي آخر، حيث يميِّز بين عنف المظلوم عندما يضطر إليه لاستعادة حقه من الظالم، أو الدفاع عن نفسه، فهو عنف مشروع ومبرَّر عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ..﴾(8)، وبين الإرهاب الذي تتم ممارسته ضد الأبرياء والآمنين(9). ويعطي مثالاً من فقه الجهاد، وهو أنه في حالة وَطَأَ الأعداء دار الإسلام، وأقاموا فيها أو في جزء منها على وجه الغصب والعدوان، فمن المتفق عليه عند علماء المسلمين أنه يجب على المسلمين في هذه الحالة التصدي لهم، والنهوض لصدِّ عُدوانهم بأي سبيل ممكن، قائلاً: "لا يجوز للمسلمين - حكاماً ومحكومين - إقرارهم على ما قد تلبسوا به من الاغتصاب لحقوق عينية ثابتة، بأي وجه من الوجوه. ولا مناص للمسلمين من العمل على ردع العُدوان واستعادة الأرض المغتصبة إلى أصحابها بكلِّ السُّبُلِ الممكنة"(10). ولا شك أن مصطلح "بكلِّ السُّبُلِ الممكنة" يشمل أساليب المواجهة، والأسلحة المستعملة في التصدي للعدو المعتدي، وبالتالي فهو يشمل الأسلحة غير التقليدية، ومنها أسلحة الدمار الشامل.       

البند الثاني– وجوب إنتاج أسلحة الدمار الشامل – الدليل العقلي نموذجاً

إذا سلَّمنا بأن إنتاج أسلحة الدمار الشامل هو من أبرز مصادق الإعداد للقوة في عصرنا الراهن، يكون إنتاجُها أهمَّ مصداق لمفهوم الإعداد للقوة الذي أمرنا الله تعالى به في محكم كتابه الكريم، فيكون الدليل كالآتي:

- القضية الصغرى: إنتاج أسلحة الدمار الشامل مقدمة ضرورية لواجب الإعداد والأخذ بأسباب القوة.

- القضية الكبرى: مقدمة الواجب واجبة عقلاً.

- النتيجة: إنتاج أسلحة الدمار الشامل واجب للإعداد والأخذ بأسباب القوة.

ويمكن صياغة الدليل العقلي بطريقة أخرى، فهو الذي يوجب إنتاج أسلحة الدمار الشامل كمقدمة لدفع الضرر الذي قد ينتج عن مهاجمة البلاد والشعوب بأسلحة الدمار الشامل، فالعقل يحكم بوجوب دفع الضرر كمقدمة وجودية لوجوب الإعداد للقوة.

وبعد أن بيَّنَّا مفهوم الدليل العقلي وحجيته، لا بد لنا من بيان بعض المسائل التي تدخل في صلب الدليل العقلي المركب من قضيتين ونتيجة، والذي سنعتمده في البرهنة على جواز بل على وجوب صنع أسلحة الدمار الشامل في عصرنا الراهن، ولاسيما بعد إنتاج دول أخرى لهذه الأسلحة، وفي ظل عالم لا يفهم إلا بالقوة، عالم تسوده شريعة الغاب، فيقهر فيه القوي الضعيف، والغني الفقير. فتكون المعادلة كالآتي:

- القضية الصغرى: إنتاج أسلحة الدمار الشامل مقدمة وجودية لتحقيق الدفع.

- القضية الكبرى: العقل يحكم بوجوب دفع الضرر.

- النتيجة: إنتاج أسلحة الدمار الشامل واجب لدفع الضرر

البند الثالث– حرمة استخدام أسلحة الدمار الشامل– القرآن والسنة نموذجاً

لا شك في أن الإسلام يأمر بالحفاظ على حياة الأبرياء، وعلى البيئة، ما أمكن، حتى في حالة الحرب. وبناءً عليه يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها أن استخدام أسلحة الدمار الشامل حرام، لوجوه:

البند الأول- الكتاب:

لدى دراسة الأحكام الفقهية المتعلقة بالحروب، نجد أن إهلاك الحرث والنسل حرام، ودليله قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾(11). فظاهر الآية حرمة إهلاك الحرث والنسل، أي ما يصدق عليه عرفاً إهلاك الحياة الإنسانية، والحيوانية، والنباتية، بحيث تكون مساحة الإهلاك واسعة. وإذا كان في عصر نزول الآية مصداق بارز لإهلاك الحرث والنسل، كحرق حصون المشركين وبيوتهم بالنار، أو إغراقها بالماء، أو أن يجعلوا في مائهم الدم، والعذرة، أو إلقاء السم في مياههم، أو تخريب ديارهم وهدمها، أو نصب المنجنيق عليهم، أو إلقاء الحيَّات والعقارب عليهم، أو قطع شجرهم، وإفساد زرعهم، أو قطع الماء عنهم، فييبس زرعهم، ويموتون جوعاً، وعطشاً، فإنه بلا شك لن يكون حجمه أكبر من حجم الإهلاك الموجود في أسلحة الدمار الشامل في عصرنا الحالي، فاستخدام هذه الأسلحة من أبرز مصادق إهلاك الحرث والنسل فيكون حراماً. وهذا الوجه لا يختص بالأسلحة المدمرة للجمادات، بل يشمل الأسلحة المدمرة لخصوص الإنسان، والنبات، والحيوان، حتى لو ظلّت البيوت والجمادات على حالها؛ لصدق عنوان الإهلاك عليها جميعاً.

البند الثاني– السُّنَّة:

أولاً-أن هناك فئة ممن لا يجوز استهدافهم في الحرب من الكافرين:

ونقصد بذلك النساء، والأطفال، والشيوخ، فلا يجوز استهداف مطلق ما هو مدني غير مشارك في الحرب، سواء كان إنساناً، أم أموالاً، وعليه فاستخدام أسلحة الدمار الشامل سوف يؤدي إلى قتل المدنيين، وتدمير أموال مدينة يحرم استهدافها؛ فيكون هذا الاستخدام حراماً تبعاً لذلك. والدليل على ذلك روايات تُحرِّم استعمال أسلحة الدمار الشامل، ومنها ما ورد في وسائل الشيعة في باب أنه لا يجوز أن يقتل من أهل الحرب المرأة، ولا المقعد، ولا الأعمى، ولا الشيخ الفاني، ولا المجنون، ولا الولدان، إلا أن يقاتلوا. ولا تؤخذ منهم الجزية:

- "عن محمد بن الحسن، بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (ع) أن النبي (ص) قال: "اقتلوا المشركين، واستحيوا(12) شيوخهم، وصبيانهم"(13).

- "عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن حفص بن غياث، أنه سأل أبا عبد الله (ع) عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن ورفعت عنهن؟ قال: فقال: "لأن رسول الله (ص) نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن، فإن قاتلت أيضاً فأمسك عنها ما أمكنك، ولم تخف خللاً، فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان في دار الإسلام أولى، ولو امتنعت أن تؤدي الجزية، لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رُفعت الجزية عنها، ولو امتنع الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد، وحلت دماؤهم وقتلهم، لأن قتل الرجال مباح في دار الشرك. وكذلك المُقعد من أهل الذمة، والأعمى، والشيخ الفاني، والمرأة، والوِلدان، في أرض الحرب.. رفعت عنهم الجزية"(14).

والرواية هذه تساوي بين المرأة، والمُقعد من أهل الذمة، والأعمى، والشيخ الفاني، والوِلدان، في أرض الحرب، إذ رُفعت الجزية عنهم جميعاً، لأنه لم يمكن قتلهم لو امتنعوا عن أن يؤدوا الجزية. أما الرجال الذين يمتنعون عن أداء الجزية، فيجوز قتلهم، لأنهم يُعتبرون ناقضين للعهد الذي قطعوه على أنفسهم. وهذا يعني أن الإسلام لا يُجيز قتل غير المُحاربين من الرجال، أي لا يُجيز قتل المرأة، والمُقعد، والأعمى، والشيخ الفاني، والوِلدان، وبالتالي فهو لا يجيز استعمال أسلحة الدمار الشامل، التي تقضي على كل البشر، ولا تميِّز بين محارب، وغير مُحارب، ولا بين رجل، وامرأة، وشيخ، وولد.

- ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: "من قتل صغيراً، أو كبيراً، أو أحرق نخلاً، أو قطع شجرةً مثمرةً، أو ذبح شاةً لاهياً بها، لم يرجع كفافاً(15)" (16). وبالتالي فإن عملية التحريم لا تختص بقتل  الصغير، أو الكبير، من بني البشر، بل تتعداه أيضاً إلى تحريم قتل الحيوان النافع، أو قطع الشجر المثمر، من دون ضرورة إلى ذلك. وهذا الوجه يجري حتى عند الفقهاء الآخذين بقول المشهور، فإن النساء والأطفال قد حصل إجماع على استثنائهم من الاستهداف الحربي، فيكون الاستخدام الذي يلحق الضرر بهم بالموت، ونحوه، حراماً. وهذا الوجه تام لا غبار عليه.

- ما ثبت لدينا في التحقيق، أن النبي (ص) عندما انتصر على بني قريظة، حيث نزلوا من حصونهم ولجأوا إلى تحكيم سعد بن معاذ فحكم فيهم سعد بقتل المقاتلة وسبى الذرية، فقبل رسول الله تعالى بحكمه ولم يقتل النساء، أو الأطفال، أو الشيوخ، أو حتى الرجال غير المقاتلين، بل اكتفى بقتل الرجال المحاربين، وسبي النساء، والأطفال، وأخذ الأموال. أي أنه لم يتعرض لأي إنسان لم يمارس عملية الحرب والقتال ضد المسلمين على الرغم من أن جريمة بني قريظة لا تقاس بجريمة بني النضير وقينقاع في حجمها وفي خطورتها على الإسلام والمسلمين. فقد تحرك بنو قريظة في خط الخيانة، وتوغلوا فيها إلى درجة أصبح معها أساس الإسلام في خطر أكيد وشديد، ولاسيما أن ما بنوا عليه كل مواقفهم، هو إبادة الوجود الإسلامي بصورة تامة وحاسمة. مع الإشارة إلى أن هدف بني قريظة كان قريب المنال على مستوى الحسابات العملية، التي اعتمدوا عليها، وقد خطوا خطوات عملية لإنجازه، حتى على مستوى التحرك العسكري، الذي يستهدف تمكين الأحزاب من اجتياح الوجود الإسلامي(17).

ثانياً- نهي رسول الله (ص) أن يُلقى السم في بلاد المشركين:

ورد عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: قال أمير المؤمنين (ع): "نهى رسول الله (ص) أن يُلقى السم في بلاد المشركين"(18). إن إلقاء السُّمِّ في الماء هو كناية عمّا يقتل الإنسان، والحيوان، والنبات، بلا تمييز، أي أنه كناية عن أسلحة الدمار الشامل في ذلك العصر. فهذه الرواية ظاهرة في تحريم إلقاء السم، كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء، ولا معنى لحمل النهي هنا على الكراهة حيث لا شاهد ولا قرينة على ذلك، فإذا كان إلقاء السم في تلك البلاد حراماً فإنّ بعض أسلحة الدمار الشامل مما يصدق عليه أنه سموم، وبعضها الآخر إن لم يصدق عليه عنوان السم لغةً وعرفاً، ولكنه أشد فتكاً وتدميراً، فلا شك في أنه يحرم بالأولوية؛ فإذا كان إلقاء السمّ حراماً، فكيف بإلقاء الأسلحة النووية التي تُحْدِثُ في البلاد والعباد أكثر مما يحدث السم فيها بمئات المرات. كما أنّ طبيعة الإطلاق الموجود في الرواية تشير إلى أنها غير خاصّة بموضوع الجهاد بل تُحَرِّم هذا الرمي للسم مطلقاً، حال الحروب، وغيرها. ولكن مناسبات الحكم والموضوع، تجعل القضية في سياق حرب، ومنازعة، لعدم وجود ظاهرة إلقاء السم آنذاك في غير الحروب إلا نادراً. 

ولا بد لنا من الاستفادة من أقوال العلماء في هذا الموضوع الحساس، ومناقشتها إذا لزم الأمر. وفي هذا السياق يُفتي الشيخ الطوسي(19) بجواز قتال أهل الشرك بسائر أنواع القتال إلا إلقاء السُّمِّ في بلادهم، ولعلَّها إشارة إلى عدم جواز استعمال أسلحة الدمار الشامل، فإن كان استعمال السُّمِّ يؤدي إلى قتل المدنيين أيضاً فمن باب أولى عدم استعمال السلاح الكيماوي، أو الجرثومي، أو النووي في عصرنا الحاضر، لأنه أشد قتلاً، وأكثر فتكاً وتدميراً، وفيما يأتي نص الفتوى: " ويجوز قتال أهل الشرك بسائر أنواع القتال إلا إلقاء السم في بلادهم، ومن أسلم في دار الحرب كان إسلامه حقناً لدمه، ولولده الصغار من السبي، ولماله من الأخذ"(20).

ويرى الشيخ جعفر السبحاني(21) أن النبي (ص) لم يستخدم أبداً الأساليب اللاإنسانية كقطع الماء على خصومه، أو تسميمه وتلويثه، أو قطع الأشجار، وما شابه ذلك، وبالتالي فهي حرام ولا يجوز استخدامها، حيث يقول:

"إن الأدوات والوسائل التي استخدمها النبي (ص) لنشر دعوته، واستعان بها لنشر دينه، كانت إنسانية وأخلاقية تماماً. فهو(ص) لم يستخدم أبداً الأساليب اللاإنسانية كقطع الماء على خصومه، أو تسميمه وتلويثه، أو قطع الأشجار، وما شابه ذلك من الأساليب اللاإنسانية. بل أوصى بأن لا يلحق الأذى بالنساء، والأطفال، والعجائز، وكبار السن، وأن لا تُقطع الأشجار، وأن لا يُشْرَع في قتال العدو قبل الدعوة إلى الإسلام، وإتمام الحجة عليه. إن الإسلام يرفض رفضاً قاطعاً المنطق المكيافيلي القائل: "بأن الغاية تبرر الوسيلة".. إن حياة رسول الإسلام (ص) زاخرة بقصص التعامل الإنساني النبيل مع الأعداء"(22).

ثالثاً- حرمة التعذيب بالنار:

تشير بعض الروايات إلى حرمة التعذيب بالنار، ومن الواضح أنّ استخدام أسلحة الدمار الشامل هو من نوع الإحراق بالنار بل أشدّ. ومن هذه الروايات: خبر أبي هريرة، قال: "بَعَثَنا رسول الله(ص) في بَعْثٍ، وقال لنا: إن لقيتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار، ثم قال: أتيناه نودعه حين أردنا الخروج فقال (ص): إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما(23) فاقتلوهما"(24). فتكون القضية كالآتي:

- القضية الصغرى: استخدام أسلحة الدمار الشامل هو من نوع الإحراق بالنار بل أشدّ.

- القضية الكبرى: حرمة التعذيب بالنار، لأن النار لا يعذب بها إلا الله.

- النتيجة: استخدام أسلحة الدمار الشامل حرام.

فهذه الرواية تُحَرِّم استعمال الإحراق وسيلةً من وسائل القتل، على الرغم من أنّ الرجلين كانا ممّن يستحق القتل؛ لأن الرواية أشارت في خاتمتها إلى الأمر بقتلهما، كما أن التعليل الوارد في الرواية يشير إلى كبرى عامة، وهي أن النار لا يعذب بها إلا الله، ففي هذه الكبرى منع التعذيب بالنار مطلقاً، سواء في الجهاد، أو الحدود، أو غيرهما.

باحث في الشريعة والقانون الدولي(*)

هوامش

(1) الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط1، إيران–قم، دار الحديث للطباعة والنشر، 1416هـ، ج2، ص:1339.

(2) والأرق: الذي لا ينام. ومثل قوله(ع): "من نام لم ينم عنه". راجع: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ط2، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، قم-إيران، دار إحياء الكتب العربية، 1965م-1387ه، ج17، ص: 225-226.

(3) أحد مراجع التقليد الشيعة في النجف الأشرف.

(4) استفتاء أرسل إلى سماحته من لبنان إلى العراق، بتاريخ: 21 ذو الحجة 1428هـ، وقد أجاب عليه بتاريخ13 محرم 1428هـ.

(5) من كبار فقهاء السُّنَّة البارزين في سوريا.

(6) سورة الأنفال، الآية: 60.

(7) ورد ذلك في ردٍّ على سؤال وَجَّههُ إليه الباحث، حول جواز، أو حرمة، صنع، واستعمال، أسلحة الدمار الشامل، ضد الأعداء، في حالتي الجهاد الدفاعي، أو الابتدائي، وذلك ضمن أعمال المؤتمر الدائم للمقاومة، وفي ندوة تحت عنوان: "أخلاقيات، وآداب، الجهاد في القرآن، والسُّنَّة"، بتاريخ: الثلاثاء 16-12-2008م، في القاعة الثقافية لمعهد المعارف الحكمية، في بيروت- حارة حريك- الشارع العريض- سنتر صولي.

(8) سورة النحل، الآية: 126.

(9) البوطي، محمد سعيد، الجهاد في الإسلام-كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟، ط2، دمشق-سوريا، دار الفكر، 1997م، ص: 316-317.

(10) المرجع نفسه، ص: 231.

(11) سورة التغابن، الآية: 16.

(12) استحيوا: يعني أبقوهم على قيد الحياة.

(13) الحر العاملي، وسائل الشيعة، مرجع سابق، ج15، ص: 65.

(14) المرجع نفسه، ص: 64- 65.

(15) يقال: فلان لحمه كفاف لأديمه، إذا امتلأ جلده من لحمه.. والكفاف أيضاً من الرزق، والقوت. راجع: ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، لسان العرب، قم-إيران، نشر أدب الحوزة، 1405هـ، ج9، ص:306. والمعنى أنه من فعل ذلك (قتل صغيراً، أو أحرق نخلاً، ..) لم يرجع مرزوقاً، ولا غانماً.

(16) المتقي، الهندي، كنز العمال، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1409هـ - 1989م، ج15، ص:35.

(17) ناصر، علي، العنف الديني في سياسة الجهاد- دراسة تاريخية، فقهية، تحليلية، في وقائع غزوة بني قريظة، الاجتهاد والتجديد- العددان التاسع والعاشر، السنة الثالثة، شتاء وربيع 2008م، 1429هـ، ص: 173-205.

(18) وللحديث طريق آخر: "محمد بن أحمد بن يحيى، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (ع)، أن النبي (ص)، نهى أن يلقى السُّمَّ في بلاد المشركين". راجع: البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، قم-إيران،  منشورات مدينة العلم- آية الله العظمى الخوئي، 1407هـ، ج13، ص:153-154.

(19) شيخ الطائفة، وهو من الفقهاء المتقدمين، توفي سنة 460ه.

(20) مرواريد، علي أصغر، سلسلة الينابيع الفقهية، ط1، بيروت-لبنان، دار التراث- الدار الإسلامية، 1410هـ-1990م، ج9، ص: 62.

(21) مرجع تقليد، وعضو مجلس الخبراء في إيران، وعضو في جامعة المدرسين، ومن مؤسسي مجلة "مكتب إسلام"، التي كان لها دور كبير في الثورة الثقافية في إيران، في الستينيات.

(22) السبحاني، جعفر، العقيدة الإسلامية في ضوء مدرسة أهل البيت (ع)، ط1، تحقيق ونقل إلى العربية: الشيخ جعفر الهادي، قم-إيران، مؤسسة الإمام الصادق (ع)، ص:152.

(23) أي وجدتموهما.

(24) البخاري، صحيح البخاري، ت 256هـ، طبعة بالأوفست عن طبعة دار الطباعة العامرة بإسطنبول، دار الفكر، 1401هـ-1981م، ج4، ص: 21. 

اعلى الصفحة