إيران والعهد الجديد في التشاركية الدولية على خلفية الاتفاق حول الملف النووي الإيراني
أين العرب؟ وماذا عن حواراتهم واتفاقاتهم الداخلية؟!!

السنة الثالثة عشر ـ العدد 145 ـ ( ربيع أول 1435 هـ) كانون ثاني ـ يناير ـ 2014 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في السياسة عموماً لا توجد نصوص ثابتة ولا "تابوهات" أو مطلقات مقدسة، كما لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة.. فكل العداوات والصداقات خاضعة بالمعنى السياسي العملي للغة المصالح وحسابات الواقع وموازين القوى والعلاقات التبادلية النفعية.. فماذا لديك –كمجتمع وكدولة- من أوراق قد تلعبها، ويمكن أن تؤثر بها على خصمك وعدوك، لتقوي موقعك ووجودك؟!!

وماذا يمكن أن تقدمه للآخر على طاولة التسوية والتفاوض؟! وكيف تتنازل في اللحظة المناسبة دون خسائر كبيرة تذكر؟.. ثم ماذا ستكسب من وراء تنازلك في موقع هنا وموقع آخر هناك؟!...

وبهذا المعنى تغدو السياسة مجالاً للمناورة، وتغيير موازين القوى، وتدوير الزوايا الحادة، والارتكاز على ممكنات التغيير للبدء بتسويات الحلول النهائية الحاسمة المرضية لكل أطراف الصراع..

ولكن كل ذلك كبديهيات سياسية نظرية، يحتاج –لدى النخب والنظم والدول ومختلف القوى السياسية- إلى قاعدة وبنية عميقة وواسعة من الخبرات والتجارب السياسية والاجتماعية التراكمية المؤثرة، المفضية بدورها إلى رجحان كفة العقلانية السياسية البراغماتية المفتوحة وغير المغلقة على أية كفة أخرى، قد تكون مليئة بلغة جامدة وشعارات الأيديولوجية التمجيدية الخطابية لأصحاب النضالات الوهمية الدونكيشوتية الذين كانوا أول من خرق وكسر وانتهك حرمة المبادئ والقيم السياسية والإنسانية العليا آمنوا بها، ودافعوا عنها...

وللأسف هذا النمط المتطور من الوعي السياسي المتوازن، هو ما نفتقده نحن في عالمنا العربي الذي لا يزال مجاله السياسي (بكل ما فيه من نظم ونخب وتنظيمات وأحزاب وتيارات و.. و.. الخ، وعلى الرغم مما فيه من موارد وثروات هائلة يمكنها أن تشكل دعماً قوياً للسياسة) جامداً ومغلقاً على لغة الحتميات والمطلقات، ومحكوماً بعقلية التمجيد ولغة السياسات الحدية الشعاراتية البعيدة عن وعي حركة التحولات وإدراك حجم التغيرات المتعددة المتحركة في واقع سياسي عالمي بات المتغير فيه هو الثابت الوحيد.. بما يدفع إلى عدم التأثر والاستجابة الإيجابية السريعة الفاعلة على تلك المجريات والمتغيرات في ما نسميه بـ"وعي اللحظة" واقتناص الفرصة السانحة.

ونتيجة لهذا الجمود السياسي، ولهذه العقلية الغرائزية (لا يهمها سوى البقاء بالحكم) غير التسووية (الرافضة لمنطق التنازل المدروس)، نلاحظ أن خسائر العرب السياسية وغير السياسية كانت على الدوام كبيرة للغاية.. وحالة الاستنزاف الاقتصادي والسياسي – التي يتسبب بها أو يدفع باتجاهها سادة البراغماتية السياسية الدولية - لا تزال شغالة على طول الخط حتى الآن.  

وأمامنا الآن، نموذج عملاني واضح للتعاطي السياسي البراغماتي مع متغيرات الواقع، المنطلق من أفق سياسي مفتوح على لغة المصالح المتبادلة، واقتناص فرص و"ثغرات" السياسات والتوازنات الدولية.. إنه الاتفاق النووي الإيراني الغربي الذي وقّع منذ أيام، والذي تمكنت من خلاله إيران، من تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية والسياسية، كان من أهمها الإفراج عن جزء من أموالها المجمدة في الخارج، وتعهد القوى الغربية (5+1) بعدم فرض عقوبات جديدة على صادراتها البترولية، إضافة إلى تقديم تسهيلات اقتصادية أخرى كان النظام الإيراني بحاجة ماسة لها لاحتواء وتسكين مطالب شعبه الذي بدأت معاناته من العقوبات الدولية المفروضة تتصاعد وتزداد..

ويبدو أن إيران التي قطعت أشواطاً بعيدة في ملفها النووي، وباتت على مرمى حجر من صناعة "القنبلة النووية" أدركت أن الوقت حان للمهادنة المؤقتة مع الغرب والتي قد تمتد لأعوام مقبلة بعدما ضاقت بها السبل الاقتصادية، وأنهكتها الأوضاع الاقتصادية السيئة جراء الحصار والعقوبات..

ونحن هنا لا نمجد ونهلل لهذه الاستجابة الإيرانية التي جاءت ربما بعد أن تسببت الضعوطات والحصارات الغربية لها بخسائر اقتصادية كبيرة عانى ولا يزال يعاني منها المجتمع الإيراني، مع أن صناع القرار الإيراني اقتنصوا الفرصة الملائمة لتقديم تنازلاتهم المدروسة والذكية، والحد من خسائر بلدهم السياسية والاقتصادية، والبدء بالبناء على ما تحقق في اللاحق القادم، ولكننا نشير إلى أن إيران حققت فعلياً كدولة اعترافاً دولياً بدورها ومكانتها وقوتها الإقليمية، بما توفر لدى قيادتها من عقلية سياسية ذرائعية، مع أنها لا تزال تجتاحها قيم الثورة، و"مبدئيات" الخط الأيديولوجي الديني التمامي الثابت.. فهي نفسها من يمارس أعلى درجات البراغماتية السياسية في مفاوضاتها وتراجعاتها وتسوياتها وعلاقاتها الخارجية..

وفي اعتقادي أن أهم ما حصلت عليه إيران لم يكن اعتراف العالم بحقها في التخصيب السلمي (حتى 5% لغايات سلمية) ومكانتها كدولة نووية، بل اعتراف العالم كله بمكانتها ودورها الإقليمي (وهذا ما يخيف دول الإقليم المجاور لها، وخاصة في دول الخليج).. وإمكانية تحولها - من خلال هذا الدور والمكانة - لتصبح عضواً فاعلاً ومساهماً قوياً في بناء المجتمع الدولي، وإرساء قيم العدالة الدولية.. في محاولة من الغرب لاحتوائها وتدجينها وتحويلها من عنصر سلبي مارق وملاحق إلى عنصر إيجابي مشارك ومثمر ومتابع.

لكن للأسف تبقى المشكلة عندنا لدى الجانب العربي والنظم العربية (أصحاب العقل الإطلاقي، إما نكون أو لا نكون).. حيث أن كل الدول وكل المجتمعات تتحرك وتنطلق وتنزع لتسوية مشاكلها وخلافاتها وأزماتها (الداخلية والخارجية) بعقل بارد وأفق مفتوح على إمكانات التسويات المتوازنة (والحد من سلسلة الخسائر المستمرة)، لتأخذ مكانها بين الأمم والقوى الكبرى، وتحاول حيازة احترام وتقدير العالم.. فهاهو حتى "الولي الفقيه"، يتصالح مع "الشيطان الأكبر" بعد عداء مستحكم لأكثر من ثلاثين عاماً، بما يمليه ويفرض على أهل المنطقة كلهم توازنات جديدة وخريطة سياسية جديدة، وربما يفرض عليهم أيضاً التزامات حيوية على مستوى الموارد والتغييرات الجيو/إستراتيجية في المنطقة، قد يكون العرب بعيدين عنها، ودافعين لأثمانها الباهظة..  بينما تجدنا نحن العرب عجزنا حتى عن إدارة مجرد حوار داخلي بين بعضنا البعض، بين الشعوب والحكام، بين تيارات وفصائل السلطة والمعارضة، بين مختلف مكونات وجماعات وتيارات السياسية المتنافرة والمتنازعة، بما يؤدي لإيقاف النزف والدم والخسائر الهائلة..

وها هي مصر وتونس وليبيا وسوريا وغيرها من دول (الربيع العربي!! الذي بات شتاءً قارساً للأسف الشديد)، عجزت الجامعة العربية عن إيجاد أي حل، بل مجرد حل لأزمات وتحديات تلك الدول التي اجتاحتها رياح التغيير السياسي، واشتعلت فيها نيران المماحكات والنزعات الأهلية والطائفية والحزبية، وبدأت مجتمعاتها بالنكوص نحو الوراء على كل المستويات والأصعدة.. فهل يعقل أن تصبح دولة عريقة كسوريا -مثلاً- ساهمت في تأسيس كل من جامعة الدول العربية، ومنظمة الأمم المتحدة منذ أكثر من ستين عاماً، على الحالة المأساوية النازفة التي أضحت عليها، والعرب والعالم يتفرجون (وكثير منهم يتدخلون سلباً) على الصراع الدموي الدائر فيها، والذي كلف أهلها وشعبها مئات آلاف الضحايا وملايين المشردين وملايين البيوت المتهدمة وعشرات آلاف المفقودين... و..و..الخ؟ ولا أحد يتحرك بقوة لوقف شلالات الدم، والبدء بالحوار؟..

من المعروف أن السياسة أمان واستقرار وسعي دائم للسلام والطمأنينة المجتمعية، وتعاون مثمر للبناء والتطوير والخلق والابتكار.. والحوار وسيلة لتحقيق أرقى الممكنات السياسية وغير السياسية.. فهل من حوار ومجيب؟!!..

أما عندنا فلا تزال السياسة تابعة لهذا المحور أو ذاك، من محاور القوى والصراعات الدولية في هذه المنطقة التي لا تزال محل تنازع ومكاسرة إرادات إقليمية ودولية.. خصوصاً بعد قرار أمريكا الاستراتيجي بالتحول عن المنطقة، والبقاء على إدارة أزماتها (التي تفتلها هي) عن بعد، وعن طريق اللاعبين المحليين والإقليمين.. 

وللأسف سنبقى نلف وندور في حلقة التخلف المغلقة ذاتها... وهي الأزمة الحضارية المستمرة.. أزمة الفكر والثقافة التقليدية المهيمنة منذ قرون طويلة.. أزمة العقل المستقيل والاتكالي على غيره..

وهذه الأزمة الوجودية هي علة كل شيء، ولا حل لها إلا من حلال إنتاج صيغة ثقافية ومعرفية وسياسية للحكم الديمقراطي المدني العربي المرتكز على قاعدة راسخة من مبادئ وقيم "الإنسان - الفرد - المواطن" المنتج والفاعل والمأمون والحر في عيشه وفكره ومعتقده السياسي وغير السياسي، والحاصل على كامل حقوقه الاقتصادية والسياسية وغيرها، من خلال إقامة مجتمعات تعددية محكومة بسلطات سياسية ونظم ديمقراطية تداولية أساسها وجوهرها خدمة مصالح هذا "الفرد - المواطن" صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المبدأ والمنتهى.. على قاعدة سلامة الوطن والدولة والناس، فالوطن المعافى الخير والمعطاء، والناس الحاصلون على حرياتهم وحقوقهم المدنية، والمستقبل والحياة الكريمة العادلة هي حلم وهدف الجميع.

وفي النهاية ما تقدم هو نفسه حكم المواطنة الصالحة، حكم الإنسان العربي المنتج، حكم الدولة المدنية المؤسسية، التي تنصهر فيها كافة الانتماءات لصالح الوطن ضمن أطر نظامية قانونية دستورية ضامنة، ومن خلال الالتقاء على أرضية المصلحة الوطنية العامة، ويتم ذلك بناء على معطيات الفكر الإنساني العالمي اليوم، والتي يروج لها في ساحاتنا الفكرية ومنتدياتنا الثقافية من خلال الأبعاد التالية:

1) الهوية المنفتحة الواعية.

2) الانتماء الحر التعددي المدني.

3) التعددية وقبول الآخر وإشاعة ثقافة التسامح.

4) الحرية والمشاركة السياسية، والتداول السلمي للسلطة.

 باحث وكاتب سوري(*) 

اعلى الصفحة