التحدّيات الداخليّة بعد النبيّ(ص)
وآليّات ضبط الصراع بين المُسلمين

السنة الثالثة عشر ـ العدد 145 ـ ( ربيع أول 1435 هـ) كانون ثاني ـ يناير ـ 2014 م)

بقلم: جعفر محمد حسين فضل الله

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تمثّل المرحلة التي تلت وفاة رسول الله (ص) محطّة أساسيّة من تاريخ المسلمين، ما زالت تلقي بظلالها على المجتمع الإسلامي حتّى وقتنا الراهن، تربويّاً وسياسيّا واجتماعيّاً وفقهيّاً فضلاً عن الجانب العقدي.

إذ ما هو واضحٌ أنّ لتلك المرحلة حضوراً في الوجدان الإسلاميّ العامّ، بحيث يُدرك المراقبُ، ببساطة، أنّنا نكادُ نكون أمّة التاريخ لا أمّة الحاضر؛ الأمّة التي تستغرق في التاريخ لتستدعيه إلى حاضرها لتتقاتل عليه، لا الأمّة التي تدرس التاريخ لتستخلص منه العبر والدروس لكي لا تقع في أخطائه. ومن الواضح أنّ لذلك الاستدعاء أسبابه التربويّة التي تشي بمشكلة في قواعد التربية وأساليبها، إضافةً إلى أسبابه السياسيّة التي تحاول تدفع فئة ما نحو التسلّط على المجتمع من خلال تأكيد عناصر الفرقة ودفعه نحو التعصّب لأيّ مادّة، ولاسيّما إذا كانت أسباباً تاريخية أكسبها القِدَمُ قداسةً وحضوراً وجدانيّاً عامّاً.

وأيّاً يكن الحال، فلكي نفهم أهمّية تلك المرحلة، فإنّ علينا أن نسلّط الضوء على طبيعة مرحلة النبيّ(ص)، حيث قد نجد أنّ تلك المرحلة كانت تعطي التجربة العمليّة لمواجهة المجتمع الإسلامي تحدّياتٍ سياسيّةً وأمنيّة خارجيّة، أكثر من مواجهته لتحدّيات داخليّة. وإذا كان اليهود اعتُبروا ـ بموجب معاهدة المدينة ـ جزءاً من المجتمع، بل "أمّة واحدةً" هم والمسلمين، فإنّهم ـ بقوا خارج بنية المجتمع الإسلامي، باعتبارهم يمثّلون "أهل الكتاب"، الذين لا يهدّد خروجهم عن المعاهدة وحدة المجتمع الإسلامي كما هو واضحٌ.

كما أنّ حالة المنافقين، لم تشكّل مشكلة فعليّة؛ لأنّها كانت منسجمة في الظاهر مع الواقع الإسلاميّ العام، سوى في بعض الجوانب التفصيليّة التي لا تهدّد الكيان العامّ للمجتمع أو للأمّة.

إذاً، لم يواجه المسلمون خطراً فعليّاً داهماً على بنية المجتمع الإسلامي من داخلها في زمان الرسول(ص)، وإنّما ذلك ما أفرزته الفترة التي تلت وفاتَهُ(ص)، والتي برز فيها دورٌ واضحٌ لأهل البيت(ع)، الذين زُرعت محبّتهم والارتباط بهم في الوجدان الإسلاميّ العامّ، في اعتبار "مودّتهم" أجر الرسالة بنصّ القرآن، وفي أحاديث النبيّ(ص) التي أكّدت على صفتهم التمثيليّة للإسلام، سواء في الحديث عن عليّ بن أبي طالب(ع)، كقوله(ص): "أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها"، أو "يا عليّ لا يحبّك إلا مؤمنٌ ولا يبغضك إلا منافق"؛ في الحديث عن الحسن والحسين(ع) وأنّهما "إمامان قاما أو قعدا"، و"سيّدا شباب أهل الجنّة"، أو من قبيل "مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق"، إلى غير ذلك ممّا عقَدَ عليهِ المسلمون، وليس فيهم ـ إلا من شذّ ـ من يُنكر مكانةَ أهل البيت(ع) وفضلهم ولزوم مودّتهم؛ وهذا يكاد يكون غنيّاً عن الاستدلال.

ولكنَّ ما يهمّنا هنا، هو الوقوف عند مواقفهم في تلك الفترة، وقراءة تلك المواقف انطلاقاً من القواعد الإسلاميّة الواردة في الكتاب والسنّة؛ لأنّ لذلك فوائد كبيرة في فهم التطبيق العملي لتلك القواعد على أرض الواقع، بعد اتّفاق المسلمين ـ عموماً ـ على تلك القواعد نظريّاً.

وهذا الأمر، إذ ربطناه بالقواعد الإسلاميّة في الكتاب والسنّة، لا يكاد يفرقُ فيه الحالُ بين أن نكون من القائلين بعصمة أهل البيت(ع) عن الخطأ، كما هو مذهب الشيعة الإماميّة، ولا من القائلين بعدمها، كما هو مذهب سائر المسلمين؛ لأنّنا أمام قراءة للأحداث تبعاً لقواعدها، مع ميزةٍ وهي أنّ الذين وقفوا تلك المواقف لهم الصفة التمثيليّة الإسلاميّة في المواقع المميّزة التي لا ينكرها أحدٌ.

وإنّنا إذ ندخل إلى البحث من هذا المدخل، فلا لكي نحسم جدليّات كثيرة بين المسلمين على هذا الصعيد، وإنّما لكي نشير إلى أنّ من الضروري ولوج هذا الباب، بعد أن أقفل كثير من المسلمين البحث في تلك المرحلة التاريخية المهمّة، مهملين بذلك تطبيقات عمليّة على صعيد إدارة الصراع الداخلي؛ الأمر الذي فوّت علينا الكثير لجهة معرفة التطبيق في واقعنا المعاصر بشكل وبآخر.

أهمّية التجربة العمليّة

ونحن لا ننكر أنّ الرجوع إلى القواعد الإسلاميّة الأصيلة، مع الخبرة بالزمان والمكان الذي نعيش فيه، يُمكن أن يفتح باب المعرفة التطبيقيّة؛ إلا أنّ للنموذج العملي في تلك الحقبة التاريخية بالذات، خصوصيّة في إبراز التطبيق بأجلى مظاهره وأوضح تجليّاته، بما يشكّل عاملاً مساعداً على الأقلّ للفهم العميق للنظريّة الإسلاميّة؛ لأنّ تلك المرحلة تمثّل مرحلة غنيّة بالأحداث، واختباراتٍ متنوّعة للعلاقة بين النظريّة الإسلاميّة وبين التطبيق تبعاً لظروفٍ مستجدّة، وتحدّياتٍ داهمة.

وفي ما يلي نُثير بعضَ العناوين، لا لكي نقدّم تحليلاً ناجزاً أو وافيّاً، وإنّما لإثارة التفكير حولها، بهدف إيجاد أرضيّة للتفكير في ما نمرُّ به في واقعنا:

1- إدارة الخلاف على أمر الخلافة

يختلف المسلمون اليوم على مسألة خلافة رسول الله(ص) من الناحية العقدية، والتي يعتقد فيها المسلمون الشيعة أنّها كانت لعليّ بن أبي طالب وأُبعد عنها، في حين يعتقدُ القسم الآخر من المسلمين أنّ أمر الخلافة تُركَ للمسلمين الذين بايعوا أبا بكرٍ ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ عليّاً، وأنّ عليّاً بن أبي طالب كان منسجماً مع ذلك.

ولكنَّ ثمّة نصٌّ في (نهج البلاغة) يعطينا خلفيّةً للموقف آنذاك: "فما راعني إلا انثيال الناس على (أبي بكرٍ) يُبايعونه، فأمسكتُ يدي، حتّى إذا رأيتُ راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محقِ دين محمّد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصرِ الإسلام وأهلَهُ أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظمُ من فوتِ ولايتكم التي إنّما هي متاعُ أيّامٍ قلائلٍ، يزول منها ما زال كما يزول السرابُ، أو كما يتقشّعُ السحاب، فنهضتُ في تلك الأحداثِ حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدينُ وتنهنه" .

ويبدو أنَّ ثمّة إذعاناً عامّاً في أنّ لعليّ بن أبي طالب الكفاءة الكاملة في تبوّؤ هذا الموقع؛ بل له الميزة على غيره؛ وهذا لا يجعل مسألة الخلافة وتبوُّئه لها مسألة هامشيّة مرتبطة بالمنصب، وإنّما مرتبطة بالبرنامج الأصلح لقيادة المسلمين في مرحلة شديدة الحساسيّة... ومع ذلك، فإنّنا نرى عليّاً يغلّب مصلحة حفظ الإسلام على مصلحة مطالبته بالخلافة؛ لأنّ ثمّة أحداثاً وظروفاً كانت تهدّد الكيان الإسلاميّ برمّته آنذاك.

وإذا كان واضحاً لعليّ، ولجماعةٍ من الصحابة المُعارضينَ معه، أنّه الأليق بقيادة المرحلة من غيره من الصحابة، فإنّ الظروف الموضوعية والتحدّيات المحيطة كانت تخيّره بين الموقف السلبيّ المطلق والتفريط بالكيان، وبين القبول بالأمر الواقع لحفظ الكيان، والعمل على سدّ الثغرات التي تنشأ من إبعاده عنها.

وقد نحتاجُ في واقعنا المعاصر إلى تكريس هذا المنهج في التعاطي مع المتغيّرات أو الضغوط التي قد تدفع فريقاً بعيداً عن الحكم والسلطة، في الوقت الذي يعتقد فيه أنّه الذي يمتلك الحقّ فيه. إنَّ دراسة دقيقة لما جرى في التاريخ يسمح لنا باستخلاص العناصر التطبيقيّة للنظريّة الإسلاميّة في تغليب مصلحة الإسلام على امتلاك زمام السلطة؛ لأنّ الواقع الذي حكم تجميد الإمام عليٍّ حقَّه في الخلافة كان سيضعُهُ في مواجهة الناس الذين بايَعوا والتزموا بتقديم غيره عليه؛ والدخول مع الناس، على اختلاف مستوياتهم وأهوائهم وأوضاعهم، يؤدّي إلى إشاعة الفوضى، بما يسهل معها نفوذ أيّ من القوى لصبّ الزيت على النار وإدخال الواقع في فتنةٍ لا تُبقي ولا تذر.

ولو تأمّلنا في المشهد الذي استبعدت فيه بعضُ الأحزاب الإسلاميّة من السلطة مؤخّراً، أيّاً كانت الأسباب الموجبة، ومهما كان تقويمُ تلك الأحزاب للعوامل التي أدّت إلى استبعادها، فإنّ الظرف الذي توضعُ فيه تلك الأحزاب في مواجهة الشعب، أو شريحة كبيرةٍ منه، إضافةً إلى تعقيدات الظروف الخارجيّة المحيطة، والداخليّة المتفاعلة، قد يجعل تلك الأحزاب أمام خيارين؛ أحدُهما قد يقضي على التجربة الإسلاميّة في ذهنيّة الجماهير، وثانيهما الانحناءة الإيجابيّة التي تُعيد إنتاج الظروف من ضمن الواقع، بالنحو الذي يسمح للتجربة بأن تأخذ دورها من جديد.

2- حرب الصحابة

ثمّة حروبٌ حصلت في زمان خلافةِ الإمام عليّ، وهي (حرب الجمل) ضدّ أمّ المؤمنين عائشة ومعها طلحة والزبير، و(النهروان) ضدّ الخوارج، و(صفّين) ضدّ معاوية بن أبي سفيان والي الشام.

والحرب الأولى والثالثة كانتا على خلفيّة اتّهام الإمام عليّ بدم الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، بعد اغتياله وهو في موقع الخلافة. ولا يُمكن لتلك المرحلة أن تُطوى قراءتها على طريقة التسويات المتهرّبة من تبعات التقويم؛ لأنّ افتراض صلاح النوايا لا يمنع من وقوع الخطأ؛ الأمر الذي لا ينبغي أن يدفع المسلمين للتحرّج من قراءة تلك المرحلة، واستخلاص عبرها؛ لأنّنا في الواقع الذي نعيشه اليوم يتكرّر بالنسبة إلينا الكثير من تلك الأحداث ومفاعيلها، وكأنّ ثمّة من درسها في التاريخ، وأراد أن يعيد استثمار نتائجها في الحاضر.

ممّا لا شكّ فيه أنّك عندما تدرس كيف يُمكن لاغتيال خليفةٍ، يمتلك جانباً عصبويّاً مرتبطاً بمشاعر العصبيّة العائليّة (بني أمّية) في مقابل (بني هاشم)، في مجتمعٍ لا يزال فتيّاً على مستوى المؤسّسات التي ينبغي أن تصهر في دائرتها الأوسع، وبنظمها وقوانينها، كلّ الخصوصيّات الأضيق، ومنها العصبيّة العائليّة... كيف يمكن لاغتياله أن يحوّل الواقع إلى حالةٍ من الجنون العصبي، بما يُفقد أيّ عاقلٍ قدرته على التحكّم بالأحداث، وبما يفقد الجميع الحافز للاستماع والتأمّل والتفكّر...

إنّ عدم دراستنا لمثل هذه الأحداث التاريخ من خلال دراسة كلّ ظروفها، لن يمنع أيّ جهةٍ من استغلال العصبيّات المتغلغلة في داخل مجتمعاتنا، وفي أنماطنا التربويّة، لإعادة خلق مناخٍ مشابه للفتنة الكبرى من جديد؛ الأمر الذي يُساعد الإنسان على التروّي في إطلاق الأحكام، واتّخاذ المواقف، ولا سيّما مع الشحن الإعلامي المنقطع النظير.

إنّ من يراقب ما جرى على أثر اغتيال الخليفة الثالث عثمان في التاريخ، وما جرى على أثر اغتيال الحريري في حاضرنا، يُمكنه أن يُلاحظ الشبه المريب، وكأنّ ثمّة من درس وأراد إيقاع المسلمين بالفتنة الكبرى، التي خرجوا منها تاريخياً بتسويةٍ عقديّة ما، ولكنّهم يعيشون حرارتها في الواقع المعاصر، بما قد لا يمكّنهم من الخروج منها، إلا بلطفٍ من الله تعالى.

ليس غرضنا هنا التشبيه في المفردات التمثيليّة للأطراف التاريخية، ولكنّ لتلك الحوادث حضورها في الوجدان الإسلاميّ العامّ؛ الأمر الذي يجعلها قابلة للاستثمار حتّى برموزها التاريخيّين، ليُقال مثلاً إنّ الشيعة قتلوا زعيماً سنّياً في التاريخ (!)، وها هم يعيدون الكرّة من جديد.

نقول ذلك؛ لأنّنا رأينا حالة الاستثمار في تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، والتي حاولت فيها جهاتٌ خارجيّة إدخال العراق في حالة من الجنون الطائفي؛ لأنّ رمزاً شيعياً فجّره (اغتاله) سنّة، وهكذا...

أمّا النهروان، فقدّم فيها الإمامُ عليٌّ، النموذج العملي للتعامل مع أخطر الظواهر في المجتمع الإسلامي، وهم الخوارج التكفيريّون؛ بين المقاربة الفكرية والثقافية والأخلاقية للمسألة، وبين المقاربة العسكريّة المرتبطة بأسباب أخرى لا علاقة لها بالتكفير.

بتعبير آخر: إنّ الإمام عليّاً لم يحارب الخوارج لكفرهم، وإنّما حاربهم لإفسادهم في الأرض، وقطعهم طريق المسلمين وقتلهم ابن الخبّاب وزوجته بطريقة وحشيّة لمجرّد الاختلاف في الرأي.

إنّ دراسة هذا الأمر، بكلّ ظروفه ومؤثّراته ونتائجه، وبالقياس إلى كلّ أدبيّاته وخطاباته التي نشأت معه، من شأنه أن يمنحنا خبرةً عمليّة في التعامل مع هذه الظاهرة، ومعيناً في وضع الخطوط الفاصلة بين أن يكون الإنسان سليم النيّة في خطوطها العامّة، وبين أن يكون مفسداً أو خطراً على الواقع، مع غياب أيّ قاعدة للحوار نتيجة السطحيّة الفكريّة التي تجذّرت في أذهانهم بما يجعل الحوار نوعاً من السذاجة في واقعٍ يفرض معالجات سريعة للأخطار المحدقة بالمجتمع.

نعم، من شأن ذلك أن يدفع إلى دراسة عناصر الوقاية من نشوء الفكر التكفيري، وهذا يُمكن دراسته أيضاً بكلّ موضوعيّة في تلك المرحلة التي سبقت بروز الخوارج، والتي أفرزت في لحظة مأزومة تلك الظاهرة المريضة في الأمّة.

3- صلح الإمام الحسن

لا يُمكن مقاربة صلح الإمام الحسن بن عليّ وإنهائه الحرب مع معاوية على أنّها تعبيرٌ عن مزاجٍ شخصيّ أو روحٍ سلميّةٍ بالمطلقِ للإمام الحسن، بل المسألة أعمقُ من ذلك، ولا بدّ من قراءتها ضمن ظروفها الموضوعيّة التي فرضت الصلح أو الهدنة.

إنّ القراءة التحليليّة العميقة للصلح تمنحنا الفهم العميق لحركة المتغيّرات في فرض موقفٍ يقف على النقيض من موقفٍ سابقٍ، وذلك في سياق المحافظة على الهدف الكبير؛ فإنّ قراءة متأنّية لاتّفاق إنهاء الحرب آنذاك ضمن الظروف الموضوعيّة، قد يجعلنا نخلص إلى أنّ الهدف كان المحافظة على الكيان الإسلامي؛ لأنّ ثمّة محرّمات سقطت في آليّات الحكم من قبل والي الشام معاوية بن أبي سفيان، وكان استمرار الحرب سيخلي الساحة نهائيّاً بعد تفكّك الجيش وتعرّض الحسن نفسِه لمحاولة اغتيال وغير ذلك من العوامل.

إذاً، المسألة قد تُقرأ على أنّها تتحرّك لتأكيد الثابت الأساس، وهو المحافظة على ثبات كيان الإسلام وحضوره، ومنع تفاقم الأزمات بما يهدّد وجودَه، وليست مسألة مرتبط بعوامل نفسيّة طارئة تنمُّ عن قراءة سطحيّة لتلك الحقبة المهمّة من تاريخنا الإسلامي.

4- ثورة الإمام الحسين

ضمن القاعدة نفسها التي لفتنا إليها عند الحديث عن صلح الإمام الحسن، يُمكن أن نلمح الموقف المعارض للإمام الحسين لإعطاء البيعة، أو الشرعية، للواقع القائم، بما يكرّس حالة التنازل المخيف في نظام الحكم، وبالتالي تثبيت الآليّات التي لا يقتصر دورها على قهم الناس بالغلبة وغياب منطق العدالة فحسب، بل تعمل على تشويه الذهنيّة العامّة للأمّة...

الظروف التي رافقت الثورة آنذاك، كانت توحي بخطورة ما وصلت إليه الأحداث على مستوى تهديد الكيان الإسلامي من الداخل؛ لأنّها كانت مسألة نظامٍ فاسدٍ سيتمّ تكريسه، تفقد فيه الأمّة أيّ قدرة على المشاركة في انتخاب الحاكم، والتغيير في حال انحرافه، مترافقاً ذلك مع حالة تنظيرٍ تكرّس استلاب الأمّة نفسها، ومن خلال استغلال بعض المتشابهات في القرآن الكريم.

وكانت هذه الحركة الثوريّة من الإمام الحسين، سيد شباب أهل الجنّة، تضع الخطوط الفاصلة بين نموذج النظام الإسلامي الذي يمثّله الحسين كرمزٍ وكمنطلقات وقواعد، وبين نموذج النظام غير الإسلامي الذي يمثّله يزيد بن معاوية كرمزٍ ومنطلقات وقواعد مضادّة؛ وهذا ما يسمح بوضع عاشوراء الثورة والقضيّة والرمزيّة في سياقها الإسلاميّ، بما يسمح بخلق حالة من الوعي العامّ تجاه مثل هذه القضايا في الواقع المعاصر.

خاتمة

ما تقدّم لا يعدو أن يكون عبارة عن إثارات للتفكير الجادّ، حول التاريخ المُستعاد دوماً على صهوة العصبيّات والجهل الذي كرّسته ظروف عديدة في واقع الأمّة المعاصر، بما جعلنا نتقاتل على التاريخ، غير مستفيدين من الكثير من الإنجازات التي تحقّقت للأمّة، وليس لفئة منها، وجعلنا ـ أيضاً ـ لا نحسن قراءة التحدّيات؛ الأمر الذي جعل إسلاميّة كبيرة للحكم، تعيد الوقوع في منزلق المذهبيّة واستعادة المصطلحات البائدة للفرق المذهبيّة والخطوط السياسيّة؛ والله من وراء القصد. 

اعلى الصفحة