المؤامرة في مواجهة المؤامرة

السنة الثالثة عشر ـ العدد 144 ـ ( ـ محرم ـ صفر 1435 هـ) كانون أول ـ 2013 م)

بقلم: الشيخ مصطفى ملص

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في أية خانة يصنف هذا القتل الذي يسود العالم العربي والإسلامي، في خانة الإجرام أم في خانة الجهاد، أم في خانة القصاص، أم في خانة السعي إلى السلطة، أم في خانة الأحلام الإمبراطورية، أم هو القتل للانتقام، أم القتل إشباعاً لغريزة وحشية، أم...؟؟؟

والذي يثير الالتباس مهما كانت الغاية هو أن القتل يحصل غالباً تحت عناوين سامية كالدفاع عن النفس أو الدين، أو طلباً للحرية والعدالة أو للدفاع عن الوطن والطائفة والمذهب. وما من صاحب مشروع يصرح عن غاياته الصحيحة أو الحقيقية، بل عليك أن تستخرج تلك الغاية بالبحث والتحليل والمراقبة، ورغم ذلك فإن ما تخرج به من نتيجة يبقى في دائرة التحليل والاستنتاج ولن يقبله الآخر منك، بل ستكون متهماً بأنك عدواني أو مغرض، أو جاهل.

ولكن لا بأس، المهم أن تتكون لديك قناعة تستطيع أن تبني عليها مواقفك من الأعمال والتصرفات والطروحات فلا تبقى ضائعاً محتاراً أسير التردد أو بلا مواقف.

أهون الأمور أن تصف قتل السلطة لمناوئيها بأنها تقتل من أجل الاحتفاظ بالسلطة، وهذا أمر قد يجد البعض له مبرراً لأن الحفاظ على السلطة والأمن والقانون مصلحة للمجتمع الذي يضر به التمرد، وتضر به الفوضى وكذلك الإخلال بالأمن. وقد يرى فيه البعض خرقاً، أو اعتداءاً على الحريات العامة وحقوق الإنسان مما تفرضه الأنظمة والقوانين والشرائع الدولية، والإعلانات العالمية الصادرة عن الأمم المتحدة.

أما القتل في الحروب فقد يبرره قانون الحرب الذي يبيحه، ولكن بشرط فيها شيء من الشهامة واحترام الآخر، فمن دخل في حرب يعرف سلفاً أن فيها قاتلاً ومقتولاً. ومن رضي باللعبة عليه أن يرضى نتائجها، وما ينطبق على المتحاربين لا ينطبق على غيرهم من المدنيين أو من هم في حكمهم كالإعلاميين وفرق الإسعاف وغيرهم من المحايدين.

والقتل دفاعاً عن النفس عندما يتعرض الإنسان لخطر يهدد حياته من قبل إنسان آخر فإن الشرائع الطبيعية والوضعية تبيح له دفع القتل عن نفسه ولو بقتل الآخر، إن ما أوردته آنفاً لا يعني أنني أقر أو أبيح أياً من أنواع القتل الذي ذكرتها بل القصد أننا نجد من يعطي هذه التبريرات التي قد يصمت المجتمع أمامها.

وما لا أفهمه، ولا يمكن لأحد أن يفهمه هو القتل العبثي، ذلك القتل الذي لا ضوابط له ولا حدود، ذلك القتل الذي يطيح بالحياة في كل صورها الإنسانية والحيوانية والنباتية، ويعصف بالحجر والبشر والحديد وغيره من المعادن، ذلك القتل الذي يتم بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة بين المدنيين، في المدن والشوارع والمساجد والمدارس وأماكن الاجتماع العام. ولا أتطرق هنا لمن يفجر نفسه بالمقاتلين من الجنود والعسكر ومن في حكمهم، فذلك قد يصنف بأنه عمل حربي ضد جنود مقاتلين، وهو أمر آخر.

 ماذا يعني أن يتعمد إنسان قتل أناس عزل يسيرون في الشوارع أو الأسواق أو في مكاتب عملهم أو حتى وهم قابعون خلف أبواب منازلهم أو على أسرتهم؟

ما هي فلسفة هذا القاتل؟ وإلى ما يستند فاعله ليبرره لنفسه؟

شاع هذا النوع من القتل على أيدي جماعات القاعدة وغيرهم من الجماعات التي توصف بأنها سلفية متشددة، وهذه الجماعات تعرف نفسها بأنها منظمات وحركات إسلامية تسعى من أجل إقامة حكم الله في الأرض، ونحن نعرف بأن الإسلام دين يدين الناس به لرب العالمين، وأنه جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ليحيا الإنسان معه حياة الأمن والاطمئنان وقد أقر معظم فقهاء الدين أن الإسلام قد وضع التشريع ليحفظ الكليات الخمس وهي: النفس، والدين، والمال، والعقل، والنسل. وعلمنا أيضاً فيما علمنا أنه من قال لا اله إلا الله فقد عصم مني دمه وماله، وحسابه على الله، كما قال رسول الله محمد(ص)، وأيضاً لا يحل لامرئ مسلم أن يأخذ مال مسلم آخر إلا بطيب نفس منه، والآيات والأحاديث التي تتحدث عن حرمة الدم والمال والعرض عصية على الإحصاء، فكيف يبيح هؤلاء الناس لأنفسهم الفتك بأرواح وأموال الناس من مسلمين وغير مسلمين.

إن هؤلاء القتلة ليس لهم سند ولا حجة ولا برهان في دين الله، إنهم مجرمون هم ومن يفتي لهم بجواز ما يقومون به، حتى مقولة التكفير التي تشكل عند هؤلاء السند المعتمد لتنفيذ جرائمهم ليس لها أصل في الدين أو في الفقه.

إن الحكم على الناس بالكفر من أجل استباحة أرواحهم وأموالهم، أمر مرفوض شرعاً فمن قال إن الكافر بدين الإسلام هو حلال الدم؟!.. فلو كان الأمر كذلك لما ترك المسلمون الأولون أحداً من ملة الكفر يعيش حياً بين ظهرانيهم أو في بلادهم سواءٌ كان مشركاً أو ملحداً أو يهودياً أو نصرانياً. ولو كان الأمر كذلك لما أبقى المسلمون على معابد النصارى واليهود وبيعهم وأديرتهم في بلاد المسلمين. ولما كان رسول الله (ص) قد أعطى عهد الذمة لمن يريده من أهل الكتاب والمعاهدين ولما جعل أذية الذمي كأذية النبي(ص). (من آذى ذمياً فقد أذاني)، وفي رواية أخرى فأنا خصيمه يوم القيامة.

أما المسلمون فقد قال فيهم(ص): "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". ولا يباح دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث:" النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة". ولا بد لإقامة الحد أو القصاص من شروط وقيود وضوابط، فتكون أمام جهة موثوقة، وهي تتمثل في وجود الإمام أو من ينوب عنه، ولا بد من محاكمة عادلة مع إعمال قاعدة ادرءوا الحدود بالشبهات، ومع السعي من أجل العفو إذا أمكن.

إن اعتبار كل مخالف هو كافر أمر لا يمكن القبول به لاسيما إذا كان هذا الخلاف ناتجاً عن اجتهاد ومعتبر، فلقد عرف تاريخ المسلمين السياسي والفقهي والاجتهادي خلافات كبيرة، ففي السياسة نجد أن بيعة الخلفاء الراشدين لم تحصل على إجماع الأمة في حينها فهناك من الصحابة من لم يبايع أبا بكر ومنهم من رفض بيعة كل من عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً، ومع ذلك لم يعتبر المعترضون على البيعة خارجين من الملة، بل كانوا مسلمين وكانوا يحصلون على نصيبهم من عطاء الدولة. بل إن علياً كرم الله وجهه لم يمنع الخوارج الذين قاتلوه من عطائهم واعتبر أنهم متأولون، أي أن لهم فهماً انطلقوا منه في مقاتلته، وعاملهم في الحرب على أنهم مسلمون فلم يجهز على جريحهم ولم يلحق بمن فرَّ منهم ولم يبح سلبهم.

وكذلك الاختلاف في الفقه والاجتهاد وكان واسعاً باتساع هذا الدين فما من قضية إلا ووجد فيها وجه من وجوه الاختلاف كبر أو صغر فبأي حق يضيق هؤلاء الموتورون دينياً على الناس في سلوكهم وفي دينهم وعباداتهم.

إن أئمة هؤلاء الموتورين، غير معروفين بالعلم أو الاجتهاد، وهم ليسوا من أهله قطعاً، فأين هي كتبهم التي يظهرون من خلالها علمهم، إنهم مجرد أمراء حرب ودعاة قتال يجتزئون النصوص ويحرفونها، يأخذون ببعض الكتاب ويعرضون عن بعض، ويخاطبون العامة وضعفاء العقول بخطاب التعبئة والتحريض، وحجتهم في ذلك أن أعداء الإسلام في الغرب والشرق يتآمرون على الدين ويسعون للقضاء عليه.

وهذه الحجة ساقطة فمتى لم يكن الإسلام هدفاً لمؤامرات أعدائه عليه، ولكن الرد على تلك المؤامرات لم يكن يوماً من الأيام بهذه السبل والأساليب المخالفة للشرع والدين. فعلى فرضية أن هؤلاء سيقيمون يوماً ما على أرضٍ ما دولتهم، هل يتوقع أحدٌ لهذه الدولة أن تعيش وأن تحقق الرفاهية والعدالة لشعبها؟ أم أن العالم بأسره سيتحد ضدها لإسقاطها والقضاء عليها، أن المسلم كيّسٌ فطن، ينبغي أن يكون قادراً على إدراك مصالحه وكيفية تحقيقها والحفاظ عليها. والمؤسف أن من المسلمين من تدفعه عصبيته وغرائزيته ومذهبيته أما لتأييد هذا المنهج أو للسكوت عليه ومهادنته، وذلك لغايات مشبوهة أو مصالح دنيئة، وهذا في حد ذاته سلوك شيطاني، لاسيما حينما يصدر عن أدعياء العلم والدعاة أو المتنكرين بزي أهل الدعوة إلى الله.

وربما يطرح البعض تساؤلاً حول تعرض المسلمين للظلم من قبل القوى الدولية الخارجية أو من قبل الحكام المحليين، وكيفية مواجهة هذا الظلم والرد عليه.

والجواب هو: نعم، هناك ظلم وطغيان تجب مواجهته ورفضه وإسقاطه، ولكن بالطرق والوسائل والأساليب التي تحفظ الأمة وتحفظ أفرادها ومصالحها ومصالح الأفراد أيضاً.

وإذا كان الغرب يتآمر علينا كأمة وكدين وكشعوب ويستخدم في ذلك كل ما أوتي من علم وعقل وتقنية، فإن الرد عليه يجب أن يكون بنفس المستوى العلمي والعقلي والتقني، وليس بعملية إرهابية هنا أو هناك، والرد على الطغيان المحلي المستند في وجوده وقوته إلى الدعم الخارجي يكون بنشر الوعي والمعرفة وبعدم الاستزلام للمصالح والمنافع التي قد يمنحها الطغيان هنا أو هناك، وإذا كان لا بد من ثورة على الطغيان، فيجب أن تكون هذه الثورة نابعة من إرادة الشعب وأن تكون عاقلة بحيث لا يكون الضرر الناجم عنها أكبر أو أشد من الضرر الناجم عن وجود حاكم طاغية، فيتم تدمير البلاد وقتل العباد وتشريد الناس من بلادهم ومدنهم وشيوع أنواع من الفساد لم تكن شائعة تحت حكم الطغيان.

نحن اليوم نعيش أزمة وجودية بكل ما للكلمة من معنى، لدرجة أن مواجهة المؤامرة هي بحد ذاتها مؤامرة، لقد استطاع الأعداء وعملاؤهم دفع هذه الأمة إلى الاقتتال فيما بينها، وما نشهده اليوم في تونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق والبحرين، هو النتيجة الحتمية لاستجابتنا لهذه المؤامرة.

وإذا كان في تاريخ العرب القديم حروب تحولت إلى رمز للاقتتال بلا معنى مثل حرب البسوس وحرب داحس والغبراء، فإن ما يحصل في عالمنا العربي اليوم سيكون عبرة للأجيال القادمة من أبناء هذه الأمة إذا بقيت أمة وبقيت أجيال. 

اعلى الصفحة