الانعطافة التركية والمراجعة المطلوبة

السنة الثالثة عشر ـ العدد 144 ـ ( ـ محرم ـ صفر 1435 هـ) كانون أول ـ 2013 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لم يعد صوت رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يأتي هادرا مهددا، يطالب برحيل الرئيس السوري بشار الأسد بعد أن اختفت من تصريحاته سياسة الفرصة الأخيرة وحماه خط أحمر ولن نسمح بكذا وكذا، كما لم يعد رأس الدبلوماسية التركية ومنظر سياستها الخارجية أحمد داود أوغلو يتحدث بلغة الحل العسكري بل بات الحل السياسي ضرورة كما يقول في تصريحاته الأخيرة.

فيما باتت تركيا تبدي مخاوفها من تصاعد نفوذ الجماعات المتشددة التابعة للقاعدة مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف بداعش وجبهة النصرة على الحدود السورية التركية وما تشكله هذه التنظيمات من خطر على تركيا وأمنها الداخلي. وغير بعيد عن سوريا تبدي أنقرة هذه الأيام شوقا كبيرا إلى فتح صفحة جديدة في العلاقة مع بغداد وترسل المسؤول تلو الأخر إلى هناك وعلى نفس الخط تستقبل العديد من المسؤولين العراقيين، كما ان سياستها تجاه إيران بدأت تعود إلى حالة من البراغماتية القائمة على المصالح بعد فترة من ممارسة خطاب يحمل أبعادا طائفية وسياسية تصب في خدمة البلوك الغربي، فما الذي جرى للسياسة الخارجية التركية حتى حصل كل ذلك؟ وهل ثمة انعطافة في أفق السياسة الخارجية التركية؟ وهل حكومة حزب العدالة والتنمية التي أوصلت الدبلوماسية التركية إلى مستوى الصدام والتوتر مع الجوار قادرة من جديد على إصلاحها علاقاتها مع هذه الدول بما يشبه العودة إلى سياسة صفر المشكلات؟

دلالات الانعطافة

من يراقب السياسة التركية خلال الفترة الأخيرة سيرى أن أنقرة ترسل المزيد من الإشارات التي توحي بأن ثمة استدارة في سياستها الخارجية ليس تجاه الأزمة السورية فقط، بل تجاه العراق وإيران ولبنان ومجمل المنطقة، فمنذ صفقة الإفراج عن اللبنانيين التسعة الذين خطفوا في بلدة أعزاز السورية شمال حلب تبدي تركيا مرونة سياسية تحمل وراءها ملامح انعطافة سياسية، ولعل جوهر هذه الانعطافة مرتبطة بخطأ الحسابات التركية تجاه الأزمة السورية بعد أن اعتقدت أنقرة أن مسألة إسقاط النظام السوري ستكون سهلة وأنها مسألة وقت لا أكثر، وبناء عليه ربط حزب العدالة والتنمية سياسته المستقبلية وحساباته تجاه المنطقة بإسقاط هذا النظام أملا في بناء شرق أوسط جديد، تكون تركيا الدولة القائدة له المهيمنة عليه.

وانطلاقاً من هذا التصور مارست أنقرة سياسة مزدوجة تجاه العراق وتدخلت في شؤونه الداخلية، فمن جهة طورت علاقاتها مع إقليم كردستان العراق إلى أقصى ما هو ممكن دون التنسيق مع بغداد، ومن جهة ثانية تحولت إلى طرف عراقي داعم ضد طرف أخر وهو ما زاد من وتيرة الشحن الطائفي في البلاد ولاسيما بعد استضافتها طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي ورفضها تسليمه إلى بغداد رغم صدور مذكرة دولية بذلك ضده، وفي الملف النووي الإيراني تحولت تركيا من دور الوسيط وطرح المبادرات إلى القيام بدور نقل الرسائل الأمريكية والاصطفاف في البلوك الغربي، هذه السياسة أثبتت التطورات اللاحقة خطأ حساباتها وعدم فهمها الحقيقي لطبيعة الصراع والعلاقات في المنطقة، وعليه فإن الاستدارة التركية تحمل ملامح إدراك خطورة هذه المسألة على تركيا التي بدأت تحس بعزلة إقليمية خاصة بعد سقوط حكم مرسي في مصر ومن خلفه مشروع الأخوان المسلمين في المنطقة، فأردوغان الذي قال في رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ما لم يقله مالك في الخمر وطائفيته أرسل له العديد من المسؤولين الأتراك إلى بغداد، كما استقبل العديد من المسؤولين العراقيين إلى أن توجت هذه الجهود بلقاء مع نظيره العراقي نوري المالكي، وباتت الصحافة التركية الدائرة في فلك أردوغان تتحدث عن فتح صفحة جديدة بين البلدين وعن التاريخ والمصالح المشتركة. كذلك أردوغان الذي قال في الرئيس السوري بشار الأسد ما لم يقله عن دكتاتورية صدام حسين بات يرى أن الأزمة السورية تمر عبر جنيف أثنين ويتحدث عن الحل السياسي وسط حديث عن ضغط تركي على الائتلاف الوطني السوري للذهاب إلى جنيف أثنين، وتركيا التي دعمت التنظيمات الجهادية المقاتلة في سوريا وفتحت أراضيها ممراً ومأوى وتسليحاً لها وظلت تصف هذه الجماعات بالراديكالية، باتت تتحدث عن خطر هذه الجماعات (النصرة وداعش) على الأمن الداخلي التركي وتقصف مواقعها داخل الأراضي السورية، وتركيا التي دخلت في صدام مع إيران على الأزمة السورية باتت تسرب وتكشف أسماء أعضاء شبكات التجسس الإسرائيلية على إيران في تركيا. وعليه فإن كل ما سبق يطرح تساؤلات عن الاستدارة التركية وطبيعتها وآفاقها.

في الواقع، ثمة من يرى أن التحول التركي مرتبط بالتطورات الإقليمية والدولية، وفي المقدمة منها سقوط حكم مرسي في مصر والذي أصاب المشروع التركي الإقليمي بمقتل، وكذلك مرتبط  بالاتفاق الروسي – الأمريكي على الحل السياسي للأزمة السورية عبر جنيف أثنين بعد الاتفاق على تفكيك ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية ونزع خيار الضربة العسكرية الذي كاد أن يحصل، وأيضاً مرتبط بالتقارب الأمريكي – الإيراني في عهد الرئيس حسن روحاني وتوفر إمكانية نجاح الحوار بين الغرب والجمهورية الإسلامية في التوصل إلى اتفاق تاريخي بشأن الملف النووي الإيراني، كما انه مرتبط بالتوتر التركي السعودي – الخليجي (ما عدا قطر) على خلفية كل هذه الملفات بعد أن اصطدم الجانبان في مصر على خلفية الموقف من مشروع الأخوان المسلمين في مصر والمنطقة. وعليه فان الغزل التركي لكل من العراق على قاعدة المصالح الضاغطة، وإيران على قاعدة التوازن الإقليمي، واللغة الجديدة تجاه الأزمة السورية على قاعدة اتفاق الكبار، تشير إلى براغماتية تركية قد تنتج انعطافة تركية في اللحظة المناسبة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا وبقوة، هل أدوات الانعطافة التركية موجودة ؟ بمعنى أخر، هل الرموز الحالية أي أردوغان وأوغلو وغيرهم الذين وقفوا خلف السياسة التركية السابقة هي نفسها تصلح لهذه الانعطافة ؟ ثمة من يرى أن ذلك ممكناً في ظل تجربة السياسة التركية انطلاقاً من التجربة الليبية، وثمة من يرى أن رأس أوغلو بات على المشرحة، وثمة من يتحدث عن التجربة القطرية في ظل ارتفاع أسهم رئيس الاستخبارات التركية حقي فيدان، فيما يرى آخرون أن الاستحقاق الانتخابي التركي الذي بات على الأبواب قد يكون المخرج من كل ما سبق.

العامل الكردي بين الدور والتحدي

باتت القضية الكردية في تركيا وعموم المنطقة تحتل أهمية إستراتيجية قصوى في السياسة التركية الداخلية والإقليمية، لكن مشكلة تركيا في تعاملها مع هذه القضية تكمن في ازدواجيتها تجاه الأكراد، فهي من جهة تبدي المزيد من الانفتاح على أكراد العراق وتحاول بناء مصالح إستراتيجية معهم في إطار تعزيز النفوذ التركي الإقليمي، ومن جهة ثانية تمارس سياسة الالتفاف على المطالب والحقوق الكردية في تركيا، وتعمل بكل الوسائل إلى جعل أصوات أكراد تركيا الذين يقارب عددهم 20 مليون نسمة تصب في مصلحة حزب العدالة والتنمية للبقاء في سدة السلطة أطول مدة ممكنة حيث يسعى أردوغان إلى إعادة ترتيب البيت الداخلي التركي، من خلال دستور جديد يسمح له بالوصول إلى سدة الرئاسة في العام المقبل. لكن أردوغان في سياسته الكردية كثيرا ما يواجه بعدم دقة حساباته السياسية نظرا لرهاناته الخاطئة، فهو راهن على انه بمجرد  فتح الحوار مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المعتقل في تركيا منذ نحو 15 عاماً والحديث معه عن السلام واتخاذ خطوات شكلية سينجح في دفع حزب العمال الكردستاني إلى التخلي عن سلاحه بل والانخراط في المشروع التركي تجاه المنطقة، لكن الذي جرى أن حزب العمال كان مدركاً لأبعاد سياسة أردوغان هذه والتي باتت على المحك وتنذر بالفشل مع احتمال العودة إلى الحرب الدموية بين الجانبين. الأمر الثاني الذي أدى إلى خلط حسابات أردوغان كردياً هو وضع أكراد سوريا، إذ أن تداعيات الأزمة السورية ساعدت أكراد سوريا في بناء ما يشبه كيان خاص لهم بات يشكل تحديا جديدا للسياسة التركية، وعليه أثار إعلان أكراد سوريا الإدارة الذاتية في مناطق شمال شرق البلاد الكثير من الجدل وردود الفعل من قبل المعارضة السورية المرتبطة بتركيا فضلا عن الأطراف الإقليمية ولاسيما أنقرة.

الثابت أن خطوة أكراد سوريا هذه لم تكن ممكنة لولا تداعيات الأزمة السورية التي ساهمت في بروز دور المكون الكردي الذي فرض نفسه لاعباً أساسياً في المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد خصوصاً بعد ما نجح في تحقيق انتصارات ميدانية كبيرة على تنظيم داعش وجبهة النصرة في مناطق رأس العين على الحدود مع تركيا ومعبر اليعربية – تل كوجر على الحدود مع العراق، وهو ما أعطى زخماً قوياً لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لجهة فرض سيطرته على المناطق الكردية كقوة وحيدة في هذه المناطق وسط جدل بشأن علاقته بالنظام السوري وأهمية هذه الخطوة للطرفين. حيث يرى هذا الحزب أن أسباب إقامة الإدارة الذاتية باتت ملحة وضرورية، إذ أن الإعلان عنها جاء نتاجاً طبيعياً للوضع الذي نشأ في المناطق الكردية بعد ما سحب النظام قواته منها تحت ضغط المعارك في دمشق وحلب وحمص ودير الزور، وبعد ما استلم إدارة هذه المناطق وقام بإدارتها خلال سنتين تقريبا حيث بات الأمر يحتاج إلى تنظيم الأوضاع فيها من جديد وإدارة شؤون الناس وتقديم الخدمات وتنظيم العلاقات الاجتماعية، خصوصاً أن هذه المناطق مختلطة سكانيا لجهة المكونات القومية والدينية والطائفية، ففيها إلى جانب الأكراد عرب وآشوريين وكلدان وأرمن وسريان وشيشان وتركمان وايزيدين وغيرهم. وعليه فان مهمة المجلس المكون من 82 عضواً يمثلون 35 حزبا ومنظمة، هو إدارة هذه المناطق إدارياً وتنظيمياً بعد أن تم تقسيمها إلى ثلاثة كانتونات هي القامشلي، كوباني (عين العرب) وعفرين وهي مناطق كردية على امتداد الحدود السورية التركية تفصلها جيوب عربية تجعل من الصعب إقامة وحدة جغرافية بين هذه المناطق.

وقد تزامن إعلان الإدارة الذاتية مع أحداث مهمة، كانضمام المجلس الوطني الكردستاني المؤلف من 13 حزباً كردياً إلى الائتلاف الوطني السوري في اسطنبول، والإعلان عن حكومة الائتلاف برئاسة أحمد الطعمة، وسيطرة قوات وحدات حماية الشعب الكردية على سلسلة مواقع إستراتيجية في محافظة الحسكة ولاسيما معبر اليعربية مع العراق، ولهذا الأمر أهمية بالغة بالنسبة للمناطق الكردية، إذ أنه فتح للمرة الأولى هذا المعبر بين المناطق الكردية السورية والعراق في ظل إغلاق معبر سيمالكا مع إقليم كردستان العراق بسبب الخلافات بين قيادة الإقليم وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على خلفية اتهام قيادة الإقليم لحزب الاتحاد بالإنفراد في فرض سيطرته على المناطق الكردية والعمل لمصلحة النظام السوري، فيما لا يتوانى الحزب عن اتهام الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الإقليم مسعود البرزاني بمحاولة فرض إملاءات خارجية على أكراد سوريا (غرب كردستان) والعمل لصالح الأجندة الإقليمية لتركيا. لكن المشكلة أو التحدي الأساسي أمام تركيا هنا، يتعلق بالتطلعات الكردية القومية وتداعيات خطوة أكراد سوريا على أكراد تركيا الذين يتواصلون مع أبناء جلدتهم في سوريا، وقد كانت أولى ردود الفعل التركية السريعة، البدء بإقامة جدار عازل على الحدود مع سوريا في المناطق الحدودية الموازية لمنطقة القامشلي، وهو ما أدى إلى ردود فعل كردية غاضبة في تركيا تجسدت في اعتصامات ومسيرات رافضة لإقامة الجدار، تخللها اشتباكات بين الأهالي وقوات الأمن، أجبرت في النهاية الحكومة التركية على تجميد استكمال بناء الجدار.

ولعل ما زاد الجدل والخوف التركيين بشأن خطوة إعلان أكراد سوريا عن الإدارة الذاتية، هو غموض الهدف السياسي لهذه الخطوة، بين من يرى أن الهدف النهائي هو الانفصال وتأسيس إقليم كردستان سوريا على غرار إقليم كردستان العراق، ومن يرى أن المسألة لا تخرج عن إطار سيناريو متفق عليه بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام السوري ومحاربة التنظيمات الإرهابية مثل داعش والنصرة، وأن الهدف هو إدارة هذه المناطق خدمياً وإدارياً إلى حين انتهاء الأزمة السورية والاتفاق على صيغة جديدة للعلاقة بين الجانبين. لكن في جميع الأحوال تنظر تركيا بعين الخوف والقلق إلى هذه الخطوة، وعليه صدرت منها أقوى ردود الفعل الرافضة للمشروع، فقد أعلن رئيسها عبد الله غل أن بلاده لن تسمح بأمر واقع كردي داخل سوريا، كما وجه كل من أردوغان وأوغلو تصريحات نارية وصلت إلى حد التهديد بالتدخل المباشر لمنع ذلك كما حرضت القوى والأحزاب الكردية على التحرك ضد هذه الخطوة من زاوية دعم انضمامها إلى الائتلاف الوطني السوري المعارض، وفي حقيقة الأمر تبدو تركيا الدولة الأكثر معنية بالحالة الكردية السورية نظراً لتداخل الأكراد على جانبي الحدود، فضلاً عن أن صاحب مشروع الإدارة الذاتية هو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي يعد عملياً الفرع السوري التابع لحزب العمال الكردستاني حيث تخشى تركيا من أن ينقل حزب العمال الكردستاني ثقله من مناطق جبال قنديل في إقليم كردستان العراق إلى المناطق الكردية السورية إذا ما نجح مشروع الإدارة الذاتية خصوصاً أن العلاقة بين هذا الحزب وقيادة إقليم كردستان العراق تشهد المزيد من التوتر في المرحلة الحالية، وانطلاقاً من هذا العامل اتسم أيضاً موقف قيادة إقليم كردستان العراق برفض مشروع الإدارة الذاتية تحت عنوان رفض إقصاء الأطراف الكردية الأخرى، حيث بدا موقف البرزاني الذي زار تركيا مؤخراً متناغماً مع الموقف التركي الرافض لمشروع الإدارة الذاتية.

وتناغماً أيضاً مع الموقف التركي سارع الائتلاف الوطني السوري المعارض إلى مهاجمة الخطوة الكردية وأعلن رفضه المطلق لها، واصفاً حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بالتنظيم المعادي للثورة السورية، فيما اتسم الموقف الأمريكي بالحذر عندما طالب السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد الأكراد بعدم اتخاذ خطوات أحادية الجانب والتركيز على (إنجاح  المعتدلين في الثورة السورية) وهو موقف يذكرنا بموقف الإدارة الأمريكية من إعلان أكراد العراق إقليمهم قبل نحو عقدين من الزمن.

في الواقع، ثمة قناعة عميقة لدى الأطراف الرافضة لهذا المشروع ولاسيما تركيا التي ترى بأن هذا المشروع سيفاقم من التحدي الكردي أمام السياسة التركية الإقليمية بعد ما بدأت هذه السياسة تراهن على القضية الكردية ولاسيما أكراد العراق في تعزيز دورها ونفوذها في المنطقة ولاسيما بعدما فشل المشروع التركي الإقليمي القائم على البعد الإيديولوجي على وقع سقوط حكم مرسي في مصر وتعرض مشروع الأخوان المسلمين في المنطقة إلى ضربة قاتلة.

إلى جانب بروز التحدي الكردي السوري أمام السياسة التركية هناك التحدي الأخر الذي تمثله التنظيمات الإسلامية المتشددة المرتبطة بالقاعدة، أي داعش وجبهة النصرة، حيث بدأت تركيا تخشى على أمنها الداخلي من هذه التنظيميان خصوصاً وأنها أنشأت ما يشبه إمارات إسلامية في المناطق الشمالية المجاورة للحدود التركية. وهو ما دفع بالعديد من الكتاب الأتراك إلى دعوة أردوغان للتراجع عن سياسته المتهورة تجاه الأزمة السورية والتي جلبت العديد من المخاطر على تركيا وأمنها بعد أن كانت حدودها مع سوريا هي حدود للتعاون والتجارة والمشاريع الاقتصادية المشتركة.

تركيا إلى أين؟!

 من الواضح أن التحولات السريعة الجارية في المنطقة ولاسيما تلك المتعلقة بالأزمة السورية دفعت بالحكومة التركية إلى نوع من المراجعة السياسية ومحاولة التقليل من الخسائر والتداعيات السلبية على أمنها الداخلي، فالسياسة التركية تشعر بنوع من الخيبة والتعثر والعزلة على خلفية ما وصلت إليه هذه السياسة تجاه قضايا المنطقة، وفي كل هذا تتجه الأنظار إلى الدبلوماسية التركية ومنظر سياسة العمق الاستراتيجي وصفر المشكلات أي وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي يحمله العديد من الأوساط التركية المسؤولية المباشرة عن ما جرى لهذه الدبلوماسية من خيبات وانكسارات، ولعل مصدر تحميله المسؤولية تنبع من أن أوغلو نفسه هو من انقلب على نظرية صفر المشكلات وتحول إلى نافخ إيديولوجي بلون طائفي يتحدث عن بدء دور (الإحياء السني) مع  (فلول عهد الإحياء الشيعي) وهو ما أثبتت التطورات عدم صحة هذه الرؤية، فضلا عن افتقارها للفهم الدقيق لمعادلة السياسة والعلاقات بين دول المنطقة وشعوبها، وعليه فإن السؤال الأساسي هنا من يتحمل مسؤولية خيبات السياسة التركية هذه؟ وهل سيكون أوغلو ضحية الانعطافة التركية الجديدة تجاه دول المنطقة؟ وإذا كان ذلك مطلوباً فكيف وبأي شكل؟ وكذلك ماذا عن مسؤولية أردوغان نفسه عن كل ما جرى؟.

في الواقع، كثيراً ما توجه سهام المسؤولية والنقد في تركيا إلى داود أوغلو بوصفه الرجل الذي تولى الملف السوري، إذ ترى الأوساط  التركية أن الدبلوماسية التركية بالغت كثيراً في التدخل في الأزمة السورية إلى درجة أنها جعلت من تركيا رأس حربة فيما يجري، وهو ما أدى إلى صدام جيو/استراتيجي مع كل من العراق وإيران وروسيا، فضلاً عن الدولة المعنية أي سوريا، ما أدى كل ذلك إلى تبخر نظرية صفر المشكلات والانفتاح على عمق المشكلات، ولعل نظرة سريعة إلى الدبلوماسية التركية في هذا المجال تؤكد ما سبق، فالعلاقة التركية مع كل من سوريا وإيران والعراق وروسيا وصلت في المرحلة الماضية إلى حد التوتر، والمصالحة مع أرمينيا واليونان تبخرت، والخلافات مع قبرص ظلت مكانها، وفي كل هذا يحمل الأتراك المسؤولية إلى أوغلو نفسه، إذ يرى هؤلاء انه كان يجب على أوغلو أن ينظر إلى تداعيات دبلوماسيته وتأثيراتها التي باتت تشكل تهديدا مباشرا لتركيا نفسها ومن الداخل، فضلا عن التداعيات الاقتصادية التي ترخى بظلالها على مجمل الحياة الاقتصادية والمعيشية في البلاد. والخيبة الدبلوماسية التركية هنا، تبدو مزدوجة، فإلى جانب خسارة العديد من المصالح مع دول الجوار الجغرافي تبدو هذه الدبلوماسية في خيبة أعمق إزاء الحليف الأمريكي الذي له أولويات مختلفة تجاه المنطقة، ولعل التراجع الأمريكي عن ضرب سوريا عسكرياً والتوافق الأمريكي الروسي بعد الاتفاق على نزع الأسلحة الكيميائية السورية فضلاً عن الأجواء الإيجابية بين واشنطن وطهران بعد المكالمة الهاتفية بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونظيره الإيراني حسن روحاني على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، كل ذلك قلب من الحسابات التركية من جهة، ومن جهة ثانية عمّق من الخيبة التركية إزاء الرهان على واشنطن في الأزمة السورية، ودفع تركيا إلى مراجعة حساباتها، بل ووضعها في حيرة كبيرة لجهة الخيارات الإستراتيجية وكيفية التعامل مع دول الجوار الجغرافي والأزمات الناشبة، وهذا أمر يكشف حقيقة عدم الفهم التركي لطبيعة العلاقات الدولية في المنطقة فضلاً عن اختلاف الحسابات الأمريكية عن التركية لجهة الأولويات والمصالح والاستراتيجيات وهو ما لم يدركها أردوغان جيدا في رهانه على واشنطن.

الثابت أن تركيا فقدت الكثير من مصداقية دبلوماسيتها، كما فقدت بريق الشعارات التي كانت ترفعها تجاه دول المنطقة وشعوبها بعد أن أظهرت الحقائق مدى ارتباطها بالغرب استراتيجيا واستعدادها للقيام بدور وظيفي لمصلحة الغرب تجاه المنطقة على أمل تحقيق تطلعات جامحة من وحي العثمانية الجديدة التي بعثها احمد داود أوغلو في زمن حزب العدالة والتنمية الذي هو الفرع التركي للإخوان المسلمين، وفي كل هذا يتحمل أوغلو المسؤولية، فنجم الرجل الذي وصف في يوم من الأيام  بكيسنجر تركيا  لم يبدأ بالأفول فحسب بل باتت عبارات الخيبة والانهيار، مرافقة لصورته فيما بدأ نجم رئيس الاستخبارات التركية حقي فيدان يلمع في سماء تركيا كرجل ينسق مع أردوغان ويرتب المشهد التركي الداخلي من جديد، في الداخل من زاوية الحفاظ على عملية السلام مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان وفي الخارج بفتح صفحة جديدة مع بغداد عبر توازن دقيق للمصالح بينها وبين أربيل، وربما محاولة استغلال الطرفين لتحقيق المزيد من المصالح التركية، بما يفتح كل ذلك جسورا جديدة مع دول المنطقة ولاسيما إيران بل وحتى سوريا في مرحلة لاحقة خاصة إذا انطلق قطار جنيف.                                

وفي النهاية، يرى كثيرون أن الانعطافة التركية هذه لن تصبح حقيقية إلا عبر استحقاق داخلي تركي يغير من المشهد التركي وأدواته، كل ذلك مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية والرئاسية في النصف الأول من العام ومن ثم البرلمانية في العام الذي يليه.              

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)  

اعلى الصفحة