الجريمة المنظمة والفساد السياسي في الكيان الصهيوني

السنة الثالثة عشر ـ العدد 144 ـ ( ـ محرم ـ صفر 1435 هـ) كانون أول ـ 2013 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي هز انفجار قوي حياً راقياً في "تل أبيب"، وأدى إلى تحطيم نوافذ المنازل والى صدمة قوية لقوى الأمن الإسرائيلي. فقد وضعت متفجرات تحت سيارة المدعي العام في "تل أبيب"، الذي يلاحق رؤساء المافيا وشخصيات أخرى في عالم الجريمة المنظمة. تم تدمير السيارة بشكل كامل. ولم يصب أحد بأذى في الانفجار وكان ذلك بمحض الصدفة.

جاء هذا التفجير بعد تفجير سيارتين في مستوطنة اشكلون الجنوبية في الأسابيع الأخيرة، حيث قتل مجرم معروف وأصيب اثنان آخران بجراح حرجة. في هذين الحادثين أيضاً لم يصب المارون بأذى. السكان الذين اختبروا وابل الصواريخ التي تطلق من قطاع غزة المجاور بين الحين والآخر في السنوات الأخيرة، كانوا غاضبين جداً جراء هذه الانفجارات.

وتعليقاً على ذلك قال وزير الأمن الداخلي يتسحاك أهرونوفيتش: "نحن نتحدث عن إرهاب من جميع النواحي". أهرونوفيتش، نائب المفتش العام للشرطة سابقاً، قال أنه طلب من المستشار القضائي للحكومة ووزير العدل أداتين إضافيتين: اعتقالاً إدارياً ووقائياً لرؤساء المنظمات الإجرامية وتسهيل قوانين الأدلة للسماح للشرطة بتقديم معلومات استخباراتية في المحكمة دون الحاجة أن تشارك المعلومات مع محامي الدفاع، وذلك من أجل حماية المصادر والطرق. وأضاف إنه "حالياً لا توجد لدي الرزمة القانونية لذلك لأن هذا لا يعتبر إرهاباً".

الأسباب الرئيسية للجريمة

يتضح من تقارير اللجان التي تبحث في الجريمة داخل "الكيان الصهيوني" أن بعض الأسباب الأساسية للجريمة المنظمة نابع من طبيعة تكوين "المجتمع الصهيوني". فقد أدى، مثلاً، وصول موجات الهجرة الكبيرة، من يهود الدول الآسيوية والإفريقية، إلى فلسطين المحتلة خلال السنوات الأولى لقيام الكيان، ثم محاولة استيعاب أولئك المهاجرين وفق التقاليد والمفاهيم الغربية أدى إلى تحطيم القيم والعادات التي جلبها المهاجرون من مجتمعاتهم المحافظة، ونجم عن ذلك بروز شعور بالغربة لدى الجيل الشاب بالنسبة للعائلة وتقاليدها. كذلك يعتبر الباحثون أن نظام التعليم الصهيوني مسؤول، إلى حد ما، عن ظهور الجريمة وتفاقمها، حيث أنه لم ينجح في إعطاء هؤلاء المهاجرين أية قيمة إيجابية بدلاً من التي جلبوها معهم، والتي كانت أساساً صلباً في بلدانهم التي قدموا منها، وقد كان من نتيجة هذه العملية حدوث أزمة عدم وجود قيم، وهذه هي التي شكلت في كثير من الأحيان عاملاً للجريمة. كما اعتبرت طريقة التدريس عاملاً في بروز الجريمة، إذ أنها تهتم بالتعليم وتهمل التربية، فتشدد في إنجاز البرامج وإكمالها وليس في إكساب الطلاب القيم التربوية، ومن هنا فإنه ليس بإمكان الشباب الصمود في مواجهة العوامل التي تحطم القيم الأخلاقية وخاصة في الأحياء الفقيرة.

ويرى البعض أن التوتر والحالة النفسية الصعبة اللذين يعاني منهما "المجتمع الصهيوني"، وكذلك الاستمرار في التحريض على الحروب تشكل عوامل رئيسية في ارتكاب أعمال العنف والجريمة. وتحدث الدكتور بنيامين يانوف، المحاضر في جامعة بارايلان عن التوتر الذي يعيشه "المجتمع الصهيوني" بسبب الحروب، وعن الأزمات الحرجة التي خلقتها الحروب قائلاً: "من المؤكد أننا ندفع الثمن، وأن التوتر الأمني الصعب يؤثر على سكان الدولة.. إنني أعتقد بأن سلوك السائقين الإسرائيليين العنيف على الطرقات، من خلال غياب الحذر وغياب التهذيب، ليس صدفة. فالتوتر الأمني الذي يسود البلاد يترك طابعه وله تأثير كبير على السلوك العنيف".

وهناك أيضاً نصيب كبير، في دفع عجلة أعمال العنف والجريمة إلى الأمام، للأصول الحضارية المختلفة "للمجتمع الصهيوني"، الأمر الذي يسبب في كثير من الأحيان صدامات بين الجيران. كما أن الفجوة الاجتماعية والطائفية قد ساعدت على انتشار العنف والجريمة، إذ أن تركيب هذا المجتمع، نفسه يحتوي في طياته على عوامل تساعد على خلق مثل هذه الظواهر. كما أن عدم وجود إيديولوجيا واحدة مشتركة لدى الإسرائيليين قد أدى إلى ظواهر سلبية منها الجريمة والعنف.

مرتع رجال المافيا

روائح الفساد في جهاز الشرطة "الإسرائيلية" تزكم الأنوف لكنها ضمن المسكوت عنه في الكيان، إذ أن العصابات تسرح وتمرح في ميدان الجريمة الصهيونية دون رادع أو رقيب، هذا أقل ما يمكن أن يقال عما يحدث الآن في شوارع "تل أبيب"، والمدينة الساحلية نتانيا وحيفا وعسقلان وأشدود وغيرها من المستوطنات الصهيونية، حتى غدت حوادث القتل والتصفية الجسدية، روتيناً أسبوعياً في المدن الصهيونية، ينال من الإسرائيليين الذين يصادف وجودهم في مسرح الجرائم فيسقطون "ضحايا" لمليشيات المافيا المسلحة.

وقد صرح ضابط الاستخبارات "الإسرائيلي" (دان أوهاد) أثناء اجتماع مشترك مع السلطات الأمريكية في مانهاتن: "أن اليهود الروس يمثلون 10% من سكان الكيان الصهيوني، وأن 10% من السكان اليهود الروس هم من المجرمين المرتبطين بالمافيا الروسية". ويعلق على ذلك أحد المسؤولين البارزين في وزارة الخارجية الأمريكية قائلاً: "كلما تعقبنا واحداً من زعماء المافيا والجريمة المنظمة الروسية، يتبين أنه يحمل جواز سفر إسرائيلياً".

والحقيقة أن رجال المافيا الروسية يهتمون بالحصول على الجنسية "الإسرائيلية" لعلمهم أن الكيان الصهيوني مرتع أمن لأمثالهم. فهي لا تلتزم بمعاهدات تسليم المجرمين، كما أنها مصنفة ضمن أفضل أماكن غسيل الأموال في العالم. وفي هذا السياق حملت الهجرة الروسية إلى الكيان الصهيوني  أعضاء بارزين في عصابات الجريمة المنظمة الروسية، ووجد هؤلاء أرضية خصبه لممارسة أنشطتهم الإجرامية في جميع مستوطنات الكيان الصهيوني، مستفيدين من انشغال الأجهزة الأمنية المختلفة بقمع وحشي للفلسطينيين وفرض الاحتلال على مدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة، فاستطاع زعماء المافيا القادمون من شتى أصقاع الأرض أن يكونوا شبكة مشبوهة مع قيادات الشرطة في الكيان الصهيوني الذين يغمضون أعينهم عن جرائم تهريب المخدرات، وتجارة الرقيق الأبيض، وتهريب العمالة غير الشرعية، وإدارة كازينوهات القمار.

أن فتح هذا الملف – ملف الجريمة المنظمة- بالذات يفتح الباب أمام نتائج خطيرة للغاية تدور حول عدم الشعور بالانتماء للكيان، والرغبة في جمع المال، والتكسب غير المشروع بأي وسيلة، وكل ذلك نتيجة للشعور بالخوف من المستقبل في دولة غير آمنة تكسب كل يوم أعداء جدداً بالجملة، جهاز الشرطة الذي رحب بالمافيا وعصابات الجريمة المنظمة فلتت الأمور من بين أصابع يديه، حتى صارت أحياء المستوطنات الصهيونية، مناطق خطرة يحذر على رجال الشرطة ارتيادها، وكل منطقة تتولى أمرها عصابة من عصابات الجريمة المنظمة التي تفرض الإتاوات وتتاجر في المخدرات أو السلاح، وتهريب العمالة، واستيراد عشرات الفتيات من روسيا ودول شرق أوروبا بحجة العمل في المطاعم والفنادق ومن ثم تقوم بإجبارهن على العمل في البغاء، ويتولى أمر كل عصابة من هذه العصابات أب روحي في سن الشباب يحيط به العشرات من الحراس الشخصيين المدربين على أعلى مستوى، ويتم انتقاء غالبيتهم من المُسرّحين من الخدمة العسكرية في جهاز الشاباك والوحدات الخاصة بالجيش، وهؤلاء من جانبهم يقبلون على مثل هذه الأعمال والوظائف في العالم السفلي، تحت إغراء المرتبات الضخمة، والنفوذ الهائل الذي يحصلون عليه في ظل حماية زعماء المافيا الصهيونية.

وعلى هامش هذه العمليات الإجرامية المنظمة نشأت مجموعة من العصابات متوسطة النفوذ التي تقوم بمهمة جمع الديون وتحصيل الشيكات وإيصالات الأمانة مستحقة السداد، وتأمين الأنشطة غير المشروعة لرجال المافيا تحت تهديد السلاح. ومع ظهور هذه العصابات منذ أوائل التسعينات زادت عمليات التصفية الجسدية وحروب العصابات في المدن بصورة غير مسبوقة، وحصدت تلك الحرب أرواح عشرات الإسرائيليين الذين يصادف وجودهم في مسرح المعارك الدموية بين أباطرة الإجرام في الكيان الصهيوني.

لقد أصبحت قوة عصابات المافيا في "إسرائيل" أعظم بكثير مما يمكن أن نتصوره، فهاهو الكاتب الأمريكي روبرت فريدمان، يقول في كتابه "المافيا الحمراء": "لقد سيطر رجال العصابات في إسرائيل، لقد نجحوا في تحويل إسرائيل إلى دولة صغيرة تابعة لهم". وفي نفس السياق صرح (ليدير) مدير الاستخبارات الإسرائيلية عام 1996 بأن جماعات المافيا الروسية باتت تشكل خطراً وتهديداً استراتيجياً على وجود "إسرائيل".

بدأت عصابات المافيا نشاطها في الكيان الصهيوني منذ فترة مبكرة ولكنها مع نهاية كل حرب كانت تزداد وتضاعف أعمالها الإجرامية، واهتمت بشراء مصانع وصحف وشركات تأمين ومصارف خاصة، بل وحاولت في فترة معينة شراء صحيفة "دافار" التابعة لحزب العمل، وصحيفة "معار يف" ثاني أوسع الصحف انتشاراً في الكيان الصهيوني.

ونتيجة لكل ذلك أبدى عدد من خبراء مكافحة الجريمة المنظمة قلقهم من أن بعض أعضاء العصابات استطاعوا شق طريقهم بالمال ليصلوا إلى عالم السياسة في الكيان الصهيوني. وشراء ولاء السياسيين بالرشاوى. ومن أشهر نجاحا تهم تجنيدهم (ناتان شار انسكي) اليهودي الروسي الذي أسس حزباً يتكون في معظمه من المهاجرين الروس وأسماه حزب (يسرائيل بعليا) وترأسه بنفسه! وأصبح حزبه فاعلاً جداً في الحياة السياسية الصهيونية وفاز بعدة مقاعد في الكنيست. وتلقى شارانسكي تحذيرات أمريكية عدة بسبب علاقاته المتينة ببعض الأعضاء المشهورين عالمياً في عصابات المافيا، مثل جريجوري لوتشانسكي، وهو وسيط شهير بين الحكومات الأجنبية والجريمة المنظمة التقليدية. ومع ذلك لم يرضخ شارانسكي، وحصل من هذا الوسيط على مساعدات مالية من أجل حملته الانتخابية وادعى أنه استخدم بعض المال في توطين المهاجرين الروس الجدد. كما كان شارانسكي واسطة التعارف بين لوتشانسكي وبنيامين نتنياهو قبل حملته الانتخابية عام 1996 وقيل آنذاك أن نتنياهو حصل منه على 51 مليون دولار كمساهمة في حملته الانتخابية.

هذه العلاقات المتشابكة بين عصابات المافيا الدولية والساسة الإسرائيليين والتي طالت أرئيل شارون رئيس وزراء العدو الأسبق، وافيغدور ليبرمان رئيس حزب (إسرائيل بيتنا)، دفعت (بمعيرام متسناع) رئيس حزب العمل السابق أن يتهم حزب الليكود علانية بأنه يخضع لسيطرة الجريمة المنظمة ‍‍‍..

وقد كانت صرخة الوزيرة ليمور ليفنات مدوية وغير مسبوقة، عندما قالت إن جماعات الإجرام المنظم في طريقها للسيطرة على حزب الليكود. اللافت للنظر أن تورط السياسيين في قضايا الفساد لم يعد حائلا دون عودتهم لتبوء مناصب حساسة، بل وتقدمهم في المناصب الوزارية والمواقع الحزبية. فالكل يذكر تفجر قضية "حفرون بارعون" التي تبين فيها أن رئيس الوزراء الصهيوني في العام 1997 بنيامين نتنياهو رغب في تعيين المحامي روني بارعون الذي كان يدافع عن أرئييه درعي الزعيم السابق لحركة "شاس" في قضايا الاختلاس التي أدين بها فيما بعد، كمستشار قضائي للحكومة مقابل أن تؤيد شاس إعادة انتشار الجيش الصهيوني في مدينة الخليل.

وكان معروفاً أن درعي رغب في تعيين بارعون كمستشار قانوني للحكومة من أجل مساعدته في التخلص من لائحة الاتهام الطويلة التي أعدت ضده. وإلى جانب نتنياهو ودرعي وبارعون فقد تورط في القضية أيضاً وزير "العدل" في ذلك الوقت تساحي هنغبي. وباستثناء درعي الذي أدين وحوكم بعد إدانته في قضايا أخرى، لم يتم التعرض لأي من هؤلاء الساسة بأي عقوبات، بل إن بعضهم تقدم في المناصب مثل هنغبي الذي فاز بأعلى الأصوات في الانتخابات التمهيدية التي أجراها حزب الليكود لاختيار نوابه للبرلمان وأصبح وزيرا للأمن الداخلي، في حين تم مؤخرا انتخاب روني بارعون نائبا عن الليكود ورئيسا للجنة "الكنيست" في البرلمان. ومن المفارقة أن هذه اللجنة هي المخولة برفع الحصانة البرلمانية عن النواب الذين تدور شبهات حول تورطهم في قضايا فساد!

أرقام قياسية جديدة

أن ما يجري حول الجريمة وعصابات المافيا يبدو للوهلة الأولى أنه مَشاهد من فيلم هوليودي، من أفضل الأفلام التي تم إخراجها في الآونة الأخيرة، إذ تقع محاولتا تصفية مجرمين كبار خلال عشرة أيام فقط.

وتصلُ صراعات العصابات ومنظمات الجريمة في الكيان الصهيوني إلى أرقام قياسية جديدة عندما يتم تفجير سيارات مفخخة وتصفية حسابات قديمة وجديدة في وضح النهار، دون اعتراضٍ من أحد، في المدن الكبرى.

النقد المدنيّ الحادّ الموجّه ضد نشاط الشرطة، وبالذات فشلها في القضاء على ظواهر العنف في السنين الأخيرة، يمحو كلَّ محاولةٍ لإضفاء ولو قليلٍ من الأمن للمواطن البسيط، الذي قد يجد نفسه في أي لحظة وسط معمعة تبادلٍ للنيران بين عصابات الجنوب وعصابات المركز.

فالحربُ بين منظمات الجريمة حصدت، على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، أرواح 16 صهيونياً، وذلك فقط في (تل أبيب ومحيطها). قُتل بعضهم في تفجير عبواتٍ ناسفة، وآخرون جراء إطلاق نار، وهناك من جُزّ رأسه وتم دفنه في مكانٍ مجهول. لكن التصفيات لا تتوقف عند هذه الحدود فقط، حيث تصل العبوات الناسفة إلى جنوب فلسطين المحتلة وشمالها، كذلك قسم من المرتبطين بالأحداث اختفوا من فوق ظهر الأرض، ولا يعلم أحدٌ حتى الآن ما هو مصيرهم.

من جانبها لا تقف الشرطة مكتوفة الأيدي: فالوحدة المركزية في لواء تل أبيب، "يمار" المركز وطاقم خاص من "قوة لاهف 433" تكرّس وقتًا وترصد قوى عاملة كثيرة في محاولةٍ منها لمنع وقوع التصفية القادمة، لكن غالبية الحالات تبقى غامضة غير محلولة، وبالتالي لا يصل المتهمون إلى المحاكم.

وإضافةً للصعوبات الداخلية التي تعاني منها الشرطة في الكشف عن المتورطين وفي منع التصفية القادمة، فإن رجال الشرطة يقولون إن جهاز القضاء، والقوانين في "إسرائيل" بالذات، تصعّب من مهمتهم في وضع حد للجريمة المنظمة في الكيان، أو على الأقل التضييق على العائلات ذات الصلة. ووفقًا لأقوال مسئول كبير في الشرطة، فإنّ جهازها الاستخباراتي ممتاز ولديه أذرع داخل التنظيمات، لكن القانون هو الذي يقيّد أيديهم. فمثلاً، عندما تنجح الشرطة في الحصول على معلومات استخباراتية من مجرمين، لا يمكنها أن تستخدم هذه المعلومات في المحكمة لأنه إذا طلب محامي الدفاع الكشف عن مصدر المعلومات، فإن رجال الشرطة سيضطرون للكشف عن المخبرين- والذين ليس هناك قانونٌ اليوم يحميهم جرّاء خطوةٍ كهذه.

وتشير الشرطة إلى مشكلةٍ إضافية، والتي ترتبط في واقع الأمر بالمشكلة الأولى، وذلك بشأن العقاب المتبع في إسرائيل. إذ توقِع الجهات المهنية في الولايات المتحدة الأمريكية على المجرمين عقابَ السجن لعشرات السنين الطويلة، ما يجعلُ من مصلحة المخالِفين أن يتحولوا إلى شهود ملَكيين (بمعني شهود دولة). أما في المقابل، فالعقاب في إسرائيل أقصر بكثير، ويفضّل الكثير من المخالفين أن يتعرضوا لست سنوات من السجن بدلاً من التحول إلى شهود ملكيين والعيش في خوف.

مأسسة الجريمة المنظمة

نُشرت في مطلع السبعينات في صحيفة "هآرتس" سلسلة تقارير بشأن مأسسة الجريمة المنظمة في الكيان الصهيوني، مع تفصيل المجالات التي عمل فيها المشتركون في الجريمة، ومن ضمن ذلك القمار غير القانوني، وجباية الأتاوة (الخاوة) وجباية الديون. وقد فندت لجنة الفحص التي تم تعيينها من أجل فحص ادعاءات الصحفيين، ما جاء في التقارير، وقررت أنه لا جريمة منظمة في إسرائيل.

في سنة 1977 نُشرت مجدداً في صحيفة "هآرتس" تحقيقات صحفية كثيرة حول مأسسة الجريمة المنظمة في إسرائيل. وقد خلُصت التحقيقات، إلى أنه ليس فقط أنّ في إسرائيل جريمة منظمة، بل إن لهذه الجريمة علاقات مع شخصيات جماهيرية مرموقة بما في ذلك ضباط كبار في الجيش. في سنة 1978، قررت لجنة تقصي حقائق حكومية، التي تم تعيينها في أعقاب التحقيقات المذكورة، أن هناك جريمة منظمة في إسرائيل.

تبلورَ في إسرائيل في نهاية سنوات التسعينات وبداية الألفين عددٌ من مجموعات الجريمة المنظمة، والتي بدأ الجمهور الواسع بالإحساس بنشاطها، على خلفية تصفيات كان ضحيتها أيضاً أناس بريئون، ومن جملة ذلك محاولة تصفية زئيف روزنشطاين، التي قتل خلالها ثلاثة من المارّة في سنة 2003، وتصفية يعقوب ألفرون سنة 2008 في قلب تل أبيب.

ونشطت شرطةُ إسرائيل وجِهات التحقيق والتحرّي الشرطيّة الخاصة في السنوات الأربع الأخيرة إلى تسليم ومحاكمة عشرات رؤوس عائلات الجريمة. ومنذ أن تم اعتقال المجرمين القدامى، أو تمت محاكمتهم وحبسهم، تغيّرت صورة وضع العالم الجريمة في البلاد. وصل إلى رأس هرم مجرمون جدد- أكثر جرأةً وليسوا أقل قسوة، يعملون بأساليب أكثر تعقيدًا من أساليب الجيل السابق: إليكم نظرة إلى كبار هؤلاء.

أما الآباء المؤسسون فكانوا ثلاثة: زئيف روزنشطاين الملك، وآسي أبوطبول الأمير، بينما إيتسيك أبرجيل ولي العهد الذي انتظر بصمتٍ وقوعَهما. سيطر الثلاثة خلال سنوات الثمانين وحتى أواسط سنوات الألفين على منظمات الجريمة في إسرائيل. فقد سيطروا على سوق القمار غير القانوني، وتاجروا بالمخدرات، بجباية الأتاوات، ومنح قروض في السوق السوداء وتبييض الأموال. لوحدهم أو مع بعضهم البعض، دارت بين أيدي الثلاثة مليارات الشواقل في السنة، فامتلكوا بيوتًا فخمة، وقادوا سياراتٍ مرفهة.

لكن منذ أن مر عقد كامل، تغير الحال. فقد تم اعتقال روزنشطاين، وتم تسليمه للولايات المتحدة الأمريكية، وحُكم عليه بالسجن لمدة 16عاماً ويقضي عقوبة السجن في سجن في إسرائيل. وتم تسليم إيتسيك أبرجيل إلى الولايات المتحدة حيث ينتظر بدء محاكمته، وبالمقابل تمت محاكمة آسي أبوطبول وحُكم عليه بالسجن 18 عاماً بسبب الضلوع في التخطيط لجريمة، والابتزاز وتبييض الأموال.

يقول ضابط كبير في شرطة إسرائيل: "إن الجيل الجديد من منظمات الجريمة أكثر ذكاءً، فهم يستعينون بخبراء الهايتك وباقتصاديين من أجل تبييض الأموال، فهم يستعينون مثلاً بجنود الجيش الذين يختصون بتركيب العبوات الناسفة. وهم أيضًا أكثر (نظافةً) في أدائهم: فمثلاً بدلاً من أن يرسلوا قاتلين مأجورين مثلما كان في الماضي، فإنهم يفجرون عبوات ناسفة عن بُعد أو بواسطة ساعات توقيت جديدة".

عمير مولنر هو رئيس منظمة الجريمة الأكبر في إسرائيل، بدأ حياته جنديًا مغموراً لدى المجرمين القدامى، وانضم في شبابه إلى الكثير من العصابات. انتظرت جميع وحدات الشرطة وقوع مولنر لكنها لم تنجح في إثبات شيء، وكان هو الذي يضحك في نهاية المطاف. يعتبر مولنر مجرماً محنكاً بارد الأعصاب، من الصعب إدانته. قبل سنوات، عندما تم اعتقاله بتهمة حيازة سلاح وحكم عليه بالسجن 32 شهراً، احتفلت الشرطة كما لو أنّه حُكم عليه بالسجن عشر سنوات.

تشير التقديرات إلى أن المنظمة التي يرأسها مولنر، والتي تضم أيضاً مجرمين يهوداً من فرنسا، تضم مئات الجنود، الذين يعملون تحديداً في منطقة المركز. دخلهم الأساسي من تبديل العملات، والقمار غير القانوني عبر الإنترنت، وتجارة الماس، وفضّ الخصومات وجباية الأتاوات. يختص أحد تخصصات رجاله بإنتاج العبوات الناسفة، التي أدت إلى مقتل مجرمين كثيرين في السنوات الأخيرة، من بينهم يعقوب ألفرون. ومن الغنيّ عن الذكر أن الشرطة لم تنجح في إثبات علاقة مولنر بأي واحدةٍ من هذه المحاولات.

شالوم دومراني معروف لدى الشرطة بأنه رئيس منظمة الجريمة الأكبر في الجنوب، وهو يوسع اليوم نشاطه في تل أبيب. تم اعتقاله عدة مرات وأطلق سراحه بعد فترات اعتقال قصيرة. قرر دومراني مؤخراً الهجرة من البلاد إلى المغرب، ثم عاد. أعلنت الشرطة، في تشرين الأول من السنة المنصرمة، إحباط محاولة لتصفيته من قبل مجرمين من منظمة جريمة منافِسة.

تبسط منظمة دومراني نفوذها على فروع تبديل العملات في مركز البلاد وجنوبها. كما يتخصص دومراني بتوزيع الفواتير المفبركة بمليارات الشواقل والسيطرة على مصالح اقتصادية قانونية. تصدر اسمه مؤخرًا العناوين بعد تفجيرين في سيارات مفخخة وقعا في مستوطنة أشكلون.

ريكو شيرازي (51) كان فيما مضى لاعب كرة قدم معروف في مدينة نتانيا، لكنه تعرض إلى إصابة أدت به ترك اللعب وبدأ رويداً رويداً بالتقرب من عالم الجريمة، ويعتبر من المحنكين فيه. يسكن شيرازي اليوم بيتًا فاخرًا في مدينة هرتسليا، ويسيطر على مصالح اقتصادية كثيرة في مجال السفريات والمطاعم وجباية الديون والأتاوات والعقارات. مكث في السجن فقط حتى الآن بتهمة جرائم خفيفة نسبيًا) تزييف، ومضايقة شرطية واعتداء). 

تعتبر الشرطة شيرازي الخبير الأول في مجال تبييض الأموال. ويعتبر مختصًا في غسل أرباح منظمة الجريمة التابعة له، وفي مساعدة مجرمين آخرين ومواطنين عاديين ليس لهم ماضٍ جنائي.

ويعتبر شيرازي العدو اللدود لعائلة أبو بول ولإيتسيك أبرجيل. وتشك الشرطة أن شيرازي، بالتعاون مع شالوم دومراني وعمير مولنر، كانوا ضالعين في تصفية فرانسوا أبوطبول قبل عامين. وتُعزى إلى منظمة شيرازي العديد من التصفيات التي وقعت في السنوات الأخيرة في منطقتي الشارون ومركز البلاد وكذلك إلقاء قنابل يدوية تجاه بيوت رجال أعمال معروفين.

وهكذا لا تزال المافيا الإسرائيلية تقتل وتجرح الأبرياء، وتتغلغل في المجتمع بواسطة صفقات المخدرات، وتجارة الدعارة والقمار، وابتزاز رجال الإعمال، وتحصيل إتاوات منهم، وهذا يدل - بشكل لا يقبل التأويل- على أنّ المافيا في إسرائيل مزدهرة. لقد نجحت المافيا في الدفع نحو انهيار أحد البنوك المركزية في الدولة، وهو "البنك التجاري"، كما أدت أنشطتها إلى انهيار العديد من المؤسسات الاقتصادية الهامة.

المراجع

1- صحيفة دافار, 12/9/1977.

2- تقرير لجنة شيمرون, كما نشرته معاريف, 20/2/1978.

3- هاتسوفيه, 14/2/1975.

4- محمود عبود, حروب المافيا في إسرائيل, صحيفة العربي, 24/8/2003.

5- يديعوت آحرونوت, 18/9/2003.

6- هآرتس, 9/7/2003.

7- السفير, 7/10/2002.

8- الوفاق, 7/6/2004.

9- فاطمة شعبان, الحرب الأهلية في "إسرائيل".. حقيقة أم فزَّاعة؟ صحيفة الوطن السعودية   13/10/2004.

10- يديعوت أحرونوت 8/9/2004.

11- معاريف 10/9/2004.

12- تمامًا كما في الأفلام.. تفاصيل حول الجريمة المنظّمة وصراعات عائلات المافيا في إسرائيل, القدس المحتلة, سما الإخبارية, الأحد, 10 نوفمبر, 2013.

13- الشرطة تنشر قائمة العصابات العشر الكبرى في إسرائيل, المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار 5/11/2013.

14- الفساد أساس في الحكم الإسرائيلي, برهوم جرايسي, الغد، عمّان، 2/11/2013.

15- د. أسعد عبد الرحمن, عن الجريمة المنظمة في إسرائيل, المستقبل - الأحد 1 نيسان 2007 - العدد883 - رأي و فكر - صفحة 11.

16- شريف الغمري, الجريمة المنظمة‏..‏ صناعة مزدهرة في إسرائيل‏, نشر في أخبار مصريوم 21 - 07- 2009.

17- تفشي الجريمة المنظمة في إسرائيل يحولها من دولة "مثالية" إلى دولة "عادية", فلسطين اليوم – القدس المحتلة, 8/7/2009.

 

باحثة في علم الاجتماع السياسي(*)

اعلى الصفحة