تركيا ومخاطر اللعب بنار القاعدة وضرورة المراجعة

السنة الثانية عشر ـ العدد 143 ـ ( ذو الحجة  1434 هـ ـ محرم 1435 هـ) تشرين ثاني ـ 2013 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

قبل أشهر قليلة أطلق العديد من الكتاب والمفكرين الأتراك ما يشبه صرخة من انتقال خطر الجماعات الإسلامية المتشددة التي تحارب في سوريا إلى تركيا خاصة في ظل تعاظم نفوذ جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام المعروفة بـ(داعش) إلى درجة أن هذه التنظيمات المتشددة نجحت عملياً في ابتلاع الجيش الحر والقضاء على قوته في شمال سوريا على الرغم من الدعم الكبير الذي تلقاه من العديد من الدول ولاسيما تركيا.

لكن حكومة رجب طيب أردوغان التي تورطت في الأزمة السورية حتى العظم لم تسمع هذه الصرخة، بل إن وزير الخارجية أحمد داود أوغلو أصر على وصف تنظيمات القاعدة في سوريا بالجماعات الراديكالية، فيما واصلت حكومته دعم هذه الجماعات من خلال منحها المأوى والعتاد على أساس أنها أداة لإسقاط النظام السوري على أمل أن يفسح ذلك المجال أمام الأحلام التركية في المنطقة ، إلا أن الذي جرى هو أن هذه التنظيمات والتي أعلنت سعيها إلى إقامة إمارة إسلامية شمال شرق سوريا باتت قوة كبيرة على الأرض وأصبحت تشكل تهديدا للأمن الداخلي التركي خاصة وان هذه الجماعات التي لا تعترف بالحدود انطلاقا من اعتباراتها الإيديولوجية، وعليه عندما رفضت تركيا فتح معبري باب السلام وباب الهوى أمام عناصر تنظيم داعش، أعلن التنظيم مسؤوليته عن تفجيرات الريحانية وباب الهوى، بل وهدد تركيا بنقل المعركة إلى أراضيها واصفة الحكومة التركية بالكفر، مهددة إياها بالويل ما لم تفتح المعبرين،وبعد أيام قليلة قصفت موقعا داخل تركيا وهو ما دفع بالحكومة التركية وللمرة الأولى إلى قصف مواقع لـ"داعش" والنصرة داخل الأراضي السورية، وقد دفع ما سبق بالعديد من الكتاب والمحللين الأتراك إلى القول إن تركيا باتت جارة لدولة القاعدة في الجنوب، في إشارة إلى سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام إلى على بلدة أعزاز التاريخية في ريف حلب.

ومن دون شك، وصول العلاقة بين تركيا والجماعات المسلحة التي جاءت لتقاتل النظام السوري إلى هذا الوضع الحرج للحكومة التركية بدأت تثير الكثير من الأسئلة الصادمة للحكومة التركية ليس لجهة تحمل المسؤولية فحسب، بل لجهة المخاوف التركية وإمكانية انقلاب هذه الجماعات عليها مثلما انقلبت الحكومة التركية على نظرية صفر المشكلات وانتقلت إلى الدور الوظيفي في الإستراتيجية الغربية من جديد ضد دول المنطقة، والأسئلة هنا كثيرة وهي من نوع: هل بدأت تركيا تحس فعلاً بخطر هذه الجماعات؟ وإذا كان مثل هذا الخطر أصبح ماثلا على أمنها الداخلي فماذا ستفعل الحكومة التركية؟ هل ستعلن الحرب على هذه التنظيمات أم أنها ستواصل دعمها على أمل إسقاط النظام السوري؟ وهل ستعيد تركيا النظر في سياستها إزاء الأزمة السورية وتدخل في تحالف ولو غير معلن مع النظام السوري ضد هذه الجماعات بعد أن أصبح خطرها ماثلاً؟ أم أن اللهجة الجديدة لتركيا ضد داعش والنصرة ليست سوى تمثيلية جديدة للتهرب من تحمل مسؤوليتها إزاء ما جرى؟ والآن  مع توجه الأنظار إلى مؤتمر جنيف اثنين وتأكيد الدول الكبرى أن لا حل للأزمة السورية سوى الحل السياسي كيف ستتصرف تركيا على الأرض؟ هل ستوقف نهج عسكرة الأزمة وتنخرط في الحل السياسي من بوابة جنيف اثنين بعد أن تأكد لها كما لدول الخليج أن لا خيار لحل الأزمة سوى الحل السياسي؟.

دون شك هذه الأسئلة وغيرها تعبّر عن مآزق السياسة التركية تجاه الأزمة السورية والتي بسببها توترت علاقات تركيا مع دول الجوار الجغرافي ولاسيما العراق وإيران وروسيا بعد أن اتجه أردوغان إلى ممارسة دور وظيفي في السياسة الغربية تجاه هذه الدول على أمل أن يحقق مثل هذا الدور المجال أمام أحلامه الإمبراطورية التي تعرضت لضربة قاسية بعد سقوط حكم مرسي في مصر، وتداعيات ذلك على مشروع حركات الإخوان المسلمين في المنطقة ومجمل المنظومة الإقليمية في الشرق الأوسط.  

من أين جاء الخطر؟

 مع ظهور تنظيم القاعدة في مناطق من شمال سوريا وشرقها، توجهت الأنظار إلى تركيا كدولة مساندة للحراك السوري بغية إسقاط نظام الأسد وإقامة حكم جديد تحت سيطرة الإخوان المسلمين الحليف الإيديولوجي لحزب العدالة والتنمية، إلا أنه مع سيطرة جماعات إسلامية متشددة مثل جبهة النصرة وتنظيم داعش بقوة على العديد من المناطق الشمالية في سوريا الموازية للحدود التركية الجنوبية، ونجاح هذه التنظيمات في كسب أعداد كبيرة إلى صفوفها وإلحاق ضربات كبيرة بالجيش السوري الحر المدعوم رسميا من تركيا ولاسيما لواء التوحيد الذي يقال انه تابع للإخوان المسلمين ومن ثم لواء عاصفة الشمال، بدت التقديرات التركية إزاء التنظيمات الإسلامية المتشددة غير دقيقة، وفي الأساس فان تركيا هدفت من وراء دعمها لهذه المجموعات إلى تحقيق هدفين أساسيين. الأول: استخدامها كأداة لإسقاط  النظام السوري وعليه جعلت من أراضيها مأوى وممراً لها وسمحت بوصول الأسلحة والأموال لها وبتغطية استخباراتية من خلال غض النظر عن كل ما سبق. والثاني: محاربة أكراد سوريا بعد أن برز نفوذهم في المناطق الشمالية الشرقية حيث تخشى تركيا من إقامة إقليم كردستان في سوريا على غرار إقليم كردستان العراق، وهو ما يشكل قلقا كبيرا لها خوفا من انعكاس كل ذلك على قضيتها الكردية في الداخل، فضلا عن ان تركيا تعتقد ان أكراد سوريا لم يتخذوا موقفا حادا ضد النظام السوري، وعليه سعت إلى تحقيق مثل هذا الهدف عبر دعم الجماعات المتشددة بكل شيء من أجل القضاء على قوات الحماية الشعبية الكردية التي نشأت في المناطق الشمالية والشرقية وإجبار الأكراد على الانخراط في العمل العسكري ضد النظام ، وقد كشفت المعارك التي جرت بين قوات الحماية الشعبية الكردية وعناصر تنظيم داعش وجبهة النصرة في منطقة رأس العين بمحافظة الحسكة على الحدود السورية التركية مدى المساهمة التركية المباشرة في دعم هذه الجماعات وصلت إلى حد تنظيم هجمات من الداخل التركي وإدارة المعركة من قبل عناصر استخبارات وجنود أتراك تم إلقاء القبض على البعض منهم وقد نشرت قوات الحماية الشعبية الكردية صورهم ووثائق خاصة بهم. وانطلاقاً من السعي إلى تحقيق الهدفين المذكورين (إسقاط النظام السوري وضرب المكون الكردي) تجاهلت حكومة رجب طيب أردوغان كل المطالب والتحذيرات من الاستمرار في دعم هذه الجماعات، ففي الداخل التركي رفعت المعارضة التركية ولاسيما حزب الشعب الجمهوري بزعامة كليجدار أوغلو وكذلك حزب السلام والديمقراطي الكردي الصوت عالياً في وجه أردوغان لوقف هذا السلوك، كذلك حذر العديد من الكتاب والمفكرين الأتراك من خطر هذه الجماعات، مؤكدين أن تركيا دولة مغرية في نظرها، نظراً لأن تركيا حافلة بالرموز الغربية حيث العلاقات التركية ـ الأمريكية القوية والتي تصل إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، ووجود قواعد عسكرية أمريكية على الأراضي التركية، ومؤخراً نشر الدروع الصاروخية الأمريكية وصواريخ باتريوت على الأراضي التركية، فضلا عن أنها دولة عضو في الحلف الأطلسي ، ذلك الحلف الذي قاد الحرب ضد أفغانستان والعراق وليبيا.

وعلى المستوى الخارجي، كشفت تقارير أمريكية مؤخراً أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما فاتح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته واشنطن في أيار/مايو الماضي بموضوع دعم تركيا للجماعات التكفيرية المتشددة ولاسيما جبهة النصرة التي صنفتها الإدارة الأمريكية في قوائم التنظيمات الإرهابية، وكشفت هذه التقارير عن وثائق بالصوت والصورة بشأن الدعم التركي لهذه المجموعات مع قناعة بأن من يقف وراء ذلك هو رئيس الاستخبارات التركية حقي فيدان الرجل المقرب جداً من أردوغان في وقت يعرف الجميع أن فيدان يأتمر بأوامر أردوغان منذ أن كان مستشاراً سياسياً له في مكتبه قبل نحو عقد من الزمن.

وانطلاقاً من هذا الدعم، بدأت تظهر في الصحف التركية في الفترة الأخيرة العديد من الدلائل المتنامية على أن مواطنين أتراك وبتغطية استخباراتية يذهبون إلى سوريا للقتال في صفوف الجماعات الإسلامية المتشددة ضد قوات النظام السوري، فقد كشفت صحيفة (طرف) عن تقرير للاستخبارات العسكرية التركية أن قرابة 500 تركي يقاتلون ضمن 1200 جماعة مسلحة معارضة في سوريا، أغلبها تحمل اسم الجهاد في حين يعمل آخرون كمرتزقة يتقاضون 1500 دولار شهرياً.

وبموازاة هذا التقرير الاستخباراتي الذي نشرته صحيفة طرف، نشرت صحيفة (راديكال) اليسارية تحقيقاً عن خط (الجهاد) الممتد من الداخل التركي إلى الأراضي السورية وتحديدا إلى منطقة أعزاز شمال حلب والتي تعدها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام عاصمة للإمارة الإسلامية المنوي إقامتها، وتشير الصحيفة إلى أن هذا الخط أو المسار يمر بالداخل التركي عبر مدن بينغول وباتمان ودياربكر وأورفة، حيث تقوم التنظيمات المتشددة بتجنيد عشرات الشبان بين أعوام 18 و32 ومن ثم نقلهم إلى سورية على شكل مجموعات صغيرة لا تتجاوز عشرة أشخاص وسط شكوك بوجود تغطية أمنية لنقل المقاتلين إلى الأراضي السورية، وتقول الصحيفة إن هذا الخط أو الممر يختلف عن ممر أخر يتم من خلاله نقل المقاتلين من الشيشان والقوقاز وتونس وأفغانستان والخليج إلى سوريا وتحديدا إلى مناطق كيليس ولواء اسكندرون، وقد أثارت هذه التقارير حالة من الهلع والخوف والذعر بين أهالي العديد من المدن في جنوب شرق تركيا ولاسيما بين الأهالي الذين اختفى أبناؤهم في الأشهر الأخيرة ، فيما يقول العديد من هؤلاء أن أجهزة الاستخبارات التركية تتهرب من معرفة مصير أبنائهم، أو إعطاء معلومات لهم عنهم، وقد دفع هذا الأمر بالعديد من الآباء إلى القدوم لسورية بحثاً عن أبنائهم ونشرت الصحافة التركية قصصاً عن آباء وجدوا ابناءهم في معسكرات القاعدة بعد تغيير أسمائهم.

دون شك، موضوع دعم تركيا للجماعات المتشددة جعل من الحدود التركية - السورية أشبه بالحدود الأفغانية الباكستانية لجهة نفوذ هذه الجماعات وقدرتها على الانتقال بين الجانبين بعد أن أصبحت قوة تنظيمية وعسكرية على الأرض ونجحت في فرض نفوذها، ولعل ما يزيد من خطر هذه الجماعات هو قدرتها على استقطاب المواطنين الأتراك وانتشارها في البيئة الاجتماعية التركية التي لا تختلف عمليا عن بيئة دول المنطقة لجهة الثقافة والفكر والتدين والبنية الاجتماعية بما يعني كل ذلك وجود تربة اجتماعية لإمكانية تقبل فكر هذه الجماعات خاصة وان تركيا شهدت من قبل تنظيمات إسلامية متشددة مثل حزب الله التركي وجماعات الفجر والتوحيد وجمعية فرسان الشرق وغيرها ذلك من الجماعات المتشددة المثيرة للجدل والتي أثارت في الفترة الماضية ضجة كبيرة في المجتمع التركي على خلفية الأعمال التي قامت بها هذه المجموعات ولاسيما سلسلة الاغتيالات التي جرت ضد شخصيات يسارية وإعلامية فضلا عن رجال مال وأعمال، وقد سجلت جميعها ضد فاعل مجهول، وعليه فإن الكتاب الذي حذروا أردوغان من  سياسة دعم الجماعات المسلحة المتشددة باتوا يرون أن تركيا باتت عمليا جارة لدولة إمارة القاعدة في الشمال السوري بعد أن كانت الحدود آمنة مع سوريا والتجارة التركية تنساب كنهري الفرات ودجلة ، وعليه طالب هؤلاء الحكومة التركية مراراً  بضرورة مراجعة سياستها إزاء الأزمة السورية ووقف دعم الجماعات المسلحة.

في محاولة لفهم ما جرى، ترى هذه الأوساط أن أسباب ذلك يعود إلى المعطيات التالية:

1-  إن أردوغان هو السبب الأول والأساسي في ذلك، فهو الذي فتح الأراضي التركية أمام هذه الجماعات بل وصل الأمر إلى حد استقبالهم في المطارات التركية، وتحويل الأراضي التركية إلى مأوى ومقر وممر لهم إلى الأراضي السورية، فضلا عن تأمين المعسكرات والسلاح لها.

2- إن أردوغان يتصرف على هذا النحو تحت وهم أحلامه الإمبراطورية ، فهو يعتقد أنه يستخدم هذه الجماعات كأدوات لتحقيق مشروعه هذا، عبر زجها في معركة إسقاط النظام السوري وبالتالي فتح الطريق أمام حلفائه أي الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة في دمشق، بما يعني كل ذلك التحكم بالسياسة السورية في المستقبل وتحويل سوريا إلى ممر لسياسات أردوغان تجاه عموم منطقة الشرق الأوسط رغم الضربة التي تلقتها بسقوط حكم مرسي في مصر.

3- إن مثل هذا الدور جعل من أردوغان من حيث يدري أو لا يدري إلى أداة وظيفية بيد السياسية الأمريكية التي تريد إغراق المنطقة في حالة من الفوضى والتفكك بغية إعادة صوغها من جديد في ضوء المصالح الإستراتيجية الأمريكية.

لكن من الواضح، أن أردوغان بسياسته هذه سعياً لتحقيق أحلامه الإمبراطورية لم يغامر فقط بدفع المنطقة إلى حروب مركبة ومتداخلة ومفتوحة فحسب، بل غامر أيضاً بمستقبل تركيا نفسها وربما لن تحتاج تركيا إلى وقت طويل كي تظهر مخاطر نار الجماعات المتشددة والتي أوقدها أردوغان بنفسه على أمل استخدامها لإسقاط النظام السوري ليجد بعد حين أن تركيا نفسها أصبحت هدفا لها، فالثابت ان هذه الجماعات وانطلاقا من إيديولوجيتها لا تعترف بالحدود الجغرافية وديدنها هو استخدام القوة دون أي اعتبار لتحقيق أهدافها.                                             

التحدي والمراجعة المطلوبة

يعرف المتابع للسياسة التركية إزاء الأزمة السورية أن هذه السياسة وصلت إلى طريق مسدود، فتوقعات رأس الدبلوماسية التركية بسقوط النظام السوري خلال فترة قصيرة خابت، وخطاب أردوغان الاستعلائي والتحريضي معا فقد مصداقيته خاصة وان تصريحاته النارية من نوع الفرصة الأخيرة ولن نسمح بكذا وكذا وحماه خط أحمر وغيرها من التصريحات المماثلة أظهرته وكأنه مجرد نمر من ورق، أو انه يريد عسكرة الأزمة السورية وإغراق السوريين في برك الدم، ولكنه رغم كل الدم الذي أريق والتدمير الذي حصل، صمد النظام السوري واستطاع بالتعاون مع حلفائه روسيا وإيران والعراق وحزب الله من إدارة الأزمة التي تحولت إلى أزمة عالمية بامتياز، وهو ما عجزت السياسة التركية عن فهمها بشكل دقيق إذ أنها انطلقت من اعتبارات تفتقر إلى الفهم الدقيق لطبيعة العلاقات الدولية والجغرافية السياسية للأزمة السورية. فالسياسة التركية قامت على مجموعة من الاعتبارات الإيديولوجية التي لها علاقة بمشروع حزب العدالة والتنمية تجاه المنطقة العربية، وهو مشروع يقوم على اعتبار تركيا قائدة للمنطقة انطلاقا من اعتبارات سياسية وجغرافية وإيديولوجية وتاريخية تقوم على المزج بين العثمانية الجديدة والدور التركي الوظيفي في الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة، على شكل رأس حربة في المشروع الأمريكي لإقامة الشرق الأوسط الجديد. لكن الثابت أن المشروع التركي هذا بات أمام مآزق كبير، بما يشكل تحديا صعبا لحكومة رجب طيب أردوغان التي تعيش على وقع التناقضات، ولعل جملة النكسات الدبلوماسية التي تعرضت لها الدبلوماسية التركية تجعل من هذه الدبلوماسية أمام منعطف جديد في ظل استحقاقات الأزمة السورية على أبواب عقد مؤتمر جنيف اثنين، ومن أهم هذه النكسات:

الأول: سقوط حكم مرسي ومن خلفه الإخوان المسلمين في مصر، وقد أصاب هذا السقوط  المشروع التركي تجاه العرب وأفريقيا بمقتل، نظراً لأنه كان يراهن على دور مصر في عهد مرسي للتمدد والوصول إلى الدول الأخرى التي تشهد احتجاجات وانتفاضات عبر دعم حركات الإخوان المسلمين لإيصالها إلى السلطة في هذه الدول.

الثاني: استحقاقات الأزمة السورية التي بدأت تفرض تحديات جمة على الداخل التركي، فإلى جانب الانقسام السياسي الحاد والرفض الشعبي لسياسة أردوغان إزاء الأزمة السورية بدأ الاقتصاد التركي يشهد المزيد من التراجع وفقدان الليرة التركية لقيمتها فضلاً عن حصول حالة من التضخم والكساد والارتفاع الحاد للأسعار وقد اثر كل ذلك سلبا على الحياة المعيشية للمواطنين الأتراك.

الثالث: من الواضح أن الدعم التركي للمجموعات المسلحة بغية إسقاط النظام السوري تحول مع الزمن إلى نوع من التهديد لأمن تركيا، في ظل تعاظم نفوذ هذه الجماعات في المناطق الحدودية وقدرتها على نقل المعركة إلى الداخل التركي وسط مؤشرات توحي بذلك في ظل تناقض خطاب الطرفين واختلاف وأهدافهما وسياساتهما.

الرابع: لقد أدت السياسة التركية إزاء الأزمة السورية ومجمل قضايا المنطقة إلى توتر في علاقات تركيا مع دول الجوار التركي ولاسيما العراق وإيران وروسيا، وقد أدى ذلك إلى حالة من العزلة التركية السياسة، ولعل ما ضاعف من هذا الأمر هو الموقف التركي من ثورة الثلاثين من حزيران/يونيو في مصر، وبروز أزمة في علاقات الجانبين، فضلاً عن التوتر مع دول الخليج  باستثناء قطر على خلفية الموقف من ما جرى في مصر.

الخامس: ازدواجية الخطاب التركي إزاء قضية الحرية والعدالة ودعم ( ثورات الربيع العربي) فتركيا التي ركبت موجة هذه الثورات باسم الحرية والعدالة ودعم حقوق الشعوب... هي نفسها تركيا التي قمعت انتفاضة ميدان تقسيم في اسطنبول بالقوة والتي كادت أن تتحول إلى انتفاضة شاملة في البلاد ضد حكم حزب العدالة والتنمية، وهي نفسها تركيا التي تنكر حقوق الشعب الكردي الذي يزيد عدده عن 16 مليون نسمة ومحروم من جميع حقوقه القومية والاجتماعية والسياسية، وهي نفسها تركيا التي تحرم الطائفة العلوية من ممارسات شعائرها الدينية بحرية، وتمارس نهجاً إقصائياً مع كل من يختلف مع السائد السياسي سواء أكان إيديولوجيا أو قومياً أو دينياً، ومجمل هذا السلوك المتناقض كشف عن حقيقة النموذج التركي الذي تم الترويج له طويلا بوصفه نموذجا يمكن لدول المنطقة الاقتداء به، ليكتشف الجميع أن تركيا لا تختلف في تجربتها وبنيتها السياسية عن باقي دول المنطقة.

أمام هذه التحديات المتعاظمة، فان السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف ستتصرف تركيا في سياستها الخارجية تجاه المنطقة ولاسيما الأزمة السورية التي باتت تشكل عقدة العقد في هذه السياسة؟ في الواقع ، إذا كان من المبكر الحديث عن مراجعة شاملة في السياسة التركية فان المراقب لا بد أن يلاحظ مؤشرات توحي بأن هذه السياسة ربما تدخل مرحلة جديدة ، ولعل من أهم هذه المؤشرات:

الأول: الدور التركي في قضية الإفراج عن المخطوفين اللبنانيين التسعة في أعزاز بغض النظر عن الدوافع التركية سواء أكانت استعادة الطيارين التركيين أو الخوف من سيطرة داعش على المناطق التي تم فيها اختباء المخطوفين بعد ان وجه داعش ضربات قوية للجيش الحر في أعزاز.

الثاني: قصف الجيش التركي للمرة الأولى مواقع جبهة النصرة وتنظيم داعش في المناطق الحدودية مع سوريا، وهو ما يؤشر ربما إلى شن الحرب ضد هذه التنظيمات وغيرها باسم مكافحة الإرهاب توافقا مع مصلحتها الداخلية وتلبية متطلبات السياسية الأمريكية في محاربة هذه التنظيمات ولو تم استخدامها في هذه المرحلة أو تلك كأداة لها لتحقيق أهداف محددة.

الثالث: اللهجة الجديدة للحكومة التركية إزاء الأزمة السورية ، فبعد نحو ثلاث سنوات من هذه الأزمة، بات وبتأكيد الجميع أن لا حل لهذه الأزمة سوى الحل السياسي، وبات من المعروف أن الحل السياسي يمر عبر مؤتمر جنيف اثنين، واللافت انه منذ الاتفاق الروسي الأمريكي على هذا الخيار بدأت اللهجة التركية تتغير، وتقترب تدريجياً من قبول صيغة جنيف للحل بعد وجهت كل جهودها في المرحلة السابقة إلى إسقاط النظام السوري بقوة.

في الواقع، من الواضح أن السياسة التركية تجاه الأزمة السورية ومجمل المنطقة باتت في أزمة خيارات، وفوق ذلك فان تداعيات هذه الأزمة ولاسيما التهديد الذي يشكله التنظيمات المسلحة ولاسيما تلك المرتبطة بالقاعدة باتت تشكل تهديدا للأمن الداخلي التركي، بما يشكل كل ذلك عاملا ضاغطا على السياسة التركية للقيام بمراجعة شاملة حتى لو اقتضت التخلص من رأس الدبلوماسية التركية اي وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي يحمله العديد من الأوساط التركية المسؤولية المباشرة عن ما جرى لهذه الدبلوماسية من خيبات وانكسارات، خيار يبدو مخرجا لأزمة السياسة الخارجية التركية إزاء المنطقة لطالما إن السير في النهج السابق لن يزيد سوى من التحديات والمخاطر.      

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)  

اعلى الصفحة