البعد الراديكالي للتحول الديمقراطي في بلدان  الربيع العربي

السنة الثانية عشر ـ العدد142 ـ (ذو القعدة ـ ذو الحجة 1434 هـ ) تشرين أول ـ 2013 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في الوقت الذي يجري فيه تداول مفهوم التحول الديمقراطي  في بلدان الربيع العربي من خلال ربطه  بالليبرالية السياسية،والانتقال الديمقراطي، والرسوخ الديمقراطي، فإن البعد الراديكالي الحقيقي للتحول الديمقراطي لا يقف عند حدود الليبرالية السياسية، التي تتضمن أهدافاً متواضعة تتمثل في التخفيف من حدة القيود وتوسيع نطاق الحقوق الفردية والجماعية داخل النظام السلطوي وهي لا تعني في هذا الإطار ضرورة إرسائها لتحول ديمقراطي وإن كانت تسهم في حفز هذه العملية.

فالتحول الديمقراطي يستهدف إجراء إصلاحات جذرية على جميع المستويات من أجل إرساء نظام ديمقراطي جديد، يتسم بالرسوخ، ويؤسس لدولة المؤسسات والقانون.

أولاً: ضرورة وجود الديمقراطية التعددية،  التي تتطلب إنشاء أحزاب معارضة  كعملية طبيعية لحرية الفرد في إبداء رأيه، وحرية انتقاد الحكومة، وحرية الشعب في إعادة إقامة حكومة يختارها عن طريق الاقتراع السري. فالتحول الديمقراطي، يقتضي التحرر كليا من نظام الحزب الواحد القابض على زمام السلطة، ووجود معارضة منظمة كخلف احتياطي محتمل و في استطاعتها أن تحل محل الحكومة.

إن الديمقراطية التعددية هي التي تضمن المشاركة الشعبية الواسعة النطاق، ورضاء من جانب  المحكومين، ونوع من الرقابة العامة على هؤلاء الذين يتولون السلطة. ولاشك أن الديمقراطية التعددية قد تتخذ أشكالاً وترتيبات سياسية متنوعة طبقاً للظروف والحول التاريخية المرتبطة بكل بلد.

ثانياً: إن التحول الديمقراطي الحقيقي مرتبط بالتنمية الاقتصادية، وهو يقوم على دعامتين أساسيتين: الدعامة الأولى تتمثل في أن الديمقراطية تعني تنظيم الأفراد في جماعات تنافسية من خلال نظام تعددية حزبية بهدف السيطرة على سلطة الدولة. و الدعامة الثانية، إن الديمقراطية شرط أساسي لبناء الدولة الوطنية التي تستطيع مقاومة الضغوط السلبية النابعة من النظام الدولي الجديد الذي تتحكم فيه القوى الدولية الغربية، والمؤسسات المالية المانحة، وكذلك ما يترتب عليها داخليا من آثار وعواقب.

ويمكن القول بصفة عامة أن مقولة الديمقراطية تساوي التنمية التي أضحت قضية خلافية في الجدل العربي. فهناك من يرى أن الديمقراطية من المنظور الليبرالي ما هي إلا جزء من أيديولوجية الهيمنة التي تسعى الدول الغربية إلى فرضها على العالم العربي. وهناك من يؤكد في العالم العربي على ضرورة تحلل مفهوم الديمقراطية من إطاره الرأسمالي من خلال إعطاء عملية التحول الديمقراطي توجها وطنياً (أي معاد للإمبريالية) ومضموناً اجتماعياً(أي معاد للبرجوازية في الداخل).

بالنسبة للعديد من المحللين المؤمنين بنظرية التحول الديمقراطي، فإن اقتصاد البلدان العربية واسع ومتنوع بما فيه الكفاية لكي يتعايش فيه قطاع مفتوح على الرأسمال الأجنبي، وقادر على الخضوع للأوامر المفروضة عليه من المؤسسات المالية الدولية، و"تقديم" ريع كبير للمستثمرين، هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهناك قطاع "التنمية" القادر على تعبئة جهود الدولة والفئات الاجتماعية في آن معا لبناء اقتصاد سوق اجتماعي وقطاع عام يقدمان للفئات الاجتماعية الأكثر فقرا- و هم الأكثرية أيضا- خيرات الاستهلاك التي تنقصهم بصورة مأساوية. والحال هذه, فإن احترام قواعد "السوق المعولمة" هي وحدها التي تسمح بتحرير و تطوير "السوق الداخلية"، من دون فقدان ثقة الممولين، في الداخل والخارج.

تجدر الإشارة إلى أن هذا المدخل (التحديثي) يؤكد على عدد من المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية لعملية التحول الديمقراطي. ويربط بين الديمقراطية الليبرالية والتنمية الاقتصادية.

ونعني بالتحديث: استجلاب رموز الحضارة الحديثة وأدوات الحياة العصرية مثل التجهيزات التكنولوجية والمعدات الآلية والمنظمات ذات المسميات الحديثة وسلع الاستهلاك والرفاهية.

وبالرجوع إلى الأصول التاريخية لهذا المدخل نجد أن آدم سميث أول من عبر عن هذا الاتجاه من خلال كتابه: ثروة الأمم، لتأكيده على الليبرالية السياسية كشرط للأداء الفعال للسوق. الذي يعتبره المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي. فبالنسبة لآدم سميث فالحكومة التي تحكم أقل هي التي تتيح مجالا أكبر للحرية الفردية والمنافسة. ومع هذا فالمعالجة العلمية والدقيقة للارتباط بين الديمقراطية والتنمية تبرز من خلال افتراضات وطروحات عالم الاجتماع السياسي الأمريكي ليبست (S.M.Lipset) وقدم ليبست أطروحته لأول مرة في 1959 في مقالة تحت عنوان:" بعض الاشتراطات الاجتماعية للديمقراطية: التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية". ولتأكيد أطروحته نشر في 1960 كتابه: الرجل السياسي Political Man الذي يعتبر أشهر وأهم كتاب حول هذه الأطروحة. وحسب ليبست فإن الديمقراطية ترتبط بمستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولإثبات هذه العلاقة قام بدراسة شملت البلدان الأوربية والبلدان الناطقة بالإنجليزية في أمريكا الشمالية وأستراليا حيث صنفها إلى:

1- ديمقراطيات مستقرة

2- ديمقراطيات غير مستقرة

3- دكتاتوريات(1).

هل تتناقض الديمقراطية الليبرالية مع التنمية؟

للإجابة على ذلك لا بد من الإشارة إلى قضية أساسية وهي أن الديمقراطية نظام سياسي يسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الكلية، من أبرزها: الحرية السياسية، وهي تدعم وتؤكد الكرامة من خلال إطلاق العنان لحرية العقل و الروح و الأكثر من ذلك انه في ظل النظام الديمقراطي يصبح من حق المرء أن يخطئ ويصيب، وهو يمارس حريته الأساسية. وقد أكد على هذا المعنى القاضي" فيلكس فرانكفورتر"، الرئيس السابق للمحكمة العليا الأمريكية، بقوله: "لقد بنيت هذه الدولة (أمريكا) على أساس التجربة والخطأ، وعدم الاعتقاد في الأمور المطلقة"(2).

الديمقراطية ليست حكراً على المجتمعات الغربية المتقدمة، كما أنها لا يمكن أن تُفرض من الخارج، أو تُصدر، ولا يمكن أيضاً أن  تُستورد، بل لا بد وأن تنمو وتتطور في الداخل مرتبطة بالتطورات والخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدول والمجتمعات. ولكن الخارج يمكن أن يقوم بدور هام في دعم ومساندة التطور الديمقراطي في دول لديها معطيات وإمكانيات تجعلها أكثر قابلية للانتقال الديمقراطي. فالديمقراطية تنطوي على مجموعة من القيم والمبادئ العامة ذات الطابع الكوني، مثل: الحرية، والمساواة، وسيادة القانون، والتسامح السياسي والفكري،واحترام الكرامة الإنسانية، لكن صيغ وأشكال تطبيق النظم الديمقراطية متعددة، وتختلف من دولة إلى أخرى سواء من الناحية المؤسسية أو الإجرائية، وتتميز بالمرونة بما يتوافق مع ظروف كل دولة، ومجتمع. وبصورة إجمالية، في البلدان التي توطدت فيها أسس الديمقراطية، شهدت زيادات إجمالية في متوسط الدخل الفردي بنسبة مئوية أعلى من البلدان التي حكمتها أنظمة شمولية أو تسلطية.

في البلدان التي عرفت تحولات ديمقراطية حقيقية وراسخة مثل اليابان، حققت نتائج اقتصادية واجتماعية مذهلة، والفضل في ذلك يُنسب ليس إلى تَوفّر قدر أكبر من الموارد الطبيعية (فاليابان ليس لديها موارد طبيعية)، وإنما إلى الديمقراطية. فالديمقراطيات، في العادة، لا تتعرض لمستويات أعلى من العجز في مالياتها العامة كما أنها لا تتلقى مستويات عالية من المساعدات المالية الخارجية. بل الذي يظهر هو أن مسار العمليات الداخلية الخاصة بالأنظمة الديمقراطية هي التي تكون المسؤولة عن حسن أدائها. ويكمن أحد "أسرار" النجاح الإنمائي للديمقراطيات في قدرتها النسبية على تجنّب الكوارث، ذلك أنه نادراً ما تترك الديمقراطيات اقتصاداتها تصل إلى الهاوية.

فمن بين أسوأ 80 أداءً سنوياً اقتصادياً تمّ تسجيلها منذ العام 1960، لم يحدث إلاّ خمسة منها فقط في بلدان ديمقراطية. ونظراً لحالة الوهن الشديد القائمة التي تواجه معظم المجتمعات التي تعيش في حالة من الفقر، فإن قدرة الديمقراطيات على تخفيف التقلّبات الاقتصادية توفر لها فائدة جوهرية. فبدلاً من الحاجة إلى انتشالها تكراراً من الانهيارات التي تسببها الأزمات الاقتصادية، تجد الديمقراطيات نفسها أكثر قدرة على تحقيق التراكمية في أصولها المالية بين السنة والأخرى. ومثلها مثل حسابات الادخار، التي تؤدي المكاسب المستديمة فيها، عندما تتراكم، إلى تحقيق الرخاء الاقتصادي(3).

يقول أستاذ العلوم السياسية والأستاذ بالمعهد الجامعي الأوروبي بفلورنسا "فيليب شميتر "في محاضرة عن "التحول من الحكم الاستبدادي وتوطيد الديمقراطية: دروس مستفادة"(4)، نظمها مركز شركاء التنمية بأحد الفنادق بالقاهرة في عام 2012: "البعض يربط بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية ونظرية الحداثة التي تفترض أنه (كلما ارتفع قدر الدولة على سلم التنمية الاقتصادية، ازدهرت الديمقراطية فيها)، ولكن هذا الافتراض ليس صحيحاً إطلاقاً، فدولة مثل كوستاريكا طورت مؤسساتها وسارت في طريق الديمقراطية على الرغم من تراجعها الاقتصادي وامتلاكها واحداً من أقل النواتج المحلية الإجمالية في العالم. لذلك لن يكون وضع مصر الاقتصادي عائقاً أمام الديمقراطية". وأوضح أن "الفقر لن يكون عائقاً أمام تحول مصر للديمقراطية، هناك دول تعانى من الفقر وسارت في طريق الديمقراطية مثل الهند"، إلا أنه وضع يده على "المشكلة الأكبر في مصر؛ الافتقار للعدالة في توزيع الدخل والفروق الكبيرة بين الطبقات"، مؤكداً أن "أي انجراف في اتجاه السياسات الرأسمالية سعياً وراء التنمية قد يعمق تلك المشكلة".

ثالثاً: إن التحول الديمقراطي الذي يقود إلى ترسيخ الديمقراطية، لا بد أن يشتمل على العناصر الآتية:

- تعدد الإرادات السياسية الفاعلة في عملية صنع القرار، إذ لا يمكن أن يصير القرار نابع عن إرادة واحدة مهما كانت حكمة أو قدسية هذه الإرادة. ولعل ذلك يؤكد معنى أن الديمقراطية تعني حكم الشعب. فلا وصاية لفرد معين، أو حزب بمفرده مهما علا شأنه، كما أن تميز نخبة معينة، أو حزب معين، لا يفرض أدنى تأثير على مبدأ الأكثرية في عملية صنع القرار.

- تعدد القنوات الشرعية التي تربط الحاكم بالمحكوم. وهو ما يعني أن تكون العلاقة السياسية مباشرة، ويمكن أن يتحقق ذلك، من خلال التعددية السياسية، وجماعات المصالح، وفاعلية تكوينات المجتمع المدني الحديث، وحرية وسائل الإعلام، بحيث لا تحتكر الأقلية الحاكمة مصادر المعلومات. فالعملية السياسية في هذا السياق من التحول الديمقراطي، يمكن أن تعبر عن تكامل حقيقي بين طرفي العلاقة السياسية: الحكام من جهة، والمحكومين من جهة أخرى.

- الرقابة السياسية. وهي تتحقق من خلال إجراء انتخابات دورية  على كافة المستويات المحلية والوطنية. وينبغي أن تجري هذه الانتخابات عن طريق الاقتراع السري. ولاشك أن الانتخابات بهذا المعنى تمثل الضمانة الأساسية لمشاركة الشعب في عملية صنع القرار، و تؤكد كذلك على مبدأ الرقابة السياسية.

- الإيمان بضرورة بوجود معارضة قانونية للحكومة المنتخبة، وذلك يسمح لأحزاب المعارضة بأن تؤهل نفسها للتوّ إلى استلام السلطة في حال فوزها في الانتخابات، كما أنه يُيَّسِرُ من عملية تداول السلطة بشكل سلمي. وحدها المعارضة العقلانية، هي التي تؤمن بالتداول السلمي للسلطة من داخلها، وذلك أساس ضمان أن تقبل هي تداول السلطة السياسية في المجتمع.

أن تختار المعارضة خياراً آخر هو خيار العقلانية، وتغيير المجتمع راديكالياً، وصوغ المستقبل. فتعمل أولاً على تأسيس وعي ماهية السلطة، وأساليب عملها، وتناقضاتها الداخلية على أن يكون لدى هذه المعارضة وَعْيٌ برسالتها، وبدورها التاريخي المشتق من اسمها كمعارضة. وتعمل ثانياً على تحقيق وحدة المعارضة – على ما بين أحزابها وتنظيماتها وتياراتها من تباين واختلاف إيديولوجي و سياسي يعبران إلى هذا الحد أو ذاك عن التعارضات الملازمة للمجتمع - على الأسس التالية:

أ- اعتبار المصلحة العامة الوطنية/القومية، مرجعية واقعية مشتركة لكل أطراف المعارضة.

ب- الالتزام بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة.

ج- اعتراف كل أحزاب المعارضة وتنظيماتها بالآخر وبحقوقه وحريته.

إن وحدة المعارضة على قاعدة الحرية بوصفها وعي الضرورة وموضوعية الإرادة وحرية الاختيار، هي التي تعبر عن وحدة المجال السياسي للمجتمع، وتطلق جدله الداخلي بإعادة إنتاج تعارضاته في المجال السياسي، والعمل على حلها بالطرق السياسية المتحضرة. المعارضة العقلانية من هذه الزاوية، تعني في أحد معانيها الجدل السياسي الاجتماعي، وهو الانشقاق الذي يولد الوحدة، والشر الذي ينتج الخير، والصراع الذي ينتج التقدم، وليس ذلك النوع من "الصراع على البقاء" كصراع الحيوانات في الغابة.إن المعارضة العقلانية هي التي تضمن دورها السياسي والتاريخي، وتوجه جل نضالها السياسي من أجل القيام ببناء النظام الديمقراطي الجديد المنشود.

- استقلال السلطة القضائية، استقلالاً كاملاً. فلا ينبغي لأي سلطة أخرى في الدولة، ولاسيما السلطة التنفيذية، أن تتدخل في أعمالها. ويعني ذلك أيضاً، أن يمتلك القضاة الثقة اللازمة التي تمكنهم- إذا اقتضى الأمر ذلك- من إصدار أحكام ضد مسؤولي الدولة دون خوف من عقاب أو انتقام.

- احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. فالمواطن له حقوق أساسية باعتباره مواطناً. وتتضمن هذه الحقوق، حق الحياة في إطار العيش الكريم، وحق اعتناق أي عقيدة يريدها، وحق حرية التعبير، وحق حرية التنظيم والانضمام إلى منظمات، كالنقابات، والأحزاب السياسية، إن شاء. وينبغي أن تجسد الدولة المساواة الكاملة في المعاملة بين جميع المواطنين، بصرف النظر عن انتمائهم، الديني، أو العرقي، أو اللغوي. يعني ذلك، أنه من غير الجائر أن تمارس الدولة التمييز ضد المواطن بسبب أصله،العنصري، أو جماعته العرقية، أو لغته، أو ديانته، أو لون جلدته، أو آرائه ومعتقداته السياسية.

رابعاً: ضرورة تدعيم مؤسسات وتكوينات المجتمع المدني الحديث، باعتبارها أهم دعامة لعملية التحول الديمقراطي، التي تسهم في خلق نظم تنافسية ديمقراطية، لاسيما في البلدان التي حكمتها أنظمة شمولية أو تسلطية. وفي هذا الصدد تبرز أهمية ظهور مجتمع مدني حقيقي يحمل على كاهله عبء التحول الديمقراطي. ويتطلب هذا من الحكومة الانتقالية تدعيم، اتحادات العمال، والمنظمات الطلابية، واتحادات رجال الأعمال، وجماعات المثقفين. ومن المعلوم أن هذه الجماعات والتنظيمات لا تقف في طليعة المسيرة الديمقراطية فحسب ولكنها تشكل العناصر الفاعلة في تدعيم وحماية استقلال المصالح الخاصة في مواجهة هيمنة الدول التسلطية(5).

بعد أن عاش العالم العربي خلال العقود الأربعة الماضية في عصر تغول الدولة التسلطية على مؤسسات المجتمع المدني إلى درجة ابتلاعه بالكامل، إلا في حالات نادرة  جداً، مثل تونس، ولبنان، فإنه مع انطلاق ربيع الثورات العربية في أكثر من بلد عربي، تقتضي عملية التحول الديمقراطي الإفساح في المجال لمزيد من حرية الصحافة، وحرية التعبير، وحرية التجمع وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني، وتدعيم المنظمات الشعبية للعمال والفلاحين والشبيبة والنساء، وذلك جنباً إلى جنب مع الاتحادات المهنية، بما يمكن هذه التكوينات من لعب دور أساسي في تنمية المجتمع ونهضته. شريطة أن يتم ذلك التدعيم من خلال التأكيد على استقلالية هذه المنظمات والجماعات بدلاً من ربطها بحزب حاكم.

إن العقبة الأساسية التي تعترض تقوية وتعضيد المجتمع المدني في العالم العربي، تتمثل في ميراث الحكم التسلطي الذي يجعل المعلومات الخاصة بالشأن العام حكراً على عدد محدود من النخبة الحاكمة. فالعلاقات السياسية في الدولة التسلطية، لاسيما في العالم العربي، كانت تقوم على أساس نموذج "القائد الملهم/الأتباع"، مكنت الحكام العرب من إساءة استخدام الموارد العامة بهدف الإثراء غير المشروع، والاستمرار في احتكار السلطة. أليس حرمان البرلمان من مناقشة قضايا الإنفاق العسكري والشؤون الأمنية يُعَّدُ دليلاً واضحاً على حجب المعلومات المتعلقة بالشؤون العامة عن المواطنين؟

إن التحول الديمقراطي لا يمكن أن يترسخ في العالم العربي، إلا إذا قام المجتمع المدني بدوره الفاعل في عملية التحول، وهذا يتطلب من الحكومات العربية، لاسيما في بلدان الربيع العربي، أن تتخذ خطوات جادة لجهة إعطاء تكوينات ومنظمات المجتمع المدني الضمانات الدستورية والقانونية لكي تعمل بحرية و فعالية، و يمكن أن يتحقق ذلك كله من خلال فتح قنوات الحوار المباشر والمنظم، وبناء جسور الثقة والاحترام المتبادل. بيد أن التفاوض بشأن هذه الحقوق لا يعتمد فقط على مدى قبول من يمتلكون السلطة، ولكنه يعتمد كذلك على ضرورة تقوية التنظيمات الشعبية والاتحادات المهنية، بحيث تمارس ضغوطاً قوية على النظام القائم من أجل تأمين حقوقها في حرية التعبير و التنظيم(6).

تشكل هذه العناصر الأساسية الآنفة الذكر منظومة متكاملة ملزمة وضرورية لخلق  نظام ديمقراطي جديد، حيث يمكن تدعيم ذلك النظام في ظل ثقافة سياسية ديمقراطية ومدنية تعم المجتمع، كما يمكن تكريسه قانونياً من خلال إقرار دستور ديمقراطي عصري ينص تفصيلاً على العناصر السابقة و آليات تحقيقها في الممارسة السياسية.

ومن الضروري التأكيد على أنه لا توجد وصفة سحرية جاهزة لنجاح عملية التحول الديمقراطي، لكن بالنسبة لتجربة الثورة التونسية  التي تعيش مرحلة الانتقال نحو بناء نظام ديمقراطي جديد، من المفيد جدّاً استلهام العديد من الدروس التي يمكن تعلمها عربياً من تجارب الانتقال الناجحة على الصعيد العالمي، حيث تمثلت أهم شروط ومقومات النجاح في: الحفاظ على الوحدة الوطنية وترسيخها مما يحول دون حدوث انقسامات وصراعات داخلية خلال مرحلة الانتقال، لاسيما نبذ ومحاربة العنف السياسي، وحسن تصميم المرحلة الانتقالية وإداراتها من خلال التوافق بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين على خارطة طريق واضحة لتأسيس نظام ديمقراطي، بما يعنيه ذلك من التوافق على صيغة النظام السياسي المستهدف، ومراحل الانتقال، والترتيبات المؤسسية والإجرائية الأكثر ملاءمة لظروف وخصوصيات الدولة والمجتمع، منعاً لإعادة إنتاج الاستبداد، أو إعادة استبدال ديكتاتورية سابقة بديكتاتورية دينية جديدة .

ومن الشروط الناجحة أيضا لتحقيق عملية التحول الديمقراطي الراسخة: إصلاح أجهزة الدولة ومؤسساتها (لاسيما الأمنية منها)على النحو الذي يعزز من قدرتها على القيام بوظائفها وبخاصة فيما يتعلق باحتكار حق الاستخدام المشروع للعنف و السلاح، وتقديم السلع والخدمات العامة للمواطنين، وتحقيق العدالة الانتقالية، فضلاً عن تدعيم دور المجتمع المدني، وتعزيز الطلب المجتمعي على الديمقراطية ونشر ثقافتها في المجتمع. فلا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، وإعادة صياغة العلاقات بين الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني مع المؤسسة الأمنية، والمؤسسة العسكرية، بما يتفق وأسس النظام الديمقراطي الجديد القائمة على وجود أمن جمهوري، وجيش وطني، يعملان من أجل إعلاء قيم الجمهورية، على أن يتم ذلك بشكل تدريجي ومن خلال التفاوض وإجراءات بناء الثقة بين المدنيين، والشرطة، العسكريين. ولذلك فإن عملية تطوير النظام الديمقراطي الجديد يجب أن تكون عملية مستمرة حتى يقترب أكثر وأكثر من النموذج المثالي للديمقراطية الذي يجسد القيم والمثل العليا للديمقراطية، وتتطابق فيه النظرية مع التطبيق.

هوامش

(1)- التحول الديمقراطي: مفاهيم و مداخل نظرية، انظر أيضاً على الرابط: //www.tomohna.com/vb/showthread.php?t=2427.

(2)- New African,June 1991, P 26 .

(3)- جوزيف سيغل، الديمقراطية والرخاء الاقتصادي،صحيفة المؤتمر، انظر الرابط: www.almutmar.com/index.php?id=200822712

(4)- فيليب شميتر ،عالم السياسة الأمريكى فيليب شميتر:يتحدث لصحيفة «الوطن»، ما حدث فى مصر ليس ثورة.. وإزاحة قيادات العسكر لا يعنى نهاية علاقة الجيش بالسياسة.الفقر ليس عائقاً أمام الديمقراطية.. وسياسات صندوق النقد تعمق الفوارق الاجتماعية ، تقرير حسام حسن الثلاثاء 30-10-2012 .

(5)-Peter M .Lewis, Political Transition and the Dilemma of Civil Society in Africa , Journal of International Affairs, Vol. 46, No1, Summer 1992 and Jan Kraus, Building Democracy in Africa, current History, May 1991

(6)- د.حمدي عبد الرحمن حسن، ظاهرة التحول الديمقراطي في إفريقيا القضايا و النماذج و آفاق المستقبل ،مجلة السياسة الدولية، العدد 113، يوليو/جويلية 1993، (ص24). 

اعلى الصفحة