اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الثانية عشر ـ العدد142 ـ (ذو القعدة ـ ذو الحجة 1434 هـ ) تشرين أول ـ 2013 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

محاسن الجهل

كان الجهل مذموماً منذ عرف البشر المعرفة، وصار أكثر حين عرفت البشرية العلم، فأصبح عديم المعرفة جاهلاً، ومَن لا يعرف بالعلم جاهلاً. وقد حرصت الدول على مُحاربة الجهل، وحرص الآباء والأُمّهات على تعليم أولادهم خشية الدخول في نادي الجهل غير المحبَّب، وأصبحت كلمة "جاهل" شتيمة منذ عرف البشر وسائل التقييم والتصنيف.

وكان الجاهل نعمة في العصور السابقة عند المتسلطين والإقطاعيين. والكثير من الحروب نشأت برغبة عاقل، وكان وقودها الجهلاء من الرجال. والإعلام الآن يحاول أن يحارب الجهل، وقد نجح في ذلك كما نجحت وسائل الاتصال الحديثة، إلى أن وصلنا بالفعل إلى مقولة إنّ "العالم قرية صغيرة".

وفي كل العصور كانت هناك فئة من الوصوليين تحرص على تنمية الجهل. ففي القرى، كان الجهل بأمور كثيرة، ومنها كان التعصب على مستوى القرية فقط، حين يتعصب أهل القرية لقريتهم. وما حدث أن ثورة المعلومات والإعلام حارَبَا الجهل.

ولكن غياب الجهل لم يوقف ما كنّا نعتقد أن يحول بينه وبين التقدم، حيث حل محل الجهل التعصب الذي مارس دور الجهل ولكن بشكل أعنف. فأصحاب الأحزاب والطوائف والأعراق، أسهموا في إنضاج التعصّب، ودفعوا به إلى أقصى درجة، إلى أن وصل إلى الدور الذي كان يقدمه الجهل.

ومن الجميل أن نذكر محاسن الجهل بأنّه قابل للحوار. فيُمكن مُحاورة الجاهل وتغيير مفاهيمه، وفي الإمكان الانتقال به إلى خارج مقبرة الجهل ليكون مع الأحياء. أما المتعصب فإنّه قد تعلّم أول دروس التعصب، وهو ألا يستمع للآخر، وأن يلغي فكرة الحوار العقلاني والجدال بالأحسن، إلى مرحلة التمرس وراء أفكار فرضها عليه الحزب أو التنظيم وتعاليم الطائفية المقيتة.

ومن المفارقات الواضحة أنّ الجهل كان يقيم في الأقاليم الفقيرة، والقرى البدائية، وكان الفقر هو الحاضنة للجهل. أمّا التعصب فإنّه يقيم في المدن الحديثة، والأكثر تطوراً في الأغلب من القرى، ويستخدم كل الوسائل الحديثة في حياته اليومية، ويعتبر الإعلام وسيلة لتحقيق المزيد من التعصب لفكرة يَجْتَرُّها في الغالب ولا يعرف معناها.

ويمكن أن نقول إنّ الجهل كان مُسالماً لأنّه حالة فردية تخص كل جاهل على حدة، أما التعصب فوراءه قيادات مفكرة، ورجال أعمال مستفيدون، وآخرون منتفعون وبسطاء مغرر بهم، أي أنّ التعصب صوت جماعي له أهداف وغايات بعيدة، بينما الجهل صوت فردي منغلق على حاله.

ما يحدث اليوم في عالمنا العربي هو التعصب المنفلت عقاله على غاربه.. فقد عمت ظاهر التكفيريين الذين يخترعون لكل حدث فتوى.. فصار الدينُ دين النكاح والفتاوى باتت تكفر من لا يشبهُ صاحب الفتوى مطابقةً.. أي عليه أن يوافقه في كل شيء حتى طريقة الحديث.. إذاً ما هي الأسباب التي تدفع الأشخاص والجماعات في اتجاه (التعصّب)؟.. لعل من أهم تلك الأسباب الآتي:

1- عدم معرفة الآخر سبب رئيس بين أسباب التعصب؛ إذ إن الشخص أو الجماعة أو القبيلة أو الحزب حين يجهل حقيقة ما عليه الآخرون فإنه يقع بسهولة فريسة لأحاديث المجالس غير الموثوقة والمتحاملة، كما يقع فريسة للدعاية المضادة، وتدل بعض الدراسات على أن الناس كلّما عرفوا أكثر وأكثر عن بعضهم خفّت حدة التعصب لديهم، وذلك لأن تلك المعرفة تظهر لهم زيف الشائعات المغرضة التي يتداولونها عن بعضهم من غير أي تثبّت؛ وفي هذا الإطار نفهم حكمة العديد من التشريعات والعبادات الإسلامية ذات الصبغة الاجتماعية، مثل: الحج وصلاة العيدين والجمعة والجماعة، ومثل الحثّ على التزاور وعيادة المريض، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى.

2- يجد العنصريون والأنانيون ومحدودو الأفق في التباين الفكري والثقافي والعرقي... مرتعاً خصباً لإنعاش التعصب وزيادة حدة الاختلاف. إن هؤلاء يجعلون من أنفسهم ومن مجموعاتهم محوراً أوحد، فكل ما لديهم هو الأصل، وكل ما لدى الآخرين ينبغي أن يكون صورة، وإلاّ تعرضوا للنبذ والعدوان والاضطهاد، مع أن الواقع يشهد أنه ليس هناك قبيلة ذهبت بكل المكرمات، ولا جماعة ذهبت بكل النجاح، كما أنه ليس هناك تيار أو مذهب ذهب بكل الصواب، ونحن نعرف أن أحد فقهائنا القدامى أطلق قاعدة ذهبية في هذا الشأن حين قال: "مذهبنا صواب، يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ، يحتمل الصواب" لكن الذي كان يجري – وما زال في معظم الأحيان – هو أن مدرسي كل مذهب كانوا مشغولين باستمرار ببيان فضائل مذهبهم والدفاع عن أصوله وفروعه دون ممارسة شيء ذي قيمة من النقد والمراجعة والتمحيص.

أحيانًا تتعصب جماعة أو قبيلة ضد جماعة أو قبيلة أخرى من أجل تقوية نسيجها وتقوية صفوفها، وهذا ما يفعله اليهود في فلسطين المحتلة، فهم يحتقرون العرب والفلسطينيين خاصة، ويشنون الحروب المتتابعة من أجل تقوية الروابط الاجتماعية والأيدلوجية القائمة بين اليهود، ولا شك أن اللجوء إلى التعصب بوصفة مورد تضامن ينطوي على انحطاط أخلاقي، ويدلّ على فساد الأسس التي قام عليها الكيان أو التجمّع.

التعصب بات يقتل الآخر المغاير لهم.. وقد أعمى البصائر لدى القلوب المريضة والتي أدمنت النبض خارج إرادة الجسد الإسلامي الكبير.. الذين يقتلون اليوم الأطفال والنساء والرجال ويبقرون البطون ويذبحون من الوريد إلى الوريد ويقتلعون القلب من الصدر وهم يصرخون "الله أكبر".. هؤلاء يدّعون أنهم بعيدون عن الجهل.. تحت مسمياتٍ متعددة هم أنفسهم هؤلاء الذين شرعنوا التعصب وألبسوه لباس المعرفة. ليُقتلَ المغايرُ لهم مهما كان مذهبه قريباً حد الشبه من مذهبهم تماماً كما جاء في بروتوكولات حكماء بني صهيون.

فما أحوج أمتنا العربية إلى عودة الجهل إليها مُبَاركاً ومُنزَّهاً عن كل أذى، وما أجمل ذلك الجهل الذي لم يعرف الموت الجماعي ولا العداء المتخلف بفكرة الاختلاف بتفسير آية أو حديث، أو النزاهة لطائفة أو عرق كما يصنع الآن التعصب بأمتنا.

اعلى الصفحة