التحولات الاجتماعية في الكيان الصهيوني

السنة الثانية عشر ـ العدد142 ـ (ذو القعدة ـ ذو الحجة 1434 هـ ) تشرين أول ـ 2013 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

يتبين لنا من خلال الرجوع إلى عدد كبير من الكتب والمؤلفات والدوريات الشهرية واليومية التي عالجت القضايا الإسرائيلية، بأن التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي في العقود الثلاثة الأخيرة هي التي جعلته ينزاح أكثر فأكثر نحو اليمين.

ويفسّر بعض المحللين هذا الانهيار في مواقع اليسار الصهيوني، وتصاعد نفوذ قوى اليمين، بالتحوّلات الاجتماعية والديموغرافية التي صار يشهدها المجتمع الإسرائيلي منذ عقد الثمانينيات، بالإضافة إلى الخوف الذي صار ينتاب الإسرائيليين ويشعرهم بأنهم مهددون في وجودهم، ويواجهون، بعد ستين عاماً على قيام دولتهم، تحديات أمنية متصاعدة ومعقدة، يأتي في مقدمها  التحدي النووي الإيراني وتحدي المنظمات التي توصم بـ"الإرهاب"(1).

وبحسب عضو الكنيست العمالية كوليت أفيتال، فـ"إن الشعب اليهودي الذي أصيب بالعمى السياسي، لم يعد يكترث لمعاناة الآخرين، ولم يعد يرى سوى نفسه"، وهي تعتبر بـ"أن أكثر ما يثير القلق في ظاهرة تجذَّر مواقع اليمين المتطرف في إسرائيل هو أن هذا التوجه يتجلّى بوجه خاص بين الشبان". أما الصحفي أكيفا إلدار من هآرتس، فهو يلاحظ بأنه بات يسيطر على وعي اليهودي الإسرائيلي "الشعور بكونه ضحية، وذهنية الحصار، ونزعة الوطنية العمياء، والنزعة العدائية، والشعور بالرضا عن النفس، وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم". بينما يكتب مناحيم كلين، أستاذ العلوم السياسية: "إننا نحكم بالاستناد إلى القوة، وأصبحنا نظاماً اتنو - أمنياً، متغطرساً وأنانياً، حيث نحن على قناعة بأننا الأفضل وبأن الآخرين لا يساوون شيئاً". وحذّر كلين نفسه من أن الصراع "يتحوّل إلى صراع ديني- إثني، ولم تعد السياسة فاعلة معه".

تنامي ظاهرة التطرف

إن تحول المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين يبرز في مظاهر عديدة، من بينها إمّحاء الحدود تقريباً بين معسكر اليسار ومعسكر اليمين الصهيونيين، فيما يتعلق بالسياستين الاجتماعية والأمنية، وتوحد خطابهما في إطار سياسة "الإجماع القومي"، وتنامي نفوذ الأحزاب المتطرفة، الدينية أو القومية، التي تدعم الاستيطان وتوسّعه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتؤيّد مشاريع ترحيل المواطنين العرب الفلسطينيين باعتبارها الحل الوحيد للحفاظ على الطابع اليهودي للدولة.

وإذا كانت سيرورة هذا الانزياح قد انطلقت مع وصول حزب الليكود، للمرة الأولى، إلى الحكم في أيار 1977، ومرّت، منذ ذلك التاريخ، بمحطات عديدة، فإن  المحطة الأهم  في مسار تطوّرها كانت في العام 2000، الذي شهد فشل مفاوضات كمب ديفيد بين ياسر عرفات وأيهود باراك، من جهة، واندلاع الانتفاضة الثانية، من جهة ثانية. فإثر هذين الحدثين، حصل انقلاب على مواقف قطاعات واسعة من الإسرائيليين، المحسوبين على معسكر اليسار، من عملية السلام، عبّر عن نفسه في بروز شعور لدى هذه القطاعات بخيبة الأمل من التوّصل إلى سلام مع الفلسطينيين وتشكّل قناعة لديهم بعدم وجود شريك فلسطيني لصنع هذا السلام. وقد ساهم هذا الانقلاب في تراجع كل الظاهرات "الانشقاقية" التي ظهرت داخل المجتمع الإسرائيلي عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في صيف العام 1982، واندلاع الانتفاضة الأولى في نهاية العام 1987، وتطوّرت بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، وفي مقدمها ظاهرة "ما بعد الصهيونية" وظاهرة "التأريخ الجديد".

عزّزت عودة حزب العمل إلى السلطة بزعامة إسحاق رابين، إثر الانتخابات التي جرت في حزيران 1992، ومن ثم التوقيع على اتفاق أوسلو، الأمل في "السلام" الذي راح يبرز مع انعقاد مؤتمر مدريد، لاسيما وأن البرنامج الذي استند إليه حزب العمل، خلال حملته الانتخابية، كان متقدماً نسبياً، من زاوية الاستجابة لمتطلبات السلام، على كل ما سبقه من برامج.

إلا أن حكومة حزب العمل لم تلتزم، في ممارساتها العملية، ببنود اتفاق أوسلو، ولم تتقيّد بالمواعيد المتفق عليها لتنفيذها، بل استمرت في سياستها الاستيطانية، وفرضت الحصار الاقتصادي على المناطق الفلسطينية المحتلة، وعطّلت عمل اللجنة الرباعية المكلّفة بحث عودة نازحي العام 1967، ورفضت إطلاق سراح معظم السجناء السياسيين الفلسطينيين، وحالت دون إشراف السلطة الفلسطينية على القطاعات الحيوية.

أما إسحاق رابين، فقد ظهر بوصفه زعيماً حذراً، يتجنب خوض المواجهات الحاسمة مع المستوطنين والمتطرفين اليمينيين من أعداء السلام، حتى أنه لم يجرؤ، إثر المذبحة التي ارتكبت في المسجد الإبراهيمي في الخليل في 25 شباط 1994، على إبعاد بضع عشرات من المستوطنين المتمركزين في قلب المدينة، علماً بأن عدداً كبيراً من الإسرائيليين كان سيدعم إقدامه على خطوة كهذه. وبينما كانت حكومة حزب العمل تتخذ هذه المواقف، كانت حركات السلام، التي عرفتها إسرائيل في الثمانينيات، تذوي شيئاً فشيئاً. فحركة "السلام الآن" اختفت تقريباً من مسرح الأحداث في أعقاب وصول حكومة إسحاق رابين إلى السلطة وتوقيعها على "اتفاق أوسلو"، وذلك بعد أن تشكّلت قناعة لدى قيادتها بأن الضغط الجماهيري على تلك الحكومة سيؤدي إلى إضعاف معسكر اليسار. وقد تسبّبت حالة الشلل التي صارت تعيشها هذه الحركة في خروج مجموعة راديكالية من صفوفها شكّلت ما عُرف باسم "التكتل من أجل السلام"، بيد أن نفوذها بقي محدوداً.

وعلى الرغم من استمرار وجود تنظيمات صغيرة أخرى تعمل من أجل السلام تحت رايات مختلفة وبأساليب متنوعة، إلا أن حركة السلام الإسرائيلية بمجموعها لم تعد تمثّل ومنذ سنوات - كما رأى أوري أفنيري- قوة سياسية ذات شأن في المجتمع الإسرائيلي(2).

وذهب إسحاق رابين، في نهاية الأمر، ضحية تردداته؛ وعوضاً عن أن يسعى خلفه شمعون بيريس إلى تغيير مجرى الأحداث بصورة جذرية، مستفيداً من أجواء العداء لليمين المتطرف التي سادت الكيان الصهيوني إثر اغتيال رابين، اختار الهروب إلى الأمام من السلام؛ فشنّ عدوانه الواسع على لبنان، وعلّق المفاوضات السلمية مع سورية، وبدأ التحضير لحملة الانتخابات المبكرة متسلحاً بخطاب "حربي" لم يختلف كثيراً عن خطاب منافسه زعيم الليكود بنيامين نتنياهو.

وبيّنت نتائج الانتخابات التي جرت في أيار 1996، والتي أعادت حزب الليكود إلى السلطة، أن الإسرائيليين، في ظل افتقادهم قيادة قوية وحازمة في توجهها نحو "السلام" مع العرب، يخشون السلام أكثر مما يخشون الحرب. ومع أن حزب العمل قد عاد من جديد إلى السلطة بزعامة أيهود باراك، في عام 1999، إلا أن السياسات التي انتهجها هذا الأخير، خلال فترة رئاسته القصيرة للحكومة، لم تكن مختلفة كثيراً عن سياسات بنيامين نتنياهو، حيث أرفق دعوته الفلسطينيين إلى إدارة مفاوضات مباشرة حول الحل الدائم  بأربع "لاءات": لا للعودة إلى حدود 4 حزيران 1967، لا لتفكيك مستوطنات، لا للانسحاب من القدس الشرقية، ولا لعودة اللاجئين.

وقد تمثّل المظهر الأبرز لامّحاء الحدود بين معسكري اليسار واليمين الصهيونيين في تبنيهما الموقف نفسه من الاستيطان اليهودي داخل المناطق الفلسطينية المحتلة، حيث بقي المستوطنون وأنصارهم، على مدار السنوات التي أعقبت التوقيع على اتفاق أوسلو، عنصراً شديد التأثير في الساحة السياسية، وظلت حكومات إسرائيل المتعاقبة، بتلاوينها المختلفة، تؤيد وتدعم توسيع الاستيطان، الذي كانت غايته إيجاد ظروف ووقائع ميدانية تحول دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات تواصل جغرافي.

تحوّلات اجتماعية عميقة

كان تراجع نفوذ اليسار الصهيوني نتيجة تحوّلات عميقة، ديموغرافية واجتماعية، راحت تحدث داخل المجتمع الإسرائيلي منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين.

فعلى الصعيد الاجتماعي، أدّت سياسة الانفتاح الاقتصادي والاندماج في سيرورات العولمة وتراجع الدولة عن وظائفها في الحقل الاجتماعي إلى إضعاف الركائز الاجتماعية التي استند إليها اليسار الصهيوني، وإلى تعميم قيم ونزعات جديدة في المجتمع، كالفردية والتنافس والتهافت على الاستهلاك. أما على الصعيد الديموغرافي، فقد أحدثت هجرة ما يقرب من مليون من الناطقين بالروسية إلى الكيان الصهيوني تحولاً عميقاً في المجتمع، فأضعفت، من جهة، المكانة المهيمنة التي كانت تحتلها المجموعة الأشكنازية - الغربية العلمانية، التي كان يستند إليها اليسار الصهيوني، وقوّت، من جهة ثانية،  النزعات الرامية إلى إبراز التعددية الثقافية والإثنية.

ومنذ العام 1997، قدّر سيرج شميمان، مراسل جريدة  "نيويورك تايمز" في الكيان، بأن "قوة جديدة" يمينية مشكّلة من أقليات إثنية ودينية واجتماعية: السفارديم (اليهود الشرقيين)، والمهاجرين الروس، والمتديّنين الأرثوذكس والمستوطنين، صارت تتحكّم في سياسة إسرائيل، ورأى بأن بروز هذه القوة لا يمثّل ظاهرة عابرة في المجتمع الإسرائيلي بل هو يعبّر عن واقع اجتماعي وسياسي سيزداد رسوخاً مع الوقت. ومع أن هناك نزاعات مصالح تدور فيما بين الأطراف المكوّنة لهذه القوة، كالنزاع بين المتدينين والعلمانيين، أو النزاع بين المهاجرين الروس واليهود الشرقيين، الذين عبّروا عن استيائهم من المساعدات السخية التي قدمتها الدولة للمهاجرين الروس، إلا أن هذه الأطراف تلتقي كلها على عدد من القواسم المشتركة، مثل عدم الثقة بالسلام مع العرب، والعداء لاتفاق أوسلو، وكره اليسار والنخبة الليبرالية العلمانية الغربية المسيطرة على الإعلام والثقافة والاقتصاد(3).

وقد أدّى بروز هذه القوة اليمينية إلى حدوث تغيّر في طبيعة تركيب فئة ضباط الجيش، حيث أدّى تراجع استعداد الشبان العلمانيين الغربيين لاختيار المهنة العسكرية، وتبدّل الحوافز المتعلقة بالخدمة العسكرية وارتباطها بالمصالح المادية في ظل التحوّل الـ"نيو/ليبرالي" للاقتصاد – كما يلاحظ البروفسور يورام بيري - إلى نشوء مخزون احتياطي جديد من الضباط المشحونين إيديولوجياً. فقد زاد ثقل المعسكر الديني – القومي داخل الجيش، وارتفع العدد النسبي لمرتديي قلنسوات المتدينين بين الضباط،. كما راحت فئة المهاجرين الروس تترك بصماتها على الجيش؛ فمع أنه يوجد بين الناطقين بالروسية اتجاه يعارض الخدمة العسكرية، إلا أن هناك اتجاهاً معاكساً يرى في الخدمة العسكرية عملاً إيجابياً بسبب الفائدة المادية أو لأسباب قومية. ومنذ بدء الانتفاضة الثانية ارتفعت معدلات تجنّد هذه الفئة، التي من المتوقع أن يصبح وزنها، في صفوف كبار الضباط، بارزاً في المستقبل. أما الفئة الثالثة التي زاد وزنها في أوساط النخبة العسكرية فهي فئة اليهود الشرقيين.

وقد ترافق هذا التغيّر الإثني في تركيب القيادة العسكرية، الذي خفض الوزن النسبي للنخبة القديمة الأشكنازية- العلمانية ورفع وزن النخب الجديدة، مع تغيّر اجتماعي، حيث تدنّى الوزن النسبي لمنتسبي الطبقات العليا، وارتفع التمثيل النسبي لأبناء الطبقات المتوسطة والمتدنية.

وكما يرى بيري نفسه، فإن هذه التغيّرات التي يشهدها الجيش تنطوي على  مدلولات سياسية وإيديولوجية مهمة، حيث يتميّز الضباط الكبار الذين ينتمون إلى النخب العسكرية الجديدة بميولهم القومية والدينية أكثر من تلك الموجودة لدى ضباط النخبة العسكرية القديمة، وهو ما سينعكس على مسائل سياسية ملموسة، مثل مواصلة الصراع ضد الفلسطينيين، ومستقبل المستوطنات وموقف الجيش من احتمال تفكيك بعضها والانسحاب من الضفة الغربية. ونظراً إلى أن عدداً غير قليل من الضباط، وبصفة خاصة من الوسط الديني – القومي، يقيمون داخل المناطق المحتلة، فمن المحتمل أن تنشأ نواة من الضباط الذين يقاومون عمليات تفكيك المستوطنات أو الانسحاب من الضفة الغربية، ولو بالقوة(4).

كما ساهمت في انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين ظاهرة تزايد نفوذ الأحزاب الدينية التي باتت أقوى من أي وقت مضى، وتتمتع بقوة انتخابية كبيرة وتشكّل، عموماً، قاعدة لأنصار "إسرائيل الكبرى"، والحاضنة التي نمت فيها المنظمات والحركات اليمينية المتطرفة مثل حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية. وكان الصحفي الإسرائيلي جوزيف الغازي قد أرجع تنامي نفوذ هذه الأحزاب إلى ظاهرة جديدة صار يشهدها المجتمع الإسرائيلي وتتمثّل في "التحوّل نحو الإيمان"، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن عدداً متزايداً من الإسرائيليين صار يتحوّل، بأشكال مختلفة، في السنوات الأخيرة، نحو الإيمان الديني، إما بتأثير إعلام الأحزاب الدينية وإذاعاتها، أو كردة فعل على أحداث مهمة وخيبات أمل أو لمجرد الشعور بالحاجة إلى التديّن(5).

وتسعى الأحزاب الدينية، التي يشغل ممثلوها مواقع مهمة في حكومات اليمين واليسار الصهيونيَيْن على السواء، إلى زيادة تحكّمها بالدولة، حيث يطالب المتديّنون الأرثوذكس بأن يكون لهم وحدهم الحق في تقرير مَن هو اليهودي، إضافة إلى احتكارهم صلاحية عقد الزواج وفسخه. بينما يريد غلاة اليهود الأرثوذكس في مدينة القدس، الذين يُطلق عليهم اسم "الحارديم"، أي "خشاة الله"، أن يفرضوا على سكان المدينة التقيّد الحازم بتعاليم الشريعة اليهودية. ويُعتقد بأن هذه الطائفة، التي تشكك بدور المحكمة العليا في إسرائيل، وتدّعي بأن هذه المحكمة لا تمثّل الشعب تمثيلاً كاملاً، ستغدو خلال السنوات القليلة القادمة مهيمنة ديموغرافياً، وبالتالي دينياً وسياسياً، على القدس، لاسيما وأنها ترفض الالتزام بمبدأ تحديد النسل.

ويرى إيلي برنافي، في الكتيب الذي أصدره بعنوان: "إسرائيل- فلسطين. حرب أديان" (باريس، منشورات بايار، 2006) أن هناك عوامل تفسّر هذا التزايد في نفوذ الأحزاب الدينية، من بينها أن الديانة اليهودية، هي "ديانة قومية يتشابك فيها الإثني والديني بصورة وثيقة، ولا يحمل فيها معنى التمييز بين الديني والسياسي"، وكذلك التباس علمانية "دولة إسرائيل"، في ظل استمرار وجود رابط وثيق بين المواطنة، والإثنية والدين فيها، وانطواء الصهيونية على مكوّن مسياني يرجع إلى العمق التاريخي للتوراة وإلى الرغبة في الانتساب إلى ماض عريق يمتلك شرعية. ويعتبر الكاتب نفسه أن حرب حزيران 1967 قد مثّلت محطة مهمة على طريق تنامي نفوذ الأحزاب الدينية. وبرجوعه إلى التاريخ، يذكر برنافي بأن الأرثوذكسية اليهودية بمجموعها كانت تاريخياً معادية للصهيونية، وتعتبر بأنه إذا كان نفي اليهود عقوبة إلهية لهم، فإن الله وحده هو القادر على إرجاع الشعب اليهودي إلى أرضه، الأمر الذي يعني بأن إرجاعهم بالوسائل السياسية، كما تبغي الصهيونية، يمثّل خطيئة. لكن، فيما بعد، برزت فئة من داخل معسكر الأرثوذكسية الدينية، هي الحركة المزراحية، قررت أن تتحالف مع الصهيونيين، لأسباب عملية، معتبرة "أن مرتكبي المذابح لم يفرّقوا بين الطرفين"، ولأسباب لاهوتية، مقدّرة "بأن الله في وسعه تسريع الافتداء كما يشاء، بما في ذلك عبر حركة تتجاهله ظاهرياً". وبعد قيام الكيان، عقد بن غوريون – كما يتابع برنافي- تحالفاً مع ما بات يعرف بالحزب القومي الديني، سيطر بموجبه الصهيونيون العماليون على مؤسسات الدولة، وبخاصة في مجالي الدفاع والاقتصاد، بينما حافظ المتدينون على شبكتهم التعليمية وضمنوا للحاخامين احتكار البت في الأحوال الشخصية للمواطنين ومجموعة تدابير أخرى تضمن "الطابع اليهودي" للدولة. بيد أن اعتدال الحركة المزراحية في السنوات الأولى للدولة كان "خادعاً"، حيث ظلت هذه الحركة السياسية الدينية تنظر للدولة بوصفها أداة مقدسة، وبداية مرحلة افتداء الشعب اليهودي ووسيلة لتسريع مجيء المسيح. واتّخذت الحركة طابعاً راديكالياً إثر حرب حزيران 1967، معتبرة الانتصار الذي حققته إسرائيل فيها والسيطرة على ما يسمى بـ"يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) بمثابة "معجزة" وتعبير عن "التدخل الإلهي". وبذلك، كانت حرب حزيران نقطة انطلاق صهيونية مسيانية، صارت تمثّل أقلية نشيطة ومنظّمة تنظيماً جيداً. فالشبان المتدينون، الذين لم يكن لهم دور يذكر في تاريخ "اليقظة القومية" باتوا يمثّلون قلب المشروع الصهيوني. وساعدهم الإعياء الذي أصاب الصهيونية العلمانية، التي استنفدت قواها في نجاحاتها، على احتلال الفراغ الإيديولوجي الناشئ.

إن هذه الصهيونية الجديدة المسيانية قد قلبت، في نظر برنافي، آفاق الصهيونية الأصلية: فالقدسية التي تتمتع بها الأرض، في نظر أنصارها، تمنع بالمطلق أي تنازل عن أي جزء منها، وتحكم طريقة التعامل مع "الغريب" (في هذه الحالة مواطني إسرائيل العرب)، وكذلك مع "العدو الخارجي" (الفلسطينيين والدول العربية)، ومع العدو الداخلي، الخصم الإيديولوجي في المعسكر اليهودي. وفي منطق هذه الصهيونية، فإن الخائن من الداخل هو أسوأ من العدو الخارجي. ويخلص الكاتب نفسه إلى أن هذا الشعور هو الذي يحرّك أعضاء "كتلة الإيمان"، بوصفها رأس حربة الاستيطان في المناطق الفلسطينية، أو "شبيبة الهضاب"، الذين يقيمون المستوطنات "العشوائية"، بالإضافة إلى منتسبي المجموعات الأكثر تطرفاً الذين يعارضون بحزم فكرة الانسحاب من الضفة الغربية. ويبدي بعض أعضاء هذه المجموعات استعدادهم للبقاء في مواقعهم في ظل سيادة فلسطينية، والانفكاك عن "دولة إسرائيل"، التي ستفقد في نظرهم، في حال الانسحاب من المناطق الفلسطينية، شرعيتها النابعة من كونها "بداية الافتداء، وتأسيس مملكة الله على الأرض". بينما يبحث آخرون منهم  فكرة التضحية بأنفسهم، التي تذهب إلى حد الانتحار والاستعداد للموت قبل "مخالفة تعاليم الله"، وأهمها استيطان البلاد. ويستشهد برنافي بمقال كتبه دافيد هائيفري، وهو زعيم منظمة يمينية متطرفة تدعى "رفافاه" (عشرة آلاف)، ووجّه فيه دعوة إلى أنصاره يحثهم فيها على حمل السلاح للوقوف في وجه تفكيك المستوطنات، معتبراً بأن الحرب الأهلية أمر مشروع، كما كانت مشروعة في الماضي حرب سبط بنيامين ضد الأسباط الأحد عشر الأخرى، والصدامات التي دارت بين مملكة إسرائيل ومملكة يهودا أو بين المكابيين واليهود المتأثرين بالهيلينية. "فأرض إسرائيل – كما كتب - "هي هبة من الله لشعب إسرائيل ولا يمكننا التنازل عن إرثنا للعدو بحجة وحدة زائفة مع أولئك الذين يهدفون إلى محو قدسية أمتنا وأرضنا".

مواجهة الخطر الوجودي

منذ خريف العام 2000، انطلقت حملة إيديولوجية واسعة تشيع أن على المجتمع الإسرائيلي، الذي صار يواجه "خطراً وجودياً"، أن يحيي قيم الصهيونية ويعيد تربية الجيل الفتي بروح حرب العام 1948. واتّخذت هذه الحملة أبعاداً جديدة في الفترة التي أعقبت أحداث 11 أيلول 2001 من خلال دمج أطروحة "صدام الحضارات" بمقولة "الحرب الشاملة على الإرهاب"، الأمر الذي دفع البعض إلى الحديث عن تحوّل الصراع العربي-الإسرائيلي من صراع على الأرض إلى صراع ديني-ثقافي. وكما قدّر الصحفي دورون روزنبلوم، فـ"إن إسرائيل صارت تشهد، منذ ذلك التاريخ، ولادة صهيونية جديدة  لا تحركّها الرغبة في التطبيع والحياة الأفضل، بل احتلال موقع الضحية والرغبة في ممارسة القمع، اللذين يتحوّلان إلى مبرر للوجود". ويتابع الصحفي نفسه قائلاً: "إن تداعي كل الآمال قد أعادنا إلى أنفسنا، إلى منابع الصهيونية نفسها، إلى الحقائق القاعدية ذاتها: الهجرة، والاستيطان، وتحرير الأرض، وتعزيز سيطرتنا وتوسيع حدودنا".

وفي سياق السعي إلى نفخ روح جديدة في الصهيونية وتعزيز سياسة "الإجماع القومي" ، جرت محاولات عديدة لاستحضار "المسلّمات المؤسسة" للصهيونية وأساطيرها، وصارت توجّه انتقادات شديدة للتيارات التي تنتقد هذه المسلمات والأساطير، ويتّم تضخيم التأثيرات التقويضية التي تترتب على هذه التيارات. وكان ما عُرف باسم "ميثاق طبريا"، الذي صدر في أواخر عام 2005 عن مجموعة "منتدى المسؤولية القومية" التي تشكلت من كتاب وأكاديميين وصحافيين من  اليمين واليسار الصهيونيين، من أبرز تعبيرات الالتفاف حول سياسة "الإجماع القومي". وكان الهدف منه "تشخيص المبادئ التي توحّد غالبية اليهود في البلاد"، وتحديد "القيم الأساسية للمجتمع الإسرائيلي"، وفي طليعتها أن إسرائيل هي "البيت القومي للشعب اليهودي"، وأنها "دولة يهودية تقيم صلة رسمية مع يهود الشتات ومع التاريخ اليهودي والديانة اليهودية"، وأنها "دولة ديمقراطية". وقد أقصي العرب الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948 من دائرة النقاش الذي أفضى إلى تبنّي هذا الميثاق(6).

وتترافق مع كل هذه الظواهر مع ظاهرة تراجع التأييد للديمقراطية ومبادئها داخل المجتمع الإسرائيلي، وهي ظاهرة يتوقف عندها بالتفصيل أنطون شلحت في كتاب: في صورة إسرائيل. فيذكر بأن المعهد الإسرائيلي للديمقراطية قد اعتمد منذ العام 2003 "مؤشراً للديمقراطية"، أشار إلى أن إسرائيل هي، في الجوهر، "ديمقراطية شكلية، لم تفلح بعد في أن تكيّف نفسها مع مميزات الديمقراطية الجوهرية، وفي أن تستبطن القيم والمفاهيم والثقافة الديمقراطية، ناهيك عن  أن وضعيتها في جانب الحقوق مثيرة للقلق". أما "مؤشر الديمقراطية" لعام 2004 فيشير إلى أن وضع إسرائيل "مثير للقلق" لدى مقارنته مع الدول الديمقراطية الأخرى، حيث حصل تراجع في نسبة تأييد جمهور اليهود للمعايير الديمقراطية، فانخفضت نسبة التأييد لمقولة إن الديمقراطية هي الشكل الأفضل لنظام الحكم، وباتت غالبية من الجمهور تعتقد بـ"أن  في إمكان زعماء أقوياء أن يجلبوا منفعة للدولة أكثر من جميع الأبحاث والقوانين". كما باتت تشيع أفكار من نوع "أن إسرائيل في حاجة إلى حكم ديكتاتوري"، أو إلى "فرض نظام طوارئ (ديكتاتوري) ينأى بنفسه عن أصول اللعبة الديمقراطية".

ويرجع كتاب: في صورة إسرائيل ظاهرة تراجع التأييد للديمقراطية هذه إلى "عثرات" التربية الديمقراطية في إسرائيل  وإلى كون غالبية كبيرة من الجماهير اليهودية في إسرائيل تفتقد إلى التقاليد الديمقراطية، حيث أن اليهود في إسرائيل هم أبناء الجيل الأول أو الثاني أو الثالث ليهود جاؤوا من دول أوتوقراطية لم تنتشر فيها ثقافة سياسية ديمقراطية- ليبرالية، كما أن الحركات والأحزاب السياسية الرئيسية لا تمتلك تقاليد ديمقراطية راسخة؛ فمعسكر اليسار الصهيوني نشأ على تقاليد جماعية قدّست مبدأ الأكثرية لا الحريات الفردية، بينما أعطى معسكر اليمين الصهيوني الأفضلية للقيم القومية ولتقديس النظام والقوة والانضباط والنزعة العسكرية، في حين اعتبر المعسكر الديني أن إتّباع الشريعة اليهودية والحفاظ على الطابع اليهودي للدولة أهم بكثير من حريات الإنسان وحقوق المواطن. ومن جهة أخرى، فإن افتقاد إسرائيل إلى دستور يمثّل عقبة كبيرة أمام العملية التربوية الديمقراطية(7).

باحثة في علم الاجتماع السياسي(*)

الهوامش:

1- د. عزيز حيدر، "إسرائيل بعد 60 عاماً: أزمة اتخاذ القرار في مواجهة ضغوط الأمن والديموغرافيا"، قضايا إسرائيلية، العدد 30، 2008، ص 7-17.

2- أوري أفنيري، "النضال من أجل السلام في إسرائيل"، لوموند ديبلوماتيك، آب 1997، ص 12.

3- ماهر الشريف، "هل للسلام مستقبل؟"، الطريق، بيروت، آذار - نيسان 1998، ص 4-21.

4- بروفسور يور امبيري، "النخبة العسكرية الجديدة في إسرائيل: لماذا يعتبر فهم النخبة العسكرية أمراً مهما؟"، قضايا إسرائيلية، العدد 28، 2007، ص 50-66.

5- لوموند ديبلوماتيك، شباط 1998، ص 10.

6- أنطون شلحت، في صورة إسرائيل(مداخلات حول سنة 2000 وما بعدها)، مدار، آذار 2008، ص151-158.

7- أنطون شلحت، في صورة إسرائيل، المصدر المذكور، ص 32-41. 

اعلى الصفحة