إشكالية سؤال النهضة: لماذا تأخر المسلمون؟ وكيف يتقدمون؟

السنة الثانية عشر ـ العدد141 ـ (شوال ـ ذو القعدة 1434  هـ ) أيلول ـ 2013 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لا يزال سؤال النهضة الإشكالي (لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟) حاضراً بقوة وحاراً كلحظة تشكله الأولى منذ بدايات القرن الماضي المنصرم.. كما ولا تزال الإجابات عليه -على تنوعها واختلافها وتمظهراتها الفكرية والأيديولوجية- تتوارد بأشكال وأنماط فكرية ومفاهيمية متنوعة ومتعددة، لكن أكثرها جاء بصيغة مشاريع نهوض تقدمية أسست فكرياً ومعرفياً – وبحسب مرتكزات ومرجعيات تلك المشاريع- لتصورات الحالة المنتجة الفعالة لواقع العرب المنشود والمأمول منه أن يكون نافعاً ومثمراً على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية..

والملاحظ أن كل تلك المشاريع –على تباين وتعدد مرجعياتها القومية أو اليسارية أو الدينية الإحيائية- اجتمعت على اعتبار أن أزمة التقهقر الحضاري التاريخي العربي الممتدة منذ أكثر من ألف عام هي في الأساس ذات امتدادات بنيوية ثقافية ومعرفية بامتياز... ولكنها –مع اتفاقها في بعض مقدمات الرؤى التنظيرية نسبياً- اختلفت وتباينت حول طبيعة مضامين طرق معالجات الأزمة (المرض الحضاري)، ومتطلبات حلها، وفك عراها المعقدة، وبالطبع من دون نتائج عملية حقيقية على صعيد الإنسان والتنمية والاقتصاد، إلا في حالات نادرة تمثلت في نوع من الرخاء والرفاه الاستثنائي الذي عاشته بعض دول الخليج العربي نتيجة اقتصاداتها الريعية ليس إلا.

ولكن الكل (كل مشاريع النهوض الآنفة الذكر) كان يؤكد وينظر بأن عملية تغيير بنى مجتمعاتنا (الراسخة) - بمختلف مكوناتها وشيفراتها الفكرية والمعرفية والثقافية، ومختلف مآلاتها السلطوية شبه الدائمة منذ أيام وزمانات "الملك الأموي العضوض"- بحاجة ماسة إلى جهود فكرية بنيوية نقدية مضنية وحثيثة من الاشتغال على نقد الذات الحضارية المريضة، واجتراح أسس الحل، وذلك للقيام لاحقاً بكافة مقتضيات وإجراءات التحولات البنيوية في طبيعة العقليات والمفاهيم، وفي أنماط الوعي والسلوك والتفكير والتخيل..

والملاحظ أيضاً أن هذا المعتقد الفكري قد رسخ في بنية الثقافة العربية، واستوطن في قلب ووعي كل مشاريع النهوض العربية، أي أنه كان بداية الطريق لكل المشاريع التنويرية والنهوضية حتى في مديات زمنية لاحقة لأجيال مقبلة عديدة.. وهذا ما كنا نقصده دوماً من أن أزمتنا ثقافية معرفية بامتياز قبل آن تكون أزمة سياسية اجتماعية.. أزمة فكر وثقافة ووعي، قبل أن تكون أزمة إدارة للشأن السياسي والاجتماعي العام.. ولهذا كان ولا بد أن يكون من الأولى الانطلاق من البداية، أي من الثقافة، أي من الرأس والعقل، وليس من النهاية، أي من السياسة والاجتماع والاقتصاد، وتدبير شؤون الناس، وفض خصوماتهم، وتحقيق العدل والمساواة بينهم، من خلال بناء دولة المؤسسات والقانون، دولة المواطنة الصالحة.

ولكن يبقى السؤال مشروعاً ومفتوحاً بالفعل طالما أننا لا نزال نقبع في الهامش والمتون الحضارية على مستوى العلم والتطور والحداثة التقنية: لماذا لم يتمكن العرب - بعد تشخيص الداء والمرض والوقوف على سبل وطرق العلاج الممكنة- من السير ولو خطوة واحدة على طريق التطور والتقدم التاريخي لبناء مواطن سليم معافى عقلياً ومادياً، منتج ومؤثر علمياً وتقنياً، وحاضر بقوة فكره وعلمه ومخترعاته ومكتشفاته، في معادلة الحضور الكوني العالمي مثل باقي حضارات وأمم العالم المتقدم؟! ولماذا لم تتمكن سلطات ونظم الحكم العربي من بناء وطن مقتدر قوي حصين ومنيع.. مع أنها رفعت شعارات التقدم والتطور والاكتفاء الذاتي؟ ولماذا فشلت كل أو معظم خطط واستراتيجيات التنمية الداخلية لتلك البلدان التي باتت لشدة الفشل الذريع تعتمد - بصورة شبه كلية - على المصادر الخارجية تمويلاً واقتراضاً واستثمارات كنتيجة طبيعية لغياب تلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية العامة، والعجز ربما – في حال وجود بعض تلك السياسات والبرامج التنموية - عن استثمار واستنفار كل القدرات والمواهب والإمكانات البشرية وقدرات الفئات الوسطى وأصحاب المهارات والكفاءات في عملية التنمية الحقيقية؟!..

ومع وجود تطبيقات وتجارب عملية محددة كماً ومحدودة نوعاً لبعض خطط التنمية ذات الطابع الاشتراكي، أو تلك التي اعتمد فيها على اقتصاد السوق (غالباً ما كانت ذات تجارب ريعية الطابع تقوم على تجميع وتكديس المال والعملة الصعبة ضمن صناديق "سيادية!!" جراء بيع مواد خام كالنفط والغاز وغيرهما من دون وجود صناعات ثقيلة ذات امتدادات متجذرة في بنية الدولة والمجتمع، ومن دون امتلاك زمام المبادرة العلمية والتقنية فيها)... كل ذلك لم يمنع للأسف من زيادة رقعة ومساحة وحجم بقع الفقر العملاقة، ولا في إنقاص معدلات البطالة المرعبة، خصوصاً لدى العناصر الشابة المتعلمة في بلداننا العربية، وحتى منها تلك البلدان والدول الغنية بالثروات النفطية نتيجة الطغيان السياسي، وسوء إدارة الموارد، وهيمنة عقلية الفساد.

وهذا الفقر الشامل والعميم والتخلف المقيم لا نعتقد أن محاربته تنجح وتتم بصورة مضمونة النتائج إلا في ظل وجود مناخ سياسي حر ومنفتح، تتم فيها وبسلاسة عملية توطين العلم والمعرفة العلمية والتكنولوجيا، والدخول في عالم صناعة وإنتاج السلع والخدمات المطلوبة في الاقتصاد المعولم الذي نعيش فيه.

وقد أثبتت التجربة التاريخية العربية مع الغرب، ومع مختلف دول العالم المتقدم، أن الرهان على الدول المتقدمة، هو رهان على حصان خاسر، بما يعني أن الاعتماد كلياً على الخارج لا معنى له، لأنه سيجعل من بلداننا رهينة لزمن هذا الآخر الغادر، وسيبقيها في ثلاجة الانتظار وحالة تخلف مغطاة بقشرة حداثوية شكلية لا تغني ولا تسمن من جوع.

فالغرب سبق له أن أقام وجوده وركز وعمم مركزيته الغربية الثقافية والحضارية، وحضوره النوعي المؤثر من خلال تلك الثورات العلمية والتقنيات المذهلة والاكتشافات العظيمة المفيدة الفائقة على مستوى العالم، وعلى حساب باقي ثقافات هذا العالم بالطبع، وخصوصاً ثقافتنا وذاتنا الحضارية العربية والإسلامية.. وهذه من أهم التحديات، وهي تأتي على رأس قائمة الأولويات المصيرية التي تحيط بحضارتنا التي توقف إنتاجها العلمي والبحثي عن التوليد الذاتي منذ قرون طويلة كما ذكرنا أعلاه، لتصبح تابعة ومستلبة، منفعلة غير فاعلة، في ظل تنامي وتصاعد الحركية العلمية للغرب الحديث على كل المستويات والأصعدة حتى باتت الاختراعات تقاس بالشهور وربما بالأسابيع وليس بالعقود الطويلة.

وقد لعب هذا التأخر والتراجع (ومن ثم التخلف) العلمي والمعرفي العربي والإسلامي عن الركب العلمي المعرفي الغربي، والذي جاء كنتيجة طبيعية لحالة الترهل الثقافي والكساد العلمي الإسلامي منذ أكثر من ألف ومائتي عام، وهيمنة العقل الفقهي وترسبات وتراكمات الشروح التقديسية البعيدة عن روح الحرية.. بعد أن كان للحضارة العربية الإسلامية تأثير حيوي في تطور أوروبا العصور الوسطى... أقول: لعب هذا التقهقر والتراجع والارتكاس الحضاري الإسلامي دوراً كبيراً في تشتيت مقدراتنا ومواردنا وقوانا الحضارية المادية والمعنوية، وساهم في تهميشها، وجعلها عديمة الفاعلية والجدوى في العمق والامتداد والتأثير.. خاصةً مع تضخم الجانب النظري على حساب ضآلة وضحالة الجانب العملي التقني، أي مع ضخامة التأويل والشرح النظري وشرح الشرح على هوامش وحواشي الكتب القديمة بلا فوائد كبيرة تذكر، مما ساهم في توقف النمو النوعي والإنتاج العملي.

وهذا التحدي الأكبر، تحدي استنهاض الذات الحضارية الفاعلة، يتطلب إعادة بناء معرفية جديدة وعصرية للمشروع الثقافي الإسلامي الخاص بهذه الحضارة الشاهدة (ليكون منفتحاً على العصر والحياة بلا عراقيل ولا حواجز)، بحيث يكون قادراً على استيعاب الواقع الموضوعي الجديد المرتبط بعنصري الزمان والمكان، وإبداع القواعد النصية الخاصة به، خصوصاً وأن هناك تأثيرات عملية سلبية لا بد أن تنجم عن تلك الثورات المعرفية والعلمية الهائلة اللامحدودة، في ما يتعلق بآليات التنميط الثقافي والحضاري القسري التي يستخدمها الآخر في عمله الدائم على فرض نموذجه الحضاري على الثقافات الحية الأخرى.

إذاً شرط الاستقلالية عن الآخر الغربي المتمركز حول ذاته، وعدم الانغماس فيه، والتبعية له، هو أول خطوة صحيحة سنخطوها على طريق النهوض الحقيقي، مع توافر شرط الإرادة وتفعيل قدرات الأمة وزجها في معترك الصراع الحضاري الراهن والمستقبلي... وباعتبار أن الفرد هو أساس وجوهر أي مشروع ومنطلق وغاية الحياة كلها، كخليفة لله على الأرض، فلابد من العمل على تمكين هذا الفرد المسلم الخليفة، تمكينه من الحضور المؤثر والمنتج في ساحة العمل والإنتاج، لكن هذا التمكين لن يحدث طالما أن هناك تجاهلاً مقصوداً وممنهجاً (وبمستويات متعددة) لفكره وقناعاته ومعتقداته الدينية والتاريخية التي يؤمن بها وبقوتها وفاعليتها، ويواليها كنص مقدس أو كسلوك مقدس، أي يمحور حياته بناءً عليها..

وقد عملت النخب والسلطات الديكتاتورية الحاكمة عندنا في عالمنا العربي والإسلامي على مر تاريخنا الثقافي والسياسي منذ قرون طويلة، على إلغاء هذا الجانب من حياة هذا الفرد بصور وأشكال شتى، والتلاعب بها، تفسيراً وتأويلاً، للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها التي تتعارض مع أساس فكرة "الخلافة الربانية" للفرد المسلم والإنسان عموماً..

نعم هناك عقود من الديكتاتورية والقمع السياسي والاستفراد المتوحش بالسلطة، وإلغاء لدور ومكانة الفرد المسلم ومساهمته في بناء مركب الدولة ككل، وربما قد يكون هذا نوع من التعميم ولو أنه يفيد التخصيص، لأننا كعرب عموماً بتنا مختصين ومعروفين ومشهورين وغارقين بهذا النمط البدائي من الحكم السياسي دوناً عن كثير من أمم وخلق الله كلهم تقريباً.. مع انه من الضروري هنا ذكر أسماء وعناوين واضحة وصريحة خاصة.. بلا تعميمات لا طائل منها..

طبعاً نحن لا نريد تبسيط المسألة السياسية والثقافية التاريخية المعقدة، إلى حد تظهيرها بطريقة الثنائيات المطلقة، ولا نريد شيطنة المفاهيم والطروحات والمواجهات مع الغرب أو مع نظمنا العلمانية المستبدة، وتحميلهم دوماً مسؤولية الفشل الحضاري المقيم عندنا منذ قرون وقرون..

نعم الغرب، والسياسات الغربية والدولية عموماً نفعية وذرائعية واستعمالية بالمعنى المادي العضوي للكلمة وليس فقط استعمارية هيمنية تسلطية رعناء.. هذا واضح تماماً منذ عقود طويلة للجميع، وعندما نراجع كل أدبيات أحزابنا العقائدية الثورجية (من أقصى اليمين لأقصى اليسار) نجد أنها تبدع وتنتج وتتوسع - في عمق منظومتها التفكيرية ما شاء الله - في شرح أدق تفاصيل مؤامرات وخطط واستعمارية ونفعية الآخرين.. لا بل أكثر من ذلك، فهناك أحزاب عندنا أقامت وجودها بالكامل على فكرة النفي والاستئصال والمواجهات وغيرها.. هذا كله واضح ومعروف للقاصي والداني، بلا تنظير ولا طروحات مفاهيمية.. لكن: ماذا فعلنا لمواجهة كل تلك السياسات النفعية الاستعمارية التي بتنا جزءاً منها بوعي أو بلا وعي؟ وماذا قدمت دول وحكومات العرب في مرحلة ما بعد عهود الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي لتعمل وتواجه وتنتج وتبدع وتبني وتحدث وتطور؟!! وما هي آليات المواجهة والاستجابة الايجابية الفاعلة وردود الأفعال المنتجة والمثمرة حيال تلك السياسات الاستعمارية؟!! فهل اهتمت بالانجاز والبناء ومواجهة الاستعمار مثلما اهتمت بالحفاظ على الكراسي والبقاء الأبدي في جنان "الملك العضوض" الموروث تاريخياً وثقافياً؟!!!..

الإجابات صعبة ولاشك، وربما تكون مهينة وقاسية، ولكن نعود للتأكيد مجدداً على ما سبق أن أجبنا عليه وقلناه وكتبنا عنه مراراً وتكراراً بلا نخبوية ولا وصائية فكرية... أزمتنا في عالمنا العربي ومنها أزمة مصر والعراق وتونس وليبيا واليمن وسورية هي بالتأكيد، ليست سياسية (وإن كانت السياسة من نتائجها) بل هي أزمة ثقافية معرفية تربوية بامتياز.. فلا سياسة فاعلة ومنتجة وواعية بلا جمهور سياسي واعي ومثقف ومتحمل للمسؤوليات في دوائر ومؤسسات الحياة الصغرى منها قبل الكبرى... ولا إنتاج حضاري مادي حاضر ومثمر في عالم اليوم والغد (عالم القوة والعقل والعلم والصناعة والإنتاج المادي الهائل) بلا تربية وتنمية ذاتية ومجتمعية، وقبلها بلا تنشئة تربوية صحيحة وحقيقية تبدأ من الأسرة، وتنتهي في مناصب ومواقع المسؤولية الكبرى.

لقد صار لي أن أعمل وأشتغل على نقد الفكر ونقد التراث والفكر التراثي الديني منذ عقدين من الزمن تقريباً.. ودعوت ولا أزال أدعو لتربية الفرد المسلم على معايير وأخلاق الدين والسلوك الأخلاقي الديني المنظم، وهي أخلاق عملية واسعة الامتداد والعمق الاجتماعي.. ولكن المشكلة، أن الأخلاق ليس فضاءات وتجريدات وأحلام وردية، حتى يقتنع الناس بها، بلا أرضية قوية ومتينة من القانون والنظام العام.. خاصة وأن الإسلام قد أعطى الفرد المسلم مساحة واسعة من حرية الحركة القيمية الأخلاقية بلا تكلف، وبما لا يضيق على حياة ومعيشة الناس عموماً.. وبما لا يؤدي إلى جعل القيمة سجناً نعيش في داخله بلا حركة ولا عمل ولا إنتاج.

إنني واثق أن الظروف الخارجية المهيمنة على الناس، والتي تشكل ضغطاً على وجودها ووعيها وفعاليتها، ربما تكون من أسباب عدم نجاح كثير من معايير وتطبيقات التنشئة والتربية الإسلامية الصحيحة، الأمر الذي جعلها (أي تلك الظروف المحيطة الخارجية) تضغط على واقع وحياة الناس وتدفعهم لطرق ومسارات لا يعتقدون ولا يؤمنون بها، أي جعلهم يخرقون كثيراً من تعاليم وقيم ومبادئ تلك التربية الصحيحة، ويتبعون سبل التطرف والتعصب.. نعم الناس بطبعها وفطرتها تميل للبحث عن معيشتها وحياتها الطبيعية، وتريد تحقيق سعادتها وإقامة جنة حقيقية على الأرض بعيداً عن الوعود والأماني غير المنظورة، أو بعيداً عن كثير من القناعات الدينية وغير الدينية.. نعم عندما نرفع الضغوط ومسببات التطرف فستعود الناس حتماً إلى وضعها ونسقها الحياتي الطبيعي.

المشكلة كما كنت أقول دائماً ليست في التراث بحد ذاته بل في استخداماته واستعمالاته السلبية، وتخويف الناس وإرباك وجودها وحياتها، ومنعها من ممارسة دورها الحقيقي، وحصولها على حقوقها الأولية البسيطة، ليست المادية فقط، بل المعنوية من حرية وكرامة وعدالة ومساواة في الحقوق والواجبات و... و... الخ.

وهنا يمكن أن نسأل: هل كان هناك تطرف وتعصب وتزمت وتخلف أكثر من تطرف الكاثوليك في أوروبا؟!! هل تعلمون بأن الحروب الدينية أو الصراعات الأهلية الأوروبية كلفت أوروبا عشرات الملايين من الأبرياء.. ولكن التنوير والحداثة والعلم والمعرفة، كله ساهم لاحقاً في حصول الناس على حقوقها ومعرفتها بها قبلاً، ومن ثم أنشأت الحقوقيات المؤسسية والضمانات الدستورية، وعرف الناس والمجتمعات واجباتهم وحقوقهم المصانة بالقانون والدساتير وليس بالعسكر والأمن.. فماذا ينقصنا نحن في عالمنا العربي؟.. ينقصنا أن نشير إلى الخلل، ونكافحه، وهو - قبل أو بعد نقد الثقافة والتراث الديني- كامن في طبيعة السياسة واللعب السياسي والاستبداد بالناس وقهرها وجعلها محبوسة في القمقم وكبتها وكتم أنفاسها بلا قدرة على العمل والإبداع والحضور.

وهذا سيحدث عندنا آجلاً أم عاجلاً، فالتنوير الثقافي والمعرفي، وحداثة العقول النيرة، قادمة لا محالة، وهي شرط حدوث التغيير السياسي.

إن الدول المتقدمة الحضارية الدستورية الحرة، التي مرت بتجارب التنوير والحداثة العقلية والمعرفية والعلمية، والتي تحترم شعوبها بالدساتير والأنظمة والقوانين النافذة المطبقة على الجميع دون استثناءات، لم تقم ولم تتشكل ولم تتطور بالقسر والقمع والأوامر، ولا بالبيانات ولا بالتعميمات الجاهزة الصادرة عن الباب العالي بل تبنى بالأصول القانونية والمؤسساتية والأنظمة القانونية العلمية الرصينة.. وهذا هو أحد مقاييس ومعايير نجاح الدول في تطورها السياسي والاجتماعي خدمة لمواطنيها الأحرار المستقلين.

وعلينا هنا أن نميز بين الدولة كهياكل وبنى ومؤسسات قائمة ثابتة لا تتغير من حيث الإجمال والتكوين الدولتي العام، وبين السلطة أو النظام السياسي الذي يحكم -لفترة زمنية محددة بالدستور قد تصل لأربع أو خمس سنوات- تلك الدول.. وهي لاشك مسيرة شاقة وطويلة.. مسيرة المعرفة العقلية والتنوير القيمي، وبناء دولة القانون والعدل والمؤسسات.

وكلما كانت هذه الدولة الموعودة المسترشدة بهدي الأخلاق العملية، بعيدة عن القوالب والفردانية والنمطية والحزبية والحالة السياسوية التنظيمية والاختزالية الواحدية.. كلما كانت تجلياتها بعيدة عن التمثل والتشخصن في شيوخ ورموز وقادة وزعماء اتخذوا لأنفسهم صفة الألوهية.

أخيراً، أقول، وقد انتقدني بعض الأصدقاء لأنني أنتقد كثيراً سلوكية وأفكار كثير من علماء ورجالات الدين، وأركز على نقد التراث، انتبهوا وافهموا نحن عندما ننتقد رجالات وعلماء الدين، ودعاة التدين ورموز الفكر الإسلامي والناطقون باسم الدين، لا يعني أننا نكرههم ونبغضهم، أو أننا ضد مسألة الدين، أو أننا ننتقد الدين ذاته.. كلا، لأن هؤلاء المعبرين عن الدين في النهاية هم بشر مثلنا، حتى لو رأينا على رؤوسهم ريشة أو عمامة أو أي شيء آخر.. إنهم، نسبيون في تفكيرهم وسلوكهم وتحليلاتهم ووعيهم ومداركهم التي تتأثر بظروف الزمان والمكان، وهي عرضة لعوامل "الحت والتعرية" الفكرية والمعرفية والتاريخية.. وقد يخطئون ويصيبون في تأويلاتهم وشروحاتهم وتفسيراتهم للدين.. أما الإسلام فهو حالة في الفكر والإحساس والممارسة، وهو حالة قد تكون مختلفة كلياً عن أتباعه ورموزه ورجالاته.

من هنا يكون نقدنا لرموز ومشايخ وحركات وخطابات التيارات والحركات الدينية الإسلامية، حالة بناء وتطوير، وتشخيص لأمراضها وعللها وما أكثرها في حالتنا العربية وفي اجتماعنا الديني الإسلامي.

وكثير من هؤلاء الرموز والعلماء قد يتحولون إلى عقل مغلق سلفي لا يقبل الحوار ويرفض النقد وقد يعتبر كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق.. ولهذا العقل السلفي الديني المغلق شقيق وحيد هو العقل السياسي المغلق حتى لو كان علمانيا كاملاً.

إنني أعتقد أن التقوقع حول الذات الجماعية، والقطيعة مع الآخر، ورفض تقبل الحوار (وليس النقد!)، وادعاء القيمومة الفكرية والسياسية، واسترهان الكل من أجل الجزء، هي أبرز صفات رجالات ديننا السلفيين، والتي يشتركون فيها مع أصحاب العقول السياسية المغلقة اعتقاداً وقولاً وعملاً.

لقد كانت الدولة العربية تاريخياً دولة استبداد وقهر وغلبة، هذا هو الثابت في مسيرة الحكم السياسي العربي والإسلامي غالباً، بينما الطارئ والاستثنائي فيها هو أن تكون دولة عدالة وإنسانية.. وحتى لحظتنا الراهنة - التي نمر فيها حالياً بتحولات وتغيرات على شكل اضطرابات وقلاقل ومشاكل وأزمات خاصة في بلدان ما يسمى بالربيع العربي التي أضحت بلدان الشتاء القارس خصوصاً في مصر وسوريا وليبيا - لا تزال الدولة القائمة المهيمنة والمستولية على كل شيء في مجتمعاتنا هي دولة الإكراه والاستبداد التي هي دولة بوليسية ظالمة، لم تهتم أبداً بمشروع التنمية الفردي والمجتمعي، ولا بمشروع بناء دولة القانون والمؤسسات، بما يعني أن ثقافة بناء الدولة كانت غائبة كلياً عند نخبها وحتى عند الفرد-المواطن الذي تربى في كنفها.. وإن كنا نحمل المسؤول المتصدي لمهمة الحكم والقيادة الوزر والمسؤولية الأكبر في هذا السياق.

إنني أعتقد أن الحرية هي هيكل وأساس بناء أية دولة أو مجتمع، لأنها هي جوهر الوجود وجوهر كينونة الإنسان في هذا الوجود.. ومن دونها لن تقوم الدولة العادلة المنشودة، ولن تحدث أية تنمية حقيقية طالما أنها مستبعدة كفكرة وقيمة وسلوك من قاموس الدولة العربية الحديثة بشخوصها ورموزها ومختلف حركاتها وتياراتها.

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة