تداعيات الحدث المصري على الواقع التونسي

السنة الثانية عشر ـ العدد140 ـ ( رمضان ـ شوال 1434  هـ ) آب ـ 2013 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

        شكلت الثورتان الديمقراطيتان في كل من تونس ومصر إخفاقاً حقيقيا لكل من الأنظمة التسلطية العربية والحركات الإسلاموية في آن معاً، وأثبتتا أن العالم العربي قادر على إتباع طريق ثالثة، للخلاص من الفخّ الذي وجدت فيه الشعوب العربية، منذ عقود تقوم على أساس بناء الدولة المدنية الحديثة، أي دولة القانون.

        وساد اعتقاد راسخ لدى النخب العربية على اختلاف انتماءاتها السياسية والفكرية أن الخيار الوحيد المتاح أمام الشعوب العربية، هو إما قبول العيش في ظل الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة والفاقدة للشرعية، وإما القبول بمجيء أحزاب إسلامية هي وحدها القادرة، نظراً لثقلها الشعبي، وفقاً للاعتقاد السائد عربياً وغربياً، على إسقاط هذه الديكتاتوريات.

        في تونس كما في مصر، كان واضحاً منذ بداية الثورة على نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي،و نظام حسني مبارك،  أن هناك قوى ثلاثاً نجح تناغمها في إنهاء عهديهما : الحركة الشبابية، ومنظمات المجتمع المدني  والأحزاب اليسارية و القومية، و الاتحاد العام التونسي للشغل، والجيش. وكان دور الجيش إيجابياً، في انحيازه للشعب سواء في تونس كما في مصر، على الرغم من دعوات بن علي وحسني مبارك إلى التدخل من أجل قمع الثورتين، أما دور الإخوان المسلمين فكان ثانوياً. والحال هذه، كانت الشرعية الثورية في كل من تونس ومصر من نصيب الحركة الشبابية التي لم تكن مؤطرة لا أيديولوجياً ولا سياسياً ولا تنظيمياً، لكن المشكلة كانت عدم التناسب بين قوة الحركة الشبابية الثورية وقوتها الانتخابية، لاسيما في ظل ضعف وتشتت أحزاب المعارضة الليبرالية واليسارية. ولكل هذا، فإن آخر من يحق له الحديث عن الشرعية والديمقراطية والانتخابات والصناديق هم حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة النهضة في تونس.

        لم تكن الثورتان التونسية والمصرية إسلاميتين، لأن  شباب الثورة  لم يستعينوا بالإسلام كما فعل أسلافهم في الجزائر في أواخر الثمانينات، ويعبّرون قبل كل شيء عن رفض الديكتاتورية البوليسية و العسكرية  الفاسدة ويرفعون مطلب الحرية والديمقراطية. لا يعني هذا بالتأكيد أن كل الذين قاموا بالثورة هم علمانيون، بل يعني ببساطة أنهم لا يرون في الإسلام أيديولوجيا سياسية قادرة على خلق نظام أفضل: إنهم في مساحة سياسية علمانية. وما ينطبق على الأيديولوجيا الإسلامية، ينطبق أيضاً على الأيديولوجيات الأخرى، فالثورتان التونسية والمصرية لم تكونا بطابع يساري، ولا أيضاً بطابع قومي، على الرغم من أن شباب الثورة في تونس ومصر هم قوميون (يظهر ذلك من خلال الأعلام الوطنية التي يلوّحون بها) لكنهم لا ينادون بالقومية العربية التي اختفت من الشعارات.

        ويجمع المحللون العرب أن حركات الإخوان المسلمين لم تقم بالثورة في تونس، وفي  مصر، ولم يكن هذا الأمر مدرجاً على جدول أعمالها طيلة تاريخها في المعارضة، بل هي ركبت موجة الثورة بعد ذلك، وأصبحت جزءاً منها، ونجحت في قطف ثمار الثورة بفوزها في الانتخابات، لأنها كانت القوة السياسية الأكثر تنظيماً،والأكثر قدرة،والأكثر تمويلاً، والأكثر تمكناً من الاستمرار.

السقوط المدوي للإخوان المسلمين في مصر

        لكن حركة الإخوان المسلمين التي وصلت إلى السلطة، من خلال فوزها في الانتخابات التشريعية، وفوز مرشحها الرئيس المخلوع محمد مرسي بمنصب رئيس الجمهورية في حزيران، جوان 2012، وهو أول رئيس مدني ينتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر، أثبتت أنها حركة غير مُهَّيَأة للحكم. ومنذ توليه الحكم، أصدر الرئيس  محمد مرسي إعلاناً دستورياً زاخراً بالمواد  التي عصفت بالسلطة القضائية، وقيدت ومنعت المحاكم من التصدي لمصلحة تشكيل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور، وهو ما بدا للجميع أن حركة الإخوان المسلمين تتجه جدياً نحو الاغتصاب للشرعية السياسية في مصر، والانفراد بالحكم، في ظل عجز الجيش المصري عن وراثة حكم مبارك، وعجز الأحزاب الليبرالية واليسارية المصرية عن توظيف شرعية حركة الشباب الثورية.

        وقد دفعت ميول الرئيس مرسي التسلطية، لاسيما حين رفع قيد السلطة القضائية عن قراراته في شهر نوفمبر 2012، وأمسك بمقاليد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية قبل أن يضطر إلى التراجع في شهر ديسمبر من العام عينه، واعتباره إيجاد التسوية السياسية مع المعارضة تفريطاً بالمصلحة القومية – الوطنية، وانكشاف  عدم كفايته وعدم تحمله للمسؤولية، دفعت ميوله التسلطية هذه مصر إلى أزمة زادها تفاقماً التفكك الذي تعانيه مؤسسات الدولة المصرية. فانقسم المجتمع المصري انقساماً سياسياً خطيراً بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، بين المعسكر الليبرالي اليساري الثوري، والجبهة التي تضم حزب الإخوان المسلمين والتيارات السلفية الجهادية التكفيرية. وهنا برز الانقسام واضحاً بين الذين يريدون إقامة دولة إسلامية ولو من طريق التدرج، وبين الذين يريدون إقامة دولة مدنية ديمقراطية تعددية على الطراز الغربي، والانقسام بين المعسكرين كبير وعميق.

        على الرغم من أن محمد مرسي انتخب ديمقراطياً، لكنه يبدو من خلال تجربة الحكم في مصر طيلة سنة، أنه كان واجهة حقيقية للحكم، لأن الذي يدير دفة الحكم من وراء الستار هو المرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع، وهنا اتضح للجميع في مصر، أن الإخوان المسلمين لا يرغبون في إقامة نظام ديمقراطي تعددي ينقل مصر من التسلط والديكتاتورية إلى بناء الدولة المدنية. وكان واضحاً في ذهن الإخوان الإسلاميين، أنهم يستغلون لحظة تاريخية لن تتكرر، ألا وهي فوزهم في الانتخابات،  ليس لإرساء نظام ديمقراطي جديد في مصر باعتباره مطلباً ثورياً، وإنما لبناء دولة إسلامية بالتدرج، بعد أن يتمكن حزب العدالة والنور من السيطرة على مفاصل الدولة المصرية، وضرب القضاء، والإعلام، والصحافة، والأحزاب اليسارية والقومية، ليعود بعدها إلى تصفية الحساب مع الجيش. بيد أن قبول الإخوان المسلمين لنتائج الانتخابات، قد لا يتعدى فهمهم الشكلي للديمقراطية بوصفها صناديق الاقتراع، ولم يعوا جيّداً أن النظام الديمقراطي الجديد الذي تسعى الثورة المصرية إلى إرسائه هو كل متكامل، وصناديق الاقتراع واحدة من هذا الكل، لكن النظام الديمقراطي الذي يصبو إليه الشعب المصري  هو صيغة الحياة السياسية القائمة على الثقافة الديمقراطية، التي تزود العدد الأكبر من المواطنين بأكبر قسط من الحرّية، وهو الصيغة التي تحمي أوسع تنوع ممكن وتعترف به.

        في ظل الحصيلة الكارثية لسنته الأولى في الرئاسة، اتسم حكم مرسي بالإخفاق، لافتقاره الثقافة السياسية الديمقراطية، وهو ما يشرع الأبواب أمام الاستبداد الانتخابي، وتأسيسه لنظام حكم يهيمن عليه حزب الإخوان المسلمين المتحالف مع الحزب السلفي الآخر، في حين أن المجتمع المصري المنقسم طبقياً، والذي يعاني من أزمة في الهوية، فإن تطبيق نظام حزب الإخوان المسلمين الأكثري، يؤدي إلى ديكتاتورية الغالبية ونزاعات أهلية. ويتهم أنصار اليمين الديني مرسي باستغلال الدين من أجل الهيمنة على السلطة، بينما يتهم العلمانيون الإخوان المسلمين بالهيمنة على مؤسسات الدولة، وعدم الكفاية. بينما المطلوب في مصر هو الاحتكام إلى حكم انتخابي يراعي توازنات الكتل والأعداد في تشكيل حكومة ائتلافية ويضمن التمثيل النسبي في نظام توافقي غير مركزي يستند إلى مجلسين. وهذا النموذج التوافقي يُبرز المشروعية الديمقراطية من غير التفريط بها.

دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في الإطاحة بمرسي

        على الصعيد الاقتصادي، اتسم حكم مرسي بالفشل الذريع أيضاً، فقد نجح مرسي في إغضاب الطبقات الاجتماعية كلها في مصر. ففي نظر من يهمه المال سواء أكان غنياً أم فقيراً، فشلت حكومة مرسي فشلاً ذريعاً في وقف التدهور الاقتصادي في شتى المجالات. لذلك شعر المصريون أن انتظار ثلاث سنوات أخرى لإزاحة مرسي يمكن أن يدفع مصر إلى الهاوية. إذ تفتقر مصر إلى العملة الأجنبية من أجل الوقود، وهناك نقص في الكهرباء والغاز. وكان واضحاً أن مرسي لم يكن يركز جهده على تقديم الأفضل لبناء شعبه بل كان يعمل لتدعيم مواقع الإخوان المسلمين في السلطة.

        وفي تحليل المسببات لثورة الجياع في مصر، يمكن التوقف عند جملة عوامل، يبقى أبرزها ما انعكس مباشرة على معيشة المصريين. منها تلاعب مرسي بالوضع القانوني(نقل قضاة ومدعين عامين من مناصبهم) ما أثار نزاعاً بينه وبين الجسم القضائي، وأشاع تالياً مناخاً من عدم الاستقرار في تطبيق القوانين . وهذا ما انعكس على المناخ الاستثماري وأدّى إلى اعتكاف المستثمرين عن التوظيف في قطاعات الاقتصاد المصري الواعدة فيما هرب أكثر الرساميل الذي كان يعمل منذ فترة طويلة في البلاد. وكانت لاصطدام الرئيس مرسي مع رجال الأعمال نكهة مرة في بورة القاهرة، إذ تلمس هؤلاء الذين اعتبر أنهم أفادوا كثيراً في عهد مبارك، محاولات لإزاحتهم في مقابل إحلال جماعة الإخوان المسلمين مكانهم في مراكز القرار.

        وفي الوضع الاجتماعي، انعكست الثورة الأولى على الرئيس السابق حسني مبارك انكماشا حادا في الاقتصاد المصري، وجعل نحو 25% من المصريين (أي 23 مليون نسمة من أصل 91 مليوناً) يعيشون تحت خط الفقر (36 دولاراً شهرياً). ومع احتساب خط الفقر المعتدل (65 دولاراً شهريا) يكون نحو 40 مليون مصري دون خط الفقر، وتضاف إليهم نسبة بطالة ارتفعت من 9 إلى 14، "ما يعني أن هناك ما بين 52 و53 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر"، على حد قول شويري. وقد زاد الطين بلة، أن الدعم المخصص في الموازنة للطبقات الكادحة والمعدمة (نحو 25 مليار دولار) لم يوزع على نحو عادل على هؤلاء، بل ذهب أكثره إلى المحاسيب. ومع اتساع رقعة الفقر وحال الانكماش الاقتصادي، استسهل نظام مرسي طبع العملة الوطنية ما أفضى إلى خفض قيمة الجنيه المصري على نحو دراماتيكي. علماً أن النظام استهدف أيضاً تغطية العجز في الميزان التجاري، إذ تستورد مصر ما قيمته 65 مليار دولار سنويا من حاجاتها الضرورية، ولا تصدّر إلا ما قيمته نحو 25 مليار دولار. وقد انعكس ذلك على أسعار السلع الأساسية في الداخل.كذلك، استسهل نظام مرسي الاستدانة بالعملة الأجنبية لتغطية الواردات، فارتفع الدين العام بالعملات الأجنبية 12 مليار دولار من 34 إلى 46 مليار دولار في سنة. "وهذا يعني أنه تلاعب بالأسس المالية التي ترسي الاستقرار، ووجهها نحو التضخم والبطالة". ولم تقف سياسات مرسي عند تلك الحدود، بل استهدف المرأة العاملة في مصر والتي يعتمد المجتمع عليها في إعالة العائلات. وأفضى الضغط النفسي الذي استهدفها به إلى رفع نسبة البطالة عند النساء من 20 إلى 30% (بنسبة 50%). كل تلك السياسات جعلته يتخاذل عن توفير ابسط الخدمات للمصريين، وفي مقدمها الكهرباء على الرغم من أن مصر هي بلد منتج للغاز وتالياً للكهرباء. ويعتقد شويري أن تراجع الإيرادات الضريبية انعكس مباشرة على الخدمات العامة للشعب المصري، "إذ لو استطاع رفع تلك الإيرادات من 10% من الناتج إلى نحو 15%، لكان نجح في تحسين حجم الدعم مع عدالة في توزيع ذلك الدعم، الأمر الذي كان خفف التذمر الشعبي الكبير".

        في سنة واحدة، تحوّلت مصر إلى بلد متخلف عن إيفاء التزاماته. "فالدين الأجنبي يبلغ نحو 44 مليار دولار، وهو غير مغطى إلا باحتياط لدى المصرف المركزي المصري لا يتجاوز الـ10 مليارات دولار، بعدما كان نحو 36 مليارا قبل الثورة"، كما يضيف شويري. وهذا يعني أن النسبة المضاعفة أربع مرات بين الدين والاحتياط شكّلت مؤشرا فاقعا لدى المجتمع الدولي ودفعته إلى عزل مصر استثمارياً وسياحياً ومالياً قبل أن يبادر إلى ذلك سياسياً) من تقرير فيوليت البلعة المنشور في صحيفة النهار اللبنانية بتاريخ 4جويلية 2013).

        هذه العوامل مجتمعة، إضافة إلى الأداء السياسي للإخوان المسلمين  الذي لم يكن مقنعاً للشعب المصري، لاسيما في مجال الانفراد بالحكم وتجاهل المعارضة من قبل  الرئيس محمد مرسي، وارتماء هذا الأخير في أحضان السياسة الأمريكية في ضوء علاقة التحالف القائمة بين أمريكا وحركات الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة في بلدان الربيع العربي، حيث تحول مرسي إلى القيام بدور التهدئة في قطاع غزة، واستيعاب حماس، وقطع العلاقات مع دمشق، وإعلانه الجهاد على الدولة السورية، بينما الجهاد الحقيقي هو من أجل تحرير فلسطين، ومقاتلة العدو الصهيوني.

جدل عربي وغربي حول سيطرة الجيش على الحكم

        ما حصل في مصر يوم 30 حزيران الماضي هو انفجار شعبي كبير، عبر عن حالة ثورية تعكس تجدد روح الثورة المصرية، حيث نزل أكثر من 17 مليون إلى الشوارع في المدن المصرية يطالبون بإسقاط النظام الإخواني، ويجب النظر إلى إطاحة الجيش بالرئيس محمد مرسي يوم 3 تموز الجاري، على أنها خطوة جديدة ضمن صيرورة الثورة المصرية، وليس انقلاباً بالمعنى التقليدي للكلمة، لأن المؤسسة العسكرية المصرية ذات طابع وطني وقومي، ومنحازة دائماً إلى تطلعات الشعب المصري في الحرية، والكرامة الوطنية، وهذا ما قام به الجيش المصري في ثورة 25 يناير 2011.

        الجيش في مصر هو وليد القومية المصرية الحديثة وضامنها، وهذه الدولة ليست علمانية ولا دينية ثيوقراطية. ويمكن هذه الدولة أن تكون إسلامية شرط أن تظل دولة قومية. وهنا أخطأ "الإخوان" عندما سعوا إلى صبغ الدولة بالطابع الإسلامي ونزع الصفة القومية الملازمة لها عنها. الجيش المصري لم يتدخل لتقوية العلماني على الإسلامي بل تدخل فقط عندما تجاوز الشارع العلمانيين والليبراليين إلى قطاعات اجتماعية أوسع شعرت أن لا سبيل آخر أمامها سوى التمرد على التفرد. وربما غاب عن "الإخوان" أن للجيش المصري صلة فريدة بشعبه، والمصري العادي يثق فيه ويعتبره العمود الفقري للدولة من دونه تفتقد حياته سندها، وهذه العلاقة الاستثنائية تعود إلى تأسيس الدولة الحديثة في عهد محمد علي إذ نهضت على ركيزتين، أولاهما الجيش الحديث الذي دمج تدريجاً أولاد الفلاحين فيه إلى أن تمّ تمصيره كاملاً، وهو قاعدة الدولة وسند الشرعية فيها. وثانيتهما البعثات التعليمية التي أرسلت إلى فرنسا، وقد أسست لدولة جديدة تتصل بعصرها وتنفتح أمامها العلوم والثقافات ومناهج التعليم الحديثة. ومشكلة جماعة "الإخوان" أنها اصطدمت بالركيزتين معاً، الدولة بمعناها الحديث والجيش قاعدتها الصلبة (أمين قمورية، مصر ليست الجزائر، صحيفة النهار الثلاثاء 1 رمضان 1434هـ - 9 يوليو 2013م).

هل تنقل العدوى المصرية إلى تونس

        ما حدث في مصر خلال الأيام الأخيرة كان له تأثيره المباشر على الواقع في تونس، حيث وصف رئيس حركة النهضة الإسلامية التي تقود الائتلاف الحاكم  في تونس، الشيخ راشد الغنوشي بأنه "انقلاب سافر". وقال الغنوشي في بيان، إن إقالة مرسي "انقلاب سافر واضح على الشرعية المتمثلة في أول رئيس منتخب في تاريخ مصر". وشدّد على أن "الشرعية في مصر واحدة و يمثلها الرئيس محمد مرسي".

        لم تكن تجربة حكم النهضة في تونس، مختلفة كثيراً عن التجربة المصرية، على الرغم من أن النهضة اختارت منذ البداية تشكيل ائتلاف حاكم متكون منها، من شريكين صغيرين في الحكم من الأحزاب العلمانية الوسطية: حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يرأسه الرئيس محمد المنصف المرزوقي، وحزب التكتل من أجل العمل والحريات، الذي يرأسه الدكتور مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس الوطني التأسيسي.

        كما أن التجربة المصرية تختلف عن التونسية فيما يتعلق بصياغة الدستور، فبينما تمت صياغة الدستور المصري من قبل الجمعية التأسيسية التي يهيمن عليها الإخوان المسلمين والسلفيين، وتم إقراره في استفتاء شعبي في غياب التوافق السياسي عليه من قبل المعارضة الليبرالية واليسارية والقومية، وهو الدستور الذي حول الرئيس المصري إلى ديكتاتور مطلق الصلاحيات.

        تمثلت التجربة التونسية في انتخاب جمعية تأسيسية منتخبة من قبل الشعب في 23 أكتوبر 2011، وهي التي كلفت بصياغة الدستور الجديد في عهد الثورة، وعلى الرغم من مرور أكثر من سنة ونصف، لا تزال مسودة الدستور الجديد موضوع تجاذبات كبيرة بين حركة النهضة وأطراف المعارضة الليبرالية واليسارية، ومنظمات المجتمع المدني، والاتحاد العام التونسي للشغل، باعتبارها القوى التي أجبرت حركة النهضة على التراجع لجهة إقرار الشريعة في مسودة الدستور، وعلى التوصل إلى صيغة توافقية للدستور.

        لكن ما هو مشترك بين التجربتين المصرية والتونسية، هو أن الإسلام السياسي، عجز عن قيادة مرحلة الانتقال الديمقراطي، من أجل تحقيق أهداف الثورة الديمقراطية، والمتمثلة في ما يلي: صوغ دستور توافقي، وإقامة أنظمة ديمقراطية تتسع لجميع أبنائها. وتشكل التوجهات غير الصادقة من جانب الإخوان المسلمين في مصر وتونس، غير المؤمنة بالثقافة الديمقراطية في أبعادها المختلفة، التي تؤكد على الإيمان بالتعددية، والتداول السلمي للسلطة، واحترام الرأي والرأي الآخر المعارض، وتبني وجهات نظر الآخرين، والاستعداد لتقبل الحلول الوسط والتوفيقية، القاسم المشترك للإسلام السياسي،  الذي أوجد جوّاً من عدم الثقة والشك المتبادل، بينه وبين أحزاب المعارضة الليبرالية واليسارية والقومية، الأمر الذي جعل نتائج عملية التحول الديمقراطي في البلدين كليهما، محل صراع وعدم قبول من جانب المعارضة ومكونات المجتمع المدني.

        واعتبر الأمين العام لحركة نداء تونس السيد الطيب البكوش أن السيناريو المصري غير وارد بالنسبة لتونس لأن المؤسسة العسكرية التونسية غير معنية بالسياسة وحافظت دائماً على استقلاليتها مع كل الأطراف السياسية وبالتالي فتدخلها في الحياة السياسية أو التأثير على المسار الانتقالي أمر مستبعد جداً إن لم يكن مستحيلاً . ومع اقتناعه باستحالة تكرار السيناريو المصري أكد البكوش أن مشكلة تونس اليوم هي المجلس التأسيسي الذي أصبح مصدراً لكل المشاكل بسبب فشله في كتابة دستور وفاقي وتجاوزه للأجل القانوني الذي انتخب من أجله منذ حوالي سنة. ولذلك قال الطيب البكوش أن حركة نداء تونس اقترحت على الأطراف السياسية توافقاً جديداً يتمثل في هيكل يتكون من شخصيات وطنية مستقلة يمكن أن يسمى مجلس وطني يكون سيد نفسه يحكم على أساس توافق بين القوى المدنية والسياسية ولا يكون بديلاً عن الحكومة الحالية التي اعتبرها حكومة فاشلة وغير قادرة على تنظيم الانتخابات لأكثر من سبب واعتبر أن الانتخابات ستكون مزيفة لو نظمتها الحكومة وقال إن مهمة هذا المجلس هي إنهاء الدستور في صيغة ترضي الجميع واختيار هيئة مستقلة للانتخابات وتحديد موعد نهائي للاستحقاق الانتخابي لا يتجاوز العام القادم.

        لا شك أن للحدث المصري المزلزل تداعيات كبيرة على الواقع التونسي، إذ انطلقت في الفترة الأخيرة النسخة التونسية من حركة "تمرد" التي تجمع التوقيعات للمطالبة بإسقاط النظام، وقد جمعت لحد الآن (مليون توقيع). وتتشكل حركة "تمرد" التونسية من قوى شبابية وشخصيات سياسية تطالب بحل المجلس الوطني التأسيسي وكل السلطات المنبثقة عنه (الحكومة ورئاسة الجمهورية)، وهو ما جعل مراقبين يتوقعون تحركات وتظاهرات مناهضة للحكم، على غرار ما حصل في مصر.

        وكخطوة استباقية، حتى لا تتطور الأمور في تونس كما حصل في مصر، تقدمت رئاسة الجمهورية التونسية إلى النيابة العمومية طالبة فتح تحقيق ضدّ كل من ستكشف عنه الأبحاث الجارية "من أجل العمل والدعوة الصريحة والعلنية إلى تبديل هيئة الدولة ونظام الحكم فيها، عبر تحريض العسكر بالبلاد التونسية على تنفيذ انقلاب - بصفة مباشرة أو غير مباشرة - على السلطات الشرعية"، بحسب ما جاء في بيان الرئاسة.

        وكان زعماء وقيادات سياسية وإعلامية معارضة دعت إلى حل المجلس التأسيسي والمؤسسات المنبثقة عنه،وإسقاط نظام الحكم القائم بحسب السيناريو المصري الذي تعتبره الحكومة التونسية انقلاباً عسكرياً أطاح شرعية الانتخابات التي أوصلت الإسلامي محمد مرسي إلى سدة الرئاسة. وأثار طلب فتح التحقيق استياء أحزاب وجمعيات مدنية اعتبرت هذا الإجراء منافياً لحرية التعبير وحق التظاهر. وأكدت مصادر في رئاسة الجمهورية أن المعارض اليساري الطاهر بن حسين (قيادي في حركة "نداء تونس") سيمثل أمام السلطات القضائية للتحقيق معه حول دعوته الجيش التونسي إلى الانقلاب على الحكم أسوة بالسيناريو المصري.

        ولم تكن نسخة "الإخوان المسلمين" في تونس الممثلة بحركة  النهضة أفضل من التجربة المصرية، بدليل استمرار أجواء الصراع حول مشروع الدستور الجديد  بين الإسلاميين و أطياف المعارضة الليبرالية واليسارية والقومية، وعدم التصالح مع الفئات الأخرى من المجتمع، وتالياً وعدم الاستعداد لتقبل رأي المعارضة بشأن  إنجاز دستور ديمقراطي توافقي، وتحديد موعد واضح ودقيق لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، والتخلي عن قانون تحصين الثورة، بحجة التصدي للثورة المضادة، تماماً كما يروج "الإخوان" مقولة "الفلول" في مصر للإشارة إلى النظام السابق، وتماماً كما يفعل أردوغان الآن عندما يتهم المحتجين على سياساته بالحنين إلى عهد الانقلابات العسكرية.

        إن الثورة التونسية لم تكن ثورة ضد حكم فرد محدد بعينه، لكنها كانت ضد نظام كامل يعكس نمطاً لبنية الدولة البوليسية، المندمجة في نظام مُعَوْلَم ٍيعمل على بناء تحالف لقوى رأس المال المُعَوْلَمِ. والحال هذه، فإن ما هو مطروح في تونس هو تحقيق أهداف الثورة، وما تعنيه من قطيعة تامة مع النظام السابق بكل عناصره، بحيث لا تختزل في تغييب أشخاص أو رموز سياسية احتلت مواقعها لسنوات طويلة، بل تمتد لتصبح ثورة سياسية واجتماعية شاملة  تطول مجمل القيم الحاكمة لعلاقات الأفراد، ومن ثم القوى السياسية، وسلامة إجراءات الانتقال لبناء مؤسسات النظام الجديد.

        غير أن حركة النهضة اعتبرت أكثريتها في المجلس الوطني التأسيسي، وكأنه تفويض من الشعب صاحب السيادة، كي تفعل ما تشاء، بينما وفقاً لمفهوم الانتخابات الديمقراطية المعاصرة، يلقي عليها هذا الوضع عبء ومسؤولية خلق البيئة التوافقية التي تفضي في النهاية إلى صياغة الدستور الديمقراطي، وقيام دولة المواطنة الديمقراطية  التي يحكمها قانون واحد، يصبح الجميع أمامه سواسية، ويراعي فيه  حقوق كافة الأطياف والقوى القائمة في المجتمع، ويتحول الفرد بموجبه من رعية إلى مواطن له حقوق ويتحمل بالتزامات.

        الإخوان المسلمون في كل من مصر وتونس مطالبون بمراجعة مسؤوليتهم عما جرى، واستنباط العبر المناسبة منه، بأمل أن يأتي ذلك على شكل انحياز للتجربة الديمقراطية الناشئة في البلدين اللذين فجراً ربيع الثورات العربية، بدلاً من سلوك طريق التجربة الجزائرية،أي طريق العنف المسلح  التي أضرّت بتيارات الإسلام السياسي كما أضرّت بالجزائر وشعبها.عموماً، إن حركات الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة، مطالبة بأن تتحرّر من فوبيا التيارات الليبرالية و اليسارية العلمانية، وبالتالي من توهّماتها حول ذاتها، وضمنها اعتبار ذاتها وكيلاً احتكارياً حصرياً للإسلام.

        إن تحرّر الإخوان المسلمين في كل من مصر وتونس، وكذلك المعارضات الليبرالية و اليسارية من  حالة العداء والنفي وعدم القبول المتبادل، هو شرط تحرّر الجميع وشرط الدخول في السياسة، واعتناق الثقافة الديمقراطية، وتالياً لبناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية.

اعلى الصفحة