المشروع التركي إلى أين بعد سقوط حكم مرسي؟

السنة الثانية عشر ـ العدد140 ـ ( رمضان ـ شوال 1434  هـ ) آب ـ 2013 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تبدو تركيا الدولة الأكثر تضرراً من سقوط  حكم الإخوان المسلمين في مصر جراء الموجة الثورية الثانية التي قادها هذه المرة الجيش المصري ضد الرئيس المعزول محمد مرسي على وقع خروج الملايين إلى ميدان التحرير رفضاً لسياسته.

ولعل من تابع  تصريحات القادة الأتراك ولاسيما  رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان و وزير خارجيته أحمد داود أوغلو لا بد أن يكتشف حجم المصاب التركي إلى درجة انه سيعتقد أن الحدث وقع في قلب أنقرة وليس في القاهرة، فمنذ اللحظة الأولى لإعلان إنهاء حكم مرسي  بادر أردوغان إلى رفض ما جرى، داعيا الدول الغربية إلى التدخل لإعادة مرسي إلى سدة الرئاسة عبر وضع كل ما جرى في إطار الانقلاب العسكري، لكن الثابت أن الموقف التركي هذا لم يكن نابعا من التمسك بالشرعية والديمقراطية بقدر ما كان نابعا من الإحساس بخسارة حليف إستراتيجي راهنت عليه أنقرة في إقامة شرق أوسط جديد بقيادة تركيا عبر إيصال القوى الإسلامية وتحديداً حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة في ظل ما تشهده المنطقة العربية من ثورات وانتفاضات واحتجاجات وحركات عسكرية سميت بالربيع العربي.

خسارة إستراتيجية

لقد كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سباقاً في الطلب من الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك بالرحيل عندما اندلعت شرارة ثورة الخامس والعشرين من يناير، وهو حين كان يطلب ذلك كان يدرك أن القادم إلى السلطة سيكون حليفه الإيديولوجي أي الإخوان المسلمين، وفعلاً منذ وصول محمد مرسي إلى السلطة بعد انتخابات شابها الكثير من الجدل عملت تركيا بكل قوة على دعم الحكم الجديد سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، وهي عندما كانت تفعل ذلك كانت تأمل في تكون مصر في عهد مرسي جسرا للمشروع التركي تجاه المنطقتين العربية والأفريقية نظراً لمكانة مصر ودورها التاريخي وثقلها في العالمين العربي وأفريقيا، وعليه بادر أردوغان إلى تقديم نموذج حكم حزب العدالة والتنمية لمصر للاقتداء به، وقام هو كما وزير خارجيته أحمد داود أوغلو بسلسلة زيارات إلى القاهرة وفتح خزائن تركيا لدعم حكومة مرسي بالمال والقروض والمشاريع والاستثمارات والاستشارات، ولم يكتف أردوغان بذلك بل اتجه إلى التنسيق مع القيادة المصرية الجديدة في انتهاج سياسة مشتركة إزاء قضايا الشرق الأوسط ولاسيما الأزمة السورية حيث اتفق الجانبان على إسقاط النظام السوري عبر دعم المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وهكذا تجاوزت العلاقة بين الجانبين مستوى التعاطف والارتباط الإيديولوجي إلى مستوى التنسيق والتحرك معاً، أملاً في رسم خريطة سياسية جديدة في الشرق الأوسط يكون لأنقرة فيها الدور المركزي. وانطلاقاً من هذه العلاقة الوثيقة بات أردوغان عاملاً ومحدداً خارجياً في رسم سياسة مرسي الداخلية، إذ تقول صحيفة (ميلليت) التركية إن مرسي وبتحريض من أردوغان رفض أي شكل من أشكال تقاسم السلطة مع المعارضة قبل أن يعزله الجيش على الرغم من أن دولتين عربيتين (الأردن وقطر) وبالتنسيق مع الولايات المتحدة تدخلتا لدى مرسي لتشكيل حكومة توافق وطني في مصر قبل فترة قصيرة من ثورة الثلاثين من يونيو حسب الصحيفة التي أكدت أن مرسي رفض الوساطة بعد تدخل أردوغان في الأمر بشكل مباشر.

في الواقع، ثمة من يرى أنه مثلما أردوغان لم يكن يتوقع أن تندلع انتفاضة تقسيم في اسطنبول ضد حكومته والمطالبة بإسقاطها فإنه لم يكن يتوقع هذه النهاية المأساوية لحكم مرسي الذي كان يراهن عليه أردوغان في تحقيق المشروع التركي الإقليمي في الشرق الأوسط، وعليه فإن إحساس أردوغان بالخسارة كان كبيراً إلى درجة أنه بات في مأزق كبير، ولعل السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا، هو ماذا سيفعل أردوغان بعد اليوم؟ هل سيواصل التمسك بالدعوة إلى عودة الرئيس مرسي باسم الشرعية ويدخل في عداء مع القوى الجديدة التي وصلت إلى سدة السلطة في مصر؟ أم أنه في الأصل يمارس هذه السياسة لإرضاء الشارع الداخلي وبقايا الحلفاء الإيديولوجيين إلى حين فتح الجسور مع الحكام الجدد في القاهرة؟.

من الواضح، أنه إلى أن ينجلي المشهد المصري فإن حكومة حزب العدالة والتنمية (الذي هو الفرع التركي لجماعة الإخوان المسلمين) ستحاول بكل ما لديها من قوة السعي إلى إعادة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر سواء بقيادة مرسي  أو غيره من القيادات، وقد كان لافتا الاجتماع الدولي لكافة فروع الإخوان المسلمين الذي عقد في  العاصمة التركية أنقرة بعد نحو أسبوع من (ثورة الثلاثين من يونيو) حيث جاء هذا الاجتماع لبحث مسألتين، الأولى: كيفية مواجهة التداعيات الناجمة عن انتهاء حكم الإخوان المسلمين في مصر. والثانية: وضع إستراتيجية مشتركة والقيام بحملة على المستوى الدولي لإعادة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر ودعم التظاهرات الشعبية ضد النظام الجديد في مصر. ولعل المدلول الأساسي لهذا الاجتماع كان الإحساس بان المشروع (الإسلامي) الذي تقوده تركيا وتعمل من أجله في المنطقة العربية بات أمام مجموعة الاستحقاقات المصيرية، استحقاقات تتعلق بمفهوم الدولة والديمقراطية والحكم والعلاقة مع المكونات الاجتماعية والحضارية في الداخل، فضلاً عن الدور المرتجى من هذا المشروع على مستوى العلاقات الإقليمية وعلاقته بالخارج.

خسائر متعددة الجوانب

تبدو خسائر تركيا من ما جرى في مصر متعددة الجوانب، فالثابت أن هذه الخسائر ليست آنية أو أيديولوجية فحسب وإنما  تتضافر مع بعضها البعض على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية على شكل ضربة إستراتيجية للنموذج التركي ومحاولات تصديره إلى المنطقة عبر الاقتصاد والثقافة والممارسة السياسية وفي النهاية المشروع الإستراتيجي.

وإذا كان الإحساس بالخسارة السياسية كبيرة ومباشرة فإنه على المستويات  الاقتصادية والاجتماعية لا تقل خسارة عن الجوانب السياسية والإيديولوجية، ومع أن التقدير الواقعي للعلاقات الاقتصادية بين الدول يشير إلى أن القدرات الاقتصادية لتركيا غير قادرة على التأثير في مصر كثيراً وذلك لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بالميزان التجاري بين البلدين البالغ حجمه 4.2 مليارات دولار، ونوعية الصادرات بين البلدين والقدرات التنافسية المتدنية نسبياً للسلع التركية عموماً، مقارنة بالجودة لجهة السلع الغربية أو السعر لجهة المنتجات الصينية والآسيوية، بمعنى أن مصر تمتلك مقومات  الاستعاضة عن السلع التركية سواء بالسلع الغربية أو الآسيوية، إلا أن الأمر بالنسبة للجانب التركي يشكل صدمة كبيرة وذلك للأسباب التالية:

1- إن تركيا التي خسرت كثيراً في ليبيا اقتصادياً ولاسيما لجهة استثماراتها التي قدرت بـ 16 مليار دولار وجدت في مصر في عهد مرسي فرصة للتعويض عن هذه الخسائر، وعليه وجهت الاستثمارات والشركات التركية باتجاه مصر نظراً للعلاقة السياسية المتينة التي نشأت بين الجانبين بعد عهد مبارك، وبفضل التشجيع المباشر من أردوغان ومرسي وصل حجم الاستثمارات التركية في مصر إلى قرابة ثلاثة مليار دولار خلال أقل من عام، معظمها لرجال أعمال قريبين من حزب العدالة والتنمية التركي. واليوم مع العهد الجديد لا شيء في مصر يضمن مثل هذه الاستثمارات خصوصاً في ظل الموقف التركي العلني ضد القوى السياسية الجديدة التي باتت في سدة المشهد  السياسي المصري.

2- إن تركيا كانت ترى في مصر في عهد مرسى، جسراً سياسياً واقتصادياً ليس فقط إلى الدول العربية وإنما إلى عموم  أفريقيا، وعليه اعتمدت وبشكل حصري على الموانئ المصرية في تصدير سلعها بحراً إلى دول الخليج وأفريقيا، واليوم فان هذا مثل هذا الخيار بات أمام استفهامات كثيرة خصوصاً في ظل التنابذ السياسي بين تركيا والحكم الجديد في مصر والذي وصل إلى حد استدعاء السفير التركي في القاهرة وفي حملات إعلامية وسياسية مستمرة.

3- لعل ما يضاعف من المعاناة التركية، هو وصول العلاقة التركية – السورية إلى حد القطيعة في وقت كانت سورية التي لها أطوال حدود جغرافية مع تركيا (قرابة 900 ألف كيلومتر) تشكل جسراَ للاقتصاد التركي إلى دول الخليج والأردن ومصر وأفريقيا، إذ ان التجارة التركية عبر الأراضي السورية إلى هذه الدول توقفت، وقد عجزت تركيا عن إيجاد بديل مناسب سواء عبر إقليم كردستان العراق أو الكيان الإسرائيلي، وقد أدى كل ذلك إلى خسائر هائلة في الاقتصاد التركي، واليوم مع مستجدات الوضع في مصر والعلاقة المتوترة بين الجانبين فان خسائر الاقتصاد التركي مرشحة إلى المزيد.

4- إن هذه الخسائر المتعددة الجوانب تأتي في ظل الفتور والتوتر في علاقة تركيا بمعظم دول الجوار الجغرافي، أي سورية والعراق وإيران وروسيا وأرمينيا، ولعل السبب الأساسي في ذلك هو انقلاب تركيا على نظرية صفر المشكلات، وانخراطها وظيفيا في الإستراتيجية الغربية – الأطلسية من خلال الانخراط في موجة (ثورات الربيع العربي) على أمل أن تأتي هذه (الثورات) بقوى سياسية وإيديولوجية (الإخوان المسلمين إلى السلطة، وتأخذ هذه القوى بالنموذج التركي في الحكم، بما يجعل كل ذلك من تركيا دولة مركزية وقائدة للعالم العربي، إلا أن سقوط نظام مرسي وضع نهاية مفجعة لهذه الأحلام وضرب المشروع التركي في الصميم.

5- إن الصدمة التركية تجاوزت الحسابات المباشرة لعلاقات تركيا الثنائية بمصر إلى ركائز علاقاتها الإقليمية والدولية، ولعل الصدمة الأكبر هنا بالنسبة لأنقرة عندما أبدت واشنطن والعواصم الأوروبية موافقتها الضمنية بما قام به الجيش المصري، وهو ما دعا أردوغان إلى عقد مؤتمر صحفي والطلب من هذه العواصم تسمية الأشياء بمسمياتها على اعتبار ما حدث كان انقلاباً عسكرياً أسقط الحليف الأهم إستراتيجياً لحزب العدالة والتنمية التركي.

6- إن الصدمة التركية إزاء الموقف الخليجي وتحديداً الإماراتي والسعودي والكويتي لا يقل عن الصدمة من الموقف الغربي، فالدول الخليجية المذكورة سارعت منذ اللحظة الأولى إلى تأييد ما جرى في مصر، وبادرت إلى تقديم المساعدة المالية والسياسية للحكام الجدد، وهو ما شكل ضربة غير متوقعة لحسابات أنقرة التي كانت ترى في الدول الخليجية المذكورة حليفة لها، قبل أن تجد نفسها في مواقع متناقضة معها على خلفية الموقف من الإخوان المسلمين ومشروعهم السياسي في المنطقة.

الخشية من تكرار السيناريو

لعل العامل الأكثر حساسية بالنسبة لحكومة حزب العدالة والتنمية إزاء ما جرى في مصر هو التداعيات المحتملة على الداخل التركي، خصوصاً وأن التوصيف التركي  الرسمي لما جرى هو انقلاب عسكري، والخشية التركية هنا، لها أسباب ومبررات تاريخية، نظراً لما شهدته تركيا خلال العقود الماضية سلسلة انقلابات عسكرية بينها انقلابات شبيهه بما جرى في مصر، كما حصل في عام 1960 عندما دفع الجيش التركي الجماهير إلى الشارع ضد سياسة الرئيس عدنان مندريس الذي أعدمه الجيش لاحقا بعد الانقلاب عليه، وكذلك ما حصل مع رئيس الوزراء الأسبق ومؤسس  الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان الذي استقال عقب الإنذار الشهير للجيش في شباط عام 1997.

ولعل هذا ما دفع بالحكومة التركية إلى الربط بين احتجاجات ميدان تقسيم في اسطنبول  وتظاهرات ميدان التحرير في القاهرة، ومسارعتها إلى تشبيه (الانقلابيين المصريين) في ميدان التحرير بمتظاهري ميدان تقسيم، واصفة التظاهرات في الميدانين بغير الشرعية.

ثمة من يرى أن هذه المقارنة من قبل حكومة أردوغان لأحداث ميدان التحرير وساحة تقسيم، وكذلك اللهجة المتشددة  لأردوغان وأوغلو تجاه القائد العام للقوات المسلحة المصرية اللواء عبد الفتاح السيسي هو بعث رسالة قوية غير مباشرة  للجيش التركي، مفادها: إن حكومة حزب العدالة والتنمية ستكون بالمرصاد لأي محاولة تؤدي إلى إخراجها من السلطة على غرار ما جرى في مصر، في وقت باتت قطاعات واسعة من الشعب التركي ترى أن حكم حزب العدالة والتنمية لا يقل (دكتاتورية) عن أي نظام دكتاتوري في العالم، بعد أن سيطر الحزب على الرئاسات الثلاث (الحكومة – البرلمان - الجمهورية) وجعل من فوزه في الانتخابات لا محطة لممارسة الديمقراطية وترسيخها  بل فرصة للتغلغل في كافة مؤسسات الدولة وإعادة صوغها من جديد ووضعها في خدمة سياسة حزب العدالة والتنمية ومصالحه حتى  لو تعارضت مع مفهوم الدولة كمؤسسة ومصالح القوى الأخرى في البلاد، وترى هذه الأوساط أن ما جرى في ساحة تقسيم في اسطنبول وباقي المحافظات لم  تكن سوى انتفاضة ضد حكم  حزب العدالة والتنمية وممارساته السلطوية التي باتت تقوض الحريات العامة والشخصية في بلد متعدد عرقياً ودينياً وطائفياً وسياسياً. وأنه بعد التغير الذي جرى في مصر فإن حركات الاحتجاجات ضد حكومة حزب العدالة والتنمية ستحظى بالمزيد من الدعم الشعبي والسياسي وربما العسكري أي من قبل المؤسسة العسكرية التركية التي هي أقدم وأعرق مؤسسة وطنية في تركيا منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، ولعل ما يدفع بالمراقبين إلى مثل هذا التوقع هو العلاقة المتوترة بين الجيش وأردوغان الذي أخرج الجيش عملياً من الحياة السياسية في البلاد.

دون شك، مبررات الثورة ضد حكم مرسي موجودة في تركيا، وإن اختلفت الظروف والأسباب، فالثابت أن حجم القوى السياسية والفئات الاجتماعية من دينية وقومية وطائفية المتضررة من سياسة حزب العدالة والتنمية في تزايد مستمر بعد جنوح الحزب نحو السلطة والسيطرة على كل مفاصل الدولة والمجتمع من الجامعات إلى القضاء إلى تفاصيل الحياة اليومية للمواطن، كما أنه من الثابت أن الجيش التركي الذي كانت له الكلمة الأولى والأخيرة في البلاد غير راض عن دوره في عهد حزب العدالة والتنمية وهو يدرك أن ما حصل له خلال الفترة الماضية يعود إلى العلاقة المتينة بين الإدارة الأمريكية وحكومة حزب العدالة والتنمية لأسباب لها علاقة بالدور التركي الوظيفي في الإستراتيجية الأمريكية إزاء المنطقة، خصوصاً أن حكومة العدالة والتنمية أذلت كبار قادة الجيش  ورموزه عندما وضعت  أكثر من 300 ضابط  بينهم قادة جيوش سابقون في السجون بتهمة التحضير لانقلاب عسكري ضد حكومة أردوغان، وعلى الرغم من وجود هؤلاء في السجون لسنوات فإنه إلى الآن لم تثبت التهم ضدهم، وهو ما خلق انطباع  لدى العديد من الأوساط التركية بأن أردوغان يريد تصفية المؤسسة العسكرية من قادتها اللذين يرفضون سياسة حزب العدالة والتنمية وإحلال عناصر مواليه له في سدة هذه المؤسسة.

واللافت أنه بعد (ثورة) الثلاثين من يونيو في مصر مسارعة حكومة أردوغان إلى تعديل المادة 35 من الدستور التركي، وهي مادة تعطي للجيش صلاحية التحرك إذا رأى أن هناك ما يهدد الأمن في البلاد، وهو ما يعني إمكانية تدخل الجيش في الحياة العامة إذا تجددت احتجاجات ساحة تقسيم في اسطنبول أو حتى في أي مكان آخر من البلاد، والتعديل الذي جرى ينزع مثل هذا الحق عن الجيش وينص على أن مهمته هي حماية البلاد من التهديدات الخارجية، أي أبعاد بوصلته من الداخل وتوجيهها نحو الخارج، ويبدو أن ثمة قناعة بدأت تتشكل لدى الرأي العام التركي بعد ما جرى في مصر أن واشنطن استنفذت أغراضها من إيصال تيارات الإسلام السياسي ولاسيما حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة في المنطقة، ومثل هذا الأمر أن صح  فلا بد أن يؤثر على علاقة حكومة أردوغان بواشنطن وبالتالي على العلاقة الداخلية للجيش التركي بهذه الحكومة.

دون شك، ما جرى وضع بداية النهاية للنموذج التركي الذي كثيراً ما وصف بالمعتدل ونجح في التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، قبل أن يتحول هذا النموذج إلى لون سياسي إيديولوجي يتجاهل أو يقصي باقي المكونات الاجتماعية والسياسية من الممارسة الحقيقية الحياة العامة، بما أسس كل ذلك لبذور الثورة ضد هذه النموذج ويبدو أن ثمة قناعة بدأت تتشكل بعد ما جرى في مصر أن واشنطن استنفذت أغراضها من إيصال تيارات الإسلام السياسي ولاسيما حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة في المنطقة، ومثل هذا الأمر أن صح  فلا بد أن يؤثر على علاقة حكومة أردوغان بواشنطن وبالتالي على العلاقة الداخلية للجيش التركي بهذه الحكومة، وعليه فإن خشية الحكومة التركية من تكرار نموذج ثورة الثلاثين من يونيو في تركيا تبقى حاضرة يومياً في سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية.

ماذا سيفعل أردوغان

على الرغم من الخطاب الإعلامي التركي الرسمي الرافض (لثورة) الثلاثين من يونيو والدعوة إلى إعادة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى منصبه لأسباب أيديولوجية وسياسية، إلا أن ثمة قناعة عميقة لدى قادة حزب العدالة والتنمية ولاسيما الرئيس عبد الله غل ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو أنه لم يعد بالإمكان العودة بالمشهد المصري إلى ما كان عليه على غرار ما جرى مع الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز عندما أجبرت الجماهير الانقلابيين على ذلك، فالظروف في مصر مختلفة سواء لدور الجيش أو لطبيعة القوى السياسية المتصارعة. وعليه فإن السلوك التركي في المرحلة المقبلة سيأخذ منحى استيعاب الصدمة ومحاولة مد الجسور وإعادة النظر في الحسابات الإقليمية، وعليه فإن التحرك التركي العملي باتجاه المشهد المصري الجديد سيكون غالباً من خلال طرح تقديم رؤية تركيا على شكل (خريطة طريق) للوضع المصري، وهذه مسألة اعتادت عليها الدبلوماسية التركية في كيفية التعامل مع الأحداث الكبرى التي تشهدها المنطقة، ولعل أولى الخطوات التركية في هذا المجال هي المطالبة بإطلاق سراح الرئيس المعزول محمد مرسي ورفاقه من جماعة الإخوان المسلمين، وهي بذلك تحقق هدفين، الأول: الظهور بمظهر القائد لجماعة الإخوان المسلمين واستمرار تلقي تأييد هذه الجماعات في الشارع العربي للسياسة التركية الإقليمية. والثاني: مد الجسور مع القيادة المصرية الجديدة انطلاقاً من سياسة براغماتية تقوم على المصالح.

بعيداً عن الموقف التركي (المبدئي والأخلاقي) المطالب بإطلاق سراح الرئيس المعزول محمد مرسي فإن مجمل التحرك التركي تجاه الأزمة المصرية يدخل في إطار التدخل في الشؤون الداخلية لمصر كما يقول وزير الخارجية التركي الأسبق ياشار ياقيش الذي يرى أن سبب هذا التدخل له علاقة بإيديولوجية حزب العدالة والتنمية الذي هو الفرع التركي لجماعات الإخوان المسلمين من جهة، ومن جهة ثانية بخوف أردوغان من تكرار السيناريو المصري في الداخل التركي. وفي الحالتين يرى ياقيش أن سياسة أردوغان هذه لا تنسجم مع المصالح الوطنية والإستراتيجية لتركيا، خصوصاً وأن التطورات والمتغيرات الجارية في المنطقة أظهرت مدى التناقض في مواقف كل من تركيا من جهة والدول الخليجية التي سارعت إلى دعم الحكام الجدد في مصر إزاء مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة، خصوصاً أن الدول الكبرى أي أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي لم تقف ضد الحكام الجدد في مصر، وأن مجمل هذه التطورات تصب لمصلحة النظام السوري الذي يقف ضد استخدام الدين لغايات سياسية، وانطلاقاً من ما سبق ترى الأوساط التركية ضرورة كف حكومة أردوغان عن تصوير ما جرى في مصر على أنه مجرد انقلاب عسكري وضرورة مراقبة التطورات الإقليمية الجارية وإمكانية ظهور تحالفات جديدة في المنطقة بعد أن يستقر المشهد المصري. ويرى هؤلاء أنه ما لم تُعِدْ تركيا النظر في سياساتها الإقليمية فان تداعيات (ثورة يونيو) ستكون كارثية على سياسة تركيا الإقليمية تجاه المنطقة العربية، فمثلما أدت الأزمة السورية إلى قطع خطوط الاتصال البري مع العالم العربي، فإن الأزمة المصرية ستؤدي إلى قطع خطوط الاتصال البحري لتركيا مع هذا العالم. وهذا الأمر سيعمق من الخسارة التركية في الداخل، في حين لا يملك أردوغان في مواجهة كل ذلك سوى المزيد من التشدد في الداخل وإقصاء قوى المعارضة السياسية، وهكذا يصبح الخوف من احتجاجات تقسيم بمثابة فوبيا دائمة، فيتهم أردوغان كل من يشارك في أحداث تقسيم بأنه يستدرج الجيش إلى الانقلاب عليه، وكل من ينتقده يعتقله أو يطارده بوصفه ضد الديمقراطية التي وصلته إلى سدة المشهد السياسي عن طريق الانتخابات، انه سيناريو الخوف الدائم الذي يعيشه أردوغان على وقع الحدث المصري.

إن ما جرى في مصر أصاب المشروع التركي في الصميم، و وضع ما يشبه النهاية لأحلام أردوغان ودور تركيا الإقليمي تجاه المنطقة العربية من جهة، ومن جهة ثانية فرض على أردوغان تحدي  إعادة النظر في حسابات تركيا،  في كيفية انتهاج سياسة إقليمية لا تقوم على البعد الإيديولوجي والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية ومحاولة إيصال قوى محددة إلى السلطة . فالثابت أن تركيا أردوغان هي  الخاسر الأكبر من سقوط حكم مرسي، وما يعني هذا السقوط من انعكاسات محتملة على تركيا وعلى وضع  العلاقات الإقليمية في المنطقة لن تكون لصالح علاقات تركيا بالمنطقة العربية بقدر ما سيكون لصالح  النظام السوري الذي هو في حرب فعلية مع  تركيا بعد أن ألقت الأخيرة بكل ثقلها لإسقاط هذا النظام على أمل تغير الوجه الإقليمي للمنطقة لصالح التطلعات التركية التي تتلخص بالعثمانية الجديدة.

 كاتب وباحث بالشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة