المناهج المدرسية والمقاومة في لبنان

السنة الثانية عشر ـ العدد140 ـ ( رمضان ـ شوال 1434  هـ ) آب ـ 2013 م)

بقلم: د. عبد القادر حبيب 

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بداية من المفيد مناقشة العنوان العام لهذه الورقة، المقاومة والمناهج المدرسية، حيث يبرز السؤال عن جدوى هذا الربط على ضوء التجربة العملية للمقاومة الإسلامية في لبنان، فهل يمكن الحديث عن مناهج مدرسية خلف الأعمال النوعية للمقاومة في لبنان؟ وهل ثمة علاقة بين المقاومة، بكل أشكالها وتشكيلاتها، والمناهج المدرسية؟

هل كان للمقاعد المدرسية وباحات المدارس اللبنانية، فضلاً عن الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، دور حاسم أو بارز في هذا المجال؟ وإلى أي حد يمكن وصف المقاومين والشهداء بأنهم خرِّيجو مدارس أو مناهج محددة؟ ألم يكن الجامع والشارع، وليس الصف وقاعة التدريس، أهم مكانين أو مجالين للتربية على العمل المقاوم في لبنان؟.

أولاً: في العلاقة بين المقاومة والمناهج المدرسية

كما نرى فإن المضي بهذا النوع من الأسئلة لا يشجع على البحث في جدوى العلاقة بين المناهج المدرسية والمقاومة، وفي أحسن الأحوال يمكن الحديث عن مقدمات غير تأسيسية وغير مباشرة.

ثمة قناة مضيئة يمكن التعرف عليها لها علاقة بالمناهج المدرسية والحياة المدرسية عموما، إنها قناة التعليم الديني في لبنان، هذه القناة التي شكلت الفرصة الوحيدة أمام قسم كبير من اللبنانيين لاكتساب معارف ومفاهيم لها نوع ارتباط بالعمل الجهادي وفق مناهج مدرسية يعتد بها في هذا البحث، وثمة كوادر وشهداء، بل قادة وعلماء، شربوا من هذا المعين وآثار ذلك يمكن التعرف عليها، لكن إشكالية جدوى المناهج المدرسية في التربية على المقاومة تحتاج إلى معالجة أوسع وأكبر.

ما يمكن تقديمه في هذا الفرصة المحدودة هو أن غياب المناهج المدرسية عن دورها في التربية على المقاومة لا ينفي أهمية وجدوى هذا الدور، وإلا فنحن أمام نتيجة تمس المدرسة كمؤسسة اجتماعية لتحسين السلوك والوعي البشري، وهذا أمر لا يقف عنده أحد، أما ما يخص تجربة المقاومة ألإسلامية في لبنان، وبالرغم من نجاحها المدوِّي، فقد عانت هذه التجربة من عوائق بنيوية في البدايات، كما خاضت تجارب صعبة في تغيير القناعات السائدة، وبقيت حتى الأيام الأخيرة مضطرة لتبرير الكثير من سياساتها وبرامجها وخطابها العام. والسؤال المركزي هنا ألم يكن بإمكان التربية المدرسية توفير الكثير من الجهود والأوقات، بل الدماء، في ما لو قدِّر لها أن تمارس دورها في التربية على المقاومة؟ ألم يُستقبل العدو الإسرائيلي في بعض قرى الجنوب بالأرز والورود؟ كيف تسنى لهذا العدو أن ينشىء جيشاً من اللبنانيين يدافع عن الاحتلال ويبقى حتى اللحظة الأخيرة في خدمة هذا المحتل؟ إن ما قدمته المقاومة الإسلامية في سبيل تحويل المجتمع اللبناني إلى مجتمع مقاوم، وما بذلته هذه المقاومة في مواجهة الأطر العسكرية والأمنية والسياسية التي اخترعها العدو الإسرائيلي في صفوف بعض اللبنانيين، يشكل أضعاف ما قدمته وبذلته في المواجهة المباشرة مع العدو الإسرائيلي، بل إنني أتساءَل عن إمكانية حدوث هذه المواجهة المباشرة أو تحقيق العدو لأي هدف حيوي من دون العملاء في لبنان؟ ما تقدم يعني بالنسبة لنا كتربويين أن المجتمع اللبناني كان يفتقر إلى تربية منهجية على ثقافة المقاومة وبالتالي العمل المقاوم.

ثانياً: في دور المناهج والمقاربة التطبيقية

على الرغم من كثافة المواد التعليمية المقرّرة في المناهج المدرسية، وبالرغم من الحاجة لمواد إضافية لم تلحظها المناهج في العام 1997، ثمة فرص يمكن اكتشافها أو استحداثها لإكساب المتعلمين معارف ومهارات ومواقف خاصة بالعمل المقاوم. 

والأساس الذي يمكن أن نرتكز عليه يكمن في أن المناهج المدرسية ليست سوى عمليات بناء وتشكيل للأجيال الصاعدة وفق مقتضيات الرؤية للإنسان المثال، انطلاقاً من واقعه وقضاياه الثابتة والراهنة. وهذا النوع من الرؤى غالباً ما يكون بحجم العقود من الزمن. ونحن في لبنان، بل في العالمين العربي والإسلامي عموماً، نفترض أننا في مرحلة تاريخية يمكن وصفها بالضعف والتبعية، مقارنةً بما هو الحال في الغرب بقسميه الأوروبي والأمريكي. وأن هذه المرحلة لا يمكن تجاوزها بسنوات محدودة أو إنجازات معدودة. من هنا يغدو الحديث عن المقاومة والممانعة كواحدٍ من الخيارات الإستراتيجية المؤدية إلى القوة والاستقلال، وبالتالي الدخول في مرحلة تاريخية جديدة أقل ما يقال فيها أنها الحضور الفاعل في الزمن المعاصر بكل مجالاته وقضاياه.

هل الحديث عن المقاومة يرقى إلى هذا المستوى من التفكير بالحاضر والمستقبل؟ وهل يمكن اعتبار العمل المقاوم إحدى مداخل النهضة  والتقدم في لبنان، فضلاً عن العالمين العربي والإسلامي؟ بكل تأكيد لأننا إذا اعتبرنا القدرة على الاستقلال وحمايته شرط ضروري للنهوض والتقدم، فإن المقاومة والممانعة مقدمات ضرورية في تحقيق هذه القدرة.

إذن الحديث عن إدخال المقاومة في المناهج الدراسية يتجاوز كونه شكلاً من أشكال التأييد والدعم أو الترويج للمقاومة إلى كونه إسهاماً في بناء الرؤية المستقبلية المرجوة لهذا البلد أو ذاك.

في ما يتعلق بالمسار الإجرائي يمكن مقاربة موضوعة المقاومة في المناهج المدرسية من زاويتين متكاملتين أو متوازيتين. المقاربة الأولى يمكن وصفها بالقِيَمية، حيث يتم إكساب المتعلمين القيم المكوِّنة لذهنية المقاومة وثقافة الفعل المقاوم، أو بما يشبه التربية على المقاومة من خلال العناصر الرئيسة في سلوك ومواقف الإنسان. أما المقاربة الثانية فيمكن وصفها بالمعرفية، حيث يتم إكساب المتعلمين مجموعة من المعارف التاريخية ترتقي بوعيهم بغية الإفادة من كل التجارب الإنسانية السابقة في هذا المجال، فإذا كانت المقاربة الثانية تُعنى بالجانب العقلي والفكري بشكل رئيس، فإن المقاربة الأولى  تُعنى بشكل رئيس بالجانب السلوكي والتأملي إذا جاز التعبير، وهذا التصنيف لا يحول دون التداخل بين المقاربتين في العديد من القضايا والمفاهيم بسبب الشراكة في المجال والهدف.

أ - المقاربة القِيَميَّة.

ينطوي العمل المقاوم على مجموعة من القيم يشترك فيها مع العديد من المواد الأخرى مضموناً وأسلوباً، فالاهتمام بقيمة التضحية والفداء له مكانه في كل أنواع التربية المدرسية المدنية والدينية والاجتماعية والفنية والرياضية، كما له دوره في النصوص التعبيرية على مختلف أنواعها وأهدافها. والكلام نفسه ينسحب على قيم الصدق والوفاء والعدل والحرية، إنها البنى التحتية لأي عمل مقاوم أو ثقافة مقاومة، وفي الوقت ذاته إحدى الغايات الكبرى التي تظلِّل المناهج التربوية برمتها، وهل المقاومة إلا تضحية من أجل الحق وفداءً للحق؟ هل المقاومة شيء آخر غير الإصرار على الصدق وأحد التعابير عن الوفاء للأجداد والآباء، وهل المقاومة إلا تحقيق للعدل و نوع من السير على درب الحرية.

ما تقدم يعني بناء ذهنية من شأنها التفاعل السريع مع موجبات ومقدمات كل عمل مقاوم، وبالتالي الانخراط التلقائي في برامجه وخططه، إن هذا النوع من التربية أقوى عوداً وأبطأ خموداً من النوع الذي يستنهض العناصر الطبيعية في وقتها، حيث يحتل الحماس والارتجال والانفعال أماكن متقدمة في الدوافع والسلوك بدل الإيمان والالتزام والمبادرة.

إذن بإمكاننا أن نكون أمام منهاج تربوي يشمل كل القيم التي ينطوي عليها العمل المقاوم، وذلك ضمن إطار المواد الإنسانية، تبعاً لقابليتها والشروط التربوية المعتمدة. هذه الفكرة مرت بأذهان الكثيرين، بل ربما تكون الفكرة الوحيدة التي سعى فيها العديد من المهتمين بالشأن التربوي المقاوم، لكن ما أريد إضافته في هذا المجال هو أن التحدي كان على الدوام في تحويل الفكرة إلى منهاج، وتحويل المنهاج إلى كفايات تعليمية، ثم خوض التجربة التطبيقية لهذه الكفايات، قبل تقويمها وتطويرها و من ثم متابعتها على الدوام. وهذا لم يتحقق بالشروط العلمية، حسب معلوماتي، لغاية الآن في أي مؤسسة.

لقد كنا بحاجة إلى خيال أوسع ورؤية أبعد، وجهود وتجارب أكثر وأكبر، لكن حالت دون ذلك مبررات عديدة، وثمة معلومات تشير إلى حجم المصاعب التي تعيشها مؤسساتنا أمام مشاريع التربية على القيم بطريقة منهجية، حيث لا تزال الأمور في بداياتها، وهذا أمر يوحي بصعوبة المشروع، كما يدل على بعده الإستراتيجي.

إننا نقترح تشكيل فريق عمل يضم مجموعة من المتخصِّصين في المناهج المدرسية والتربية والمواد الإنسانية واللغوية، بغية وضع مشروع تربوي للقيم المراد إكسابها للمتعلمين على مدى السنوات المدرسية، على أن لا يكون هذا الطرح على شاكلة مشاريع الكتب المدرسية، حيث يجري تكليف مجموعة من المعنيين لإعداد هذه الكتب على هامش أعمالهم الأساسية، إن هذا النوع من المشاريع يحتاج إلى جهود نوعية، ومتواصلة، وطويلة المدى، وبكلفة مالية تتناسب مع المستوى الإستراتيجي الذي يحتله. قد يرى البعض نوعاً من المبالغة في ذلك، لكن من الضروري أن ندرك أننا في صدد مهمة تتصدى لها، غالباً، المؤسسات الحكومية والمراكز الدولية، فهي تحتاج إلى أجهزة وموازنات تتناسب مع أهدافها البعيدة وغاياتها الإستراتيجية. ومن الضروري هنا الإشارة إلى ضرورة التقويم والمتابعة لأي مشروع بعد المباشرة في تطبيقه، ما يعني أننا في صدد تشكيل إطار تنظيمي للعمل مفتوح على الزمان والتطوير الدائم.

  ب- المقاربة المعرفية.

إن التاريخ المحلي والإقليمي والعالمي يزخر بالعديد من التجارب الجهادية والنضالية التي يمكن مقاربتها تحت عناوين المقاومة ضد الاحتلال، والاستعمار، وشتى أنواع العدوان والهيمنة. وثمة تجارب أخرى من الخضوع والاستسلام والتبعية من شأنها أن تلقي الضوء على حضارة ورقي العمل المقاوم، ربما بشكل يفوق العمل المقاوم نفسه.

إنها إحدى الزوايا التي يمكن مقاربة التاريخ من خلالها، التأريخ بالمقاومة، وهذا ما سيضعنا أمام قسمٍ كبير من التاريخ، فضلاً عن إضاءته لأقسامٍ أخرى، وبالتالي تظهير دور هذا الفعل الإنساني في حركة التاريخ عموماً.

فعلى المستوى الإسلامي والعربي يمكن التوقف عند بواكير الأعمال الجهادية فيما عُرف حينها بالمرابطة في الثغور، لاسيما مع الروم والبيزنطيين، في البر والبحر، ثم الأعمال الحربية ضد الاحتلال الإفرنجي أو ما عرف بالصليبيين، على مدى قرنين من الزمان، حيث مر المشرق الإسلامي وبعض الغرب بتجارب رائدة في مقاومة المحتل ومواجهته، كما مر بتجارب أخرى كشفت عن المآسي وأنواع الذل التي عاشتها بعض المدن والنواحي ألتي اختارت المهادنة، بل المساعدة، للمحتل القادم.

وفي التاريخ الحديث والمعاصر يمكن استعراض حركات التحرُّر الإسلامية والعربية، بدءً من مقاومة المصريين للاحتلال الفرنسي في آخر القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن التاسع عشر، ثم مقاومة الاحتلال والاستعمار البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين. أما في الجزائر فنحن أمام مسيرة جهادية من نوعٍ آخر، حيث تعرض هذا البلد على مدى قرن وثلث (من 1830 ولغاية 1962) لأطول وأخطر عملية احتلال وإلغاء لهوية وثقافة الجزائريين، خرجت بعدها هذه البلاد أكثر تمسكاً بدينها وثقافتها، من دون أن يعني ذلك عدم خسارتها للكثير من طاقاتها ورجالها وزمانها، وجانبٍ من ثقافتها وإن بصورة مؤقتة، ومن الملاحظ هنا أن إنجازات العمل المقاوم على مستوى التعريف بالذات وتحصينها فاقت بأهميتها تلك التي شهدتها ميادين ساحات المواجهة المباشرة، وهذا أثمن وأغلى ما يمكن أن يحققه العمل المقاوم أو الممانع.

وبالطريقة ذاتها يمكن التوقف عند المقاومة التونسية والمغربية والليبية والعراقية......، ولاحقاً المقاومة الفلسطينية والسورية واللبنانية، ثم المقاومة في سائر العالم الإسلامي في إيران وباكستان وأفغانستان.....، ومن المفيد جداً الاهتمام بمقاومة المستعمرات البريطانية والفرنسية والإسبانية في القارة الأمريكية للدول الاستعمارية الأم (بريطانيا، فرنسا، إسبانيا،.....) التي بجهودها وسياساتها دخلت هذه المستعمرات التاريخ، لا بل إن معظم أبناء هذه المستعمرات ليسوا سوى أحفاد حقيقيين للأجداد البريطانيين والفرنسيين والأسبان وغيرهم من الأوروبيين. وأخيراً لا بد من التوقف أمام أنواع المقاومة في الدول الآسيوية والأوروبية في التاريخ المعاصر، لاسيما في الهند ضد الاستعمار البريطاني، وفي فيتنام ضد الاحتلال الأمريكي، وفي فرنسا ضد الاحتلال النازي.

مما تقدم يتضح لنا أن خوض تجربة المقاومة يكاد يكون ممراً إلزامياً لمعظم الشعوب والدول للعبور إلى مرحلة الاستقلال والسيادة بكل المعاني التاريخية والمعاصرة للاستقلال والسيادة، على اختلاف التجارب لدى كل شعب أو دولة تبعاً للواقع الجغرافي والظروف التاريخية.

إن قضية المقاومة هي قضية تربوية تدخل في منظومة التفكير والسلوك الإنسانيين، ذلك إن رفض الهيمنة والتبعية والظلم لا يقتصر على الدول والشعوب، بل ينمو مع الفرد والمجموعة وكل كيان أو إطار إنساني. وهذه إحدى خصائص الإنسان كما خلقه وأراده سبحانه وتعالى، ولولا هذه الميزة الرفيعة  لفقدنا كل أمل في التغيير أو تحسين الحياة الإنسانية.

إننا نقترح بناء منهج رديف للمنهج المعتمد يجري توزيعه على تسع سنوات بدءً من الثالث أساسي ولغاية الثاني عشر، يتضمن ما ذكرناه من تاريخ للمقاومة على أن لا يقتصر المضمون على المجال العسكري والسياسي، بل يتجاوزه إلى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحضاري.

بالإمكان الاستفادة من خمس حصص سنوية لهذه المادة في كل صف على أن يتزامن تقديمها مع مواد تاريخية أخرى تعود للفترة التاريخية نفسها والأماكن والبلدان ذاتها، بحيث تظهر ضمن النسيج العام للمادة ومع العناية بكل معايير الجودة الخاصة بالنصوص المدرسية.

إننا في مرحلة دقيقة وخطيرة، وثمة فرصة أمامنا لتحسين الوضعية العامة لمجتمعنا وأمتنا، قد يحتاج الأمر إلى سنوات طويلة وربما عقود، إنها مفاعيل رجعية لعشرات السنين، بل مئات السنين، حيث لم يتسن للآباء والأجداد أن يقوموا بأدوارهم المرجوة.

 ما تقدم مجموعة أفكار آمل أن تكون مفيدة وقابلة للنقاش، وأسأله تعالى أن يتقبل منا ويوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين.

اعلى الصفحة