لماذا تأخرت الثورة التونسية عن تحقيق العدالة الانتقالية؟

السنة الثانية عشر ـ العدد 137 ـ ( جمادى الثانية ـ رجب 1434  هـ ) أيار ـ 2013 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

انتهت لجنة التشريع العام بالمجلس الوطني التأسيسي من مناقشة مشروع قانون تحصين الثورة الذي تقدّمت به حركة "النهضة" و"حركة وفاء" وحزب"المؤتمر من أجل الجمهورية"، حيث ينص هذا القانون إلى منع كل من عمل مع النظام السابق من يوم 7 نوفمبر1987(تاريخ تولي زين العابدين مقاليد الرئاسة في تونس ) إلى 14 يناير/جانفي  2011، من  النشاط السياسي لمدة سبع سنوات.

وبحسب مصادر برلمانية فإن اللجنة، التي تضم نوابًا ممثلين عن الأحزاب السياسية داخل البرلمان، وافقت بشكل نهائي على مشروع قانون تحصين الثورة، قبل تمريره للنقاش في الجلسات العامّة تمهيدًا للمصادقة النهائية على فصوله".ولم توضح المصادر متى سيتم طرح القانون للنقاش في الجلسات العامة أو المصادقة النهائية عليه. وقد حدّد المشروع المعنيين بالعزل، وهم كلّ من تولى منصبًا سواء داخل حزب التجمع الدستوري المنحل، أو مناصب مقرّبة من سلطة نظام بن علي.

تحصين الثورة مطلب شعبي منذ البداية

قبل أن تبادر حركة النهضة و حلفاؤها في المجلس الوطني التأسيسي  إلى طرح مشروع قانون تحصين الثروة، حين أصبحت في السلطة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، كانت "جبهة 14 يناير/جانفي 2011" التي أعلن عن تشكيلها في 22 يناير/جانفي 2011، باعتبارها إطاراً سياسياً يضم القوى اليسارية والقومية، ومعها الشارع التونسي، و الاتحاد العام التونسي للشغل، قد طرحت حلّ حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" (الحاكم سابقاً) ومصادرة مقراته وأملاكه وأرصدته المالية باعتبارها من أموال الشعب... ورفضت  هذه الجبهة الواسعة الأطياف أي دور لحزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" في مستقبل تونس السياسي، خوفاً من عودة الظلم والاستبداد واغتيال الديمقراطية.

وانطلقت هذه الجبهة من حرصها على الدفاع عن الثورة، وسط مخاوف حقيقية من سرقتها، لهذا السبب كان تركيزها على حَلِّ حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم سابقاً). بيد أن المتابع لبداية العملية الثورية في تونس، لمس بوضوح أن حزب" التجمع الدستوري الديمقراطي" فقد أهم ركيزة له، بانسحاب أعضائه منمحمد الغنوشي الأولى.

فقد عصفت الصراعات بإرث الحزب،و تهافتت الأيادي لانتزاع قطعٍ من الغنيمة، وفي مقدّمتهم الوزراء الذين عملوا مع بورقيبة، والذين اعتبروا أن بن علي قد سطا على حزبهم في 1988 عندما محا اسمه السابق "الحزب الاشتراكي الدستوري"، وأبعد رموزه...

فهناك ثلاث ركائز كان يقوم عليها مُجمّع الحزب ـ الدولة الذي حكم البلد طيلة أكثر من نصف قرن، سيُؤثّر فقدانها تأثيراً كبيراً على مستقبل المشهد السياسي التونسي. وكانت الحكومة الانتقالية قد أعلنت عن سلسلةٍ من الإجراءات الفورية ضربت هذه الركائز الثلاث، إذ قضت على فصل مؤسّسات الدولة عن جهاز الحزب الحاكم السابق، واستعادة الممتلكات العمومية التي كان يتصرّف بها، وإنهاء تفريغ الآلاف من كوادر القطاع العام للعمل الحزبيّ.

وتمثل أكبر إنجازات الثورة التونسية في حل حزب"التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم سابقاً، بوصفه حزباً شمولياً، حيث كانت فروعه منتشرة في جميع أنحاء تونس، وكان في أوج قوته يضم حوالي مليونـين ونصف المليون عضـو من أصل عدد سكان إجمالي قدره عشرة ملايين نسمة. فهو ككل الأحزاب الشمولية الحاكمة  ليس له أية أيديولوجيا معروفة، سوى أنه جهاز  أمني هلامي جنّد نفسه لخدمة الحاكم والدولة البوليسية، وله علاقات غير مشروعة بين رجال المال ورجال السلطة. وجميعها مظلات تتفرخ تحتها ممارسات الفساد الممنهج والنهب المنظم للشعب. تلك هي حالة الأحزاب الشمولية الفاسدة في كل من تونس ومصر، التي احترقت في وهج الثورة إلى الأبد.

وقد حققت الثورة التونسية انتصاراً مهماً بتمكنها من الحصول على قرار نهائي من القضاء التونسي يوم الأربعاء 9 مارس 2011، بحل حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم سابقاً إبان عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ما أثار احتفالات واسعة في الشارع التونسي الذي لم يتراجع أمام محاولات الحزب بث الفوضى في البلاد والبقاء في السلطة بعد فرار بن علي. وأعلنت المحكمة الابتدائية في العاصمة التونسية أنها "قررت حل التجمع الدستوري الديمقراطي وتصفية ممتلكاته وأمواله" عن طريق وزارة المالية..

غير أن التجربة التونسية للانتقال الديمقراطي في تونس، المتميزة بضعف الدولة ومحدودية فعالية الحكومة، اتسمت بالفوضى غير الخلاّقة، لاسيما في ظل سيطرة حركة النهضة الإسلامية على مقاليد السلطة في تونس منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011، إذ ساد العنف السياسي الذي تمارسه الجماعات السلفية التكفيرية المرتبطة بتنظيم القاعدة، و مليشيات ما يسمى "رابطات حماية الثورة"  اليد الضاربة لحركة النهضة من أجل إسكات خصومها السياسيين، وانتشرت جرائم الاغتصاب، وحصلت جريمة اغتيال الشهيد القائد شكري بلعيد، في ظل استباحة العدالة الانتقالية، وغياب دولة القانون.

والحال هذه، عجزت حركة النهضة عن مواجهة  المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية التي تعانيها تونس، فاصطدمت  بالتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع الثورة التونسية كارتفاع معدلات البطالة، والتفاوت الصارخ في مجال التمنية بين مختلف مناطق البلاد٬ والتهريب والفساد، والتي لا تزال من دون حل(..) ويمكن أن تؤدي إلى تأجج الأحداث من جديد. ولم تتمكن حتى الآن لا حكومة الجبالي السابقة، ولا حكومة علي العريض الحالية  من وضع حدّ للفساد، وأحداث العنف المحلية المرتبطة بإعادة توزيع السلطة، أو تكاثر شبكات التهريب التي تسهم في تفاقم مشكلة التضخم.

بينما تقوم نظرية الانتقال الديمقراطي في تونس، على تحقيق أهداف الثورة التونسية، والمتمثلة في تحقيق ما يلي:  دستور توافقي، وعدالة انتقالية، وقضاء مستقلّ، وجبر الأضرار لضحايا القمع وجرحى الثورة وأسر الشهداء، ووضع خطط تنموية حقيقية عاجلة للنهوض بالمناطق التي كانت محرومة من مشاريع التنمية الاقتصادية، وعانت من التهميش طيلة العقود الخمسة الماضية، ومساعدة الفئات الاجتماعية الأكثر بؤساً لاسيما العاطلين عن العمل، وعفو تشريعي عام، وحماية الذاكرة، وإحداث هيئة مستقلة ومحايدة للإشراف على الانتخابات، وإحداث هيئة تعديلية محايدة للإعلام، وتحييد الخطاب الديني عن التجاذبات الحزبية، لاسيما في ظل عدم قدرة وزارة الشؤون الدينية على التحكم في المساجد بشكل مطلق، وغياب إستراتيجية وطنية تتعلق بتنظيم الفضاء الديني ككل، وغياب أيضاً رؤية متكاملة حول أهمية ربط الخطاب الديني بالانتقال الديمقراطي، ونشر الثقافة الديمقراطية الجديدة التي تقوم على القبول بالآخر، ورفض الإقصاء، وتأكيد منطق تداول السلطة.

وقد لاقى مشروع قانون تحصين الثورة معارضة شديدة من أغلب الكتل داخل المجلس الوطني التأسيسي لأسباب عديدة . فهناك من يرى أن العدالة الانتقالية وحدها هي المخوّلة للنظر في الأمر وتحديد المسؤوليات حول من ارتكب تجاوزات خلال مرحلة الديكتاتورية السابقة ، وهناك طرف آخر يعتقد أن القضاء هو الإطار الأسلم لتدارس هذا الملف المثير للجدل،  لكن هناك رأي صائب يمثله الأستاذ الحقوقي قيس سعيد الذي بيّن أنّ الشعب وحده هو المُخوّل للمعاقبة والحكم على من عمل في النظام السابق عن طريق الانتخابات واقترح أن يكون الانتخاب على الأفراد لا على القائمات حتّى لا يحصل ما حصل في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.

خوف النهضة من حزب "نداء تونس" وراء طرحه للقانون

الذي دفع إلى تسريع مشروع قانون حماية الثورة داخل المجلس الوطني التأسيسي، هو حصول الاستقطاب السياسي الحاد في تونس، بين حركة النهضة وحلفائها من الجماعات السلفية التكفيرية، والمليشيات، وشريكيها في الترويكا الحاكمة، وبين "حزب نداء تونس" الذي أسسه رئيس الحكومة السابق الباجي القائد السبسي، الذي أصبح  القوّة الليبرالية الجديدة الصاعدة في المشهد السياسي التونسي، والذي التفت حوله مجموعة من الأحزاب كـ"الحزب الجمهوري"  و"المسار الديمقراطي الاجتماعي" إضافة إلى "الحزب الاشتراكي" و"حزب العمل الوطني الديمقراطي". وشكّلت استطلاعات الرأي الأخيرة التي جعلته في منافسة جدّية لحركة النهضة مصدر إزعاج لـلترويكا الحاكمة.

أمام جدّية المنافس، أي حزب" نداء تونس" الذي  يقوده الباجي القائد السبسي، الشخصية الدستورية الليبرالية  القادرة على استقطاب العائلة الدستورية  المتضررة من عهد بن علي، والذي يمكن أن يُغير في الخارطة السياسية لتونس في الانتخابات القادمة، وأمام تراجع شعبية حركة النهضة الإسلامية في ظل تنامي المليشيات المتنوعة في عهدها،  التي تُرْهِبُ السياسيين والمواطنين والإعلاميين، وفي ظل التسميات المشبوهة في وزارة الداخلية التي يتحدث عنها القاصي والداني، ووجود جهاز أمني مواز يُدَارُ من قبل الجناح المتشدد في النهضة، وفي ظل التعيينات في مفاصل الإدارة والدولة التي تقوم على الولاء الحزبي، حيث أن ثلثي الولاة ينتمون إلى حركة النهضة، وفي ظل استفحال العنف وفتح البلاد أمام  شبكات الإرهاب لتكديس الأسلحة،في ظل هذه العوامل مجتمعة، بادرت حركة النهضة إلى الإسراع في البّتِ في مشروع قانون تحصين الثورة.

من الصعب جداً، أن تنطلي على الشعب التونسي، والمعارضة الليبرالية واليسارية، أن التصويت على هذا القانون هو في خدمة مصلحة الثورة، ومن أجل قطع الطريق على عودة أزلام النظام السابق وتونس على أبواب أشهر قليلة من الاستحقاق الانتخابي المقبل. فالقانون الجديد لا يمكن له أن يحمي الثورة، بل هو يدخل في سياق ترتيبات سياسية  انتخابية، حيث تسعى حركة  النهضة جاهدة إلى إقصاء حزب "نداء تونس" من المجال السياسي، والهيمنة على الفضاء العام، والاستفراد بالحياة السياسية والسلطة، وبناء ديكتاتورية جديدة قائمة على استبعاد خصوم سياسيين لهم وزن ولهم إرث تاريخي في بناء الدولة التونسية الحديثة. إنّه تحصين لـ"الترويكا" الحاكمة  كما قال السيد حمّة الهمامي الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبي(التكتل اليساري والقومي العربي المعارض) على الرغم من اختلافه الجذري والعميق مع حزب "نداء تونس"، إذ قال إن التقارب مع هذا الحزب أمر مستحيل بسبب تباين البرامج الاقتصادية والاجتماعية بل هم أقرب للنهضة على هذين المستويين.

حاجة الثورة لتحقيق العدالة الانتقالية

إن تحصين الثورة يحتاج إلى بلورة مشروع مجتمعي قادر أن يحقق أهداف الثورة. فعندما استلمت حركة النهضة الإسلامية السلطة، لم تدرك أن الشعب التونسي الذي صنع ثورته، وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديمقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد، وانتهاج خيار اقتصادي واجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والتي أدت في الواقع إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة، وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة، التي تعتبر أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس. ليس لحركة النهضة الإسلامية نظرية للاقتصاد، بل هي منساقة في نهج الليبرالية الجديدة التي سقطت في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من الدول الرأسمالية الغربية  عقب وقوع الأزمة المالية و الاقتصادية العالمية عام 2008، ولم تقم بمراجعة نقدية للنموذج الرأسمالي الطفيلي الذي كان سائداً في تونس، حيث وصل إلى مأزقه المحتوم.

كما أن الذي يحصن الثورة، هو تحقيق العدالة الانتقالية،وتفعيل العفو التشريعي العام، ومعالجة ملف رجال الأعمال الممنوعين من السفر والمئات من ملفات الفساد التي ضبطتها لجنة الفقيد عبد الفتاح عمر والتي رُحلت اليوم إلى القطب القضائي وهي تنتظر الحسم والمعالجة القضائية على صعوبتها وتعقّدها.

وكانت معظم الدول التي عرفت مرحلة من سيادة الديكتاتورية والشمولية مرّت بمرحلة الانتقال الديمقراطي، لاسيما في أوروبا الشرقية والوسطى في تسعينات القرن الماضي، وأرست أيضاً أسس العدالة الانتقالية فكراً وممارسة، إلى جانب التجربة الفريدة التي عاشتها أفريقيا الجنوبية بعد القضاء على نظام التمييز العنصري، حيث تشكلت لجنة الحقيقة والمصالحة مع الذات التي وضعت تقريراً شاملاً حول حجم الجرائم المرتكبة في ظل النظام  العنصري السابق .فهذه اللجنة التي جسدت بصورة مصغرة السلطات الجديدة في دولة جنوب إفريقيا، عكست أيضاً مقاومة العالم القديم المطلقة لهذا العالم الجديد الذي دخل في مرحلة البحث نحو تحقيق العدالة الانتقالية.

وفي المغرب تشكلت هيئة "الإنصاف والمصالحة" لتقصي الحقائق في انتهاكات حقوق الإنسان التي شهدتها المملكة المغربية خلال حقبة "سنوات الرصاص" والتي تمتد من سنة 1956 و لغاية 1999، وترأسها المناضل المغربي الراحل إدريس بنزكري.

وأوصت الهيئة في تقريرها الذي رفعته للملك محمد السادس،  بتعزيز الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان واعتماد إستراتيجية وطنية لمكافحة الإفلات من العقاب. وشددت على أن تعزيز دولة القانون والحق يقتضي إصلاحات في المجال الأمني والقضاء والتشريع والسياسة الجنائية، وأوصت في هذا الصدد بتأهيل وتوضيح ونشر النصوص التنظيمية المتعلقة بصلاحيات وتنظيم ومسلسل اتخاذ القرار، وأنظمة مراقبة عمل أجهزة الأمن والاستعلامات.

وتضمنت توصيات الهيئة مبدأ سمو القانون الدولي لحقوق الإنسان على القانون المحلي، وقرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة، وتعزيز مبدأ فصل السلطات. واعتبرت الهيئة، من جهة ثانية، أن القضاء على الإفلات من العقاب، يستدعي، إضافة إلى الإصلاحات القانونية، بلورة وتفعيل سياسات عمومية في قطاعات العدل والأمن وحفظ النظام  والتعليم والتكوين المستمر، وكذلك الانخراط الفاعل من قبل جميع مكونات المجتمع في هذا الاتجاه.

ووضعت هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب برنامج عمل طموح لجبر الأضرار الجماعية في القرى والبلدات التي ارتبطت ذاكرتها الجماعية بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ما بين 1956 و،1999 حيث حالت هذه الأحداث دون تمكنها من تحقيق نقلة تنموية. ويعد البرنامج إحدى الصيغ التي لاقت إشادة ونوهت بها أطراف وطنية دولية عديدة، إذ لم يسبق لأي لجنة للحقيقة والمصالحة من بين اللجان التي أحدثت في بلدان عدة، وعددها حتى الآن 32 لجنة، أن أثارت الموضوع وأخضعته للبحث والدراسة، وبلورت بشأنه مقترحات وإستراتيجية واضحة الأهداف. وتبقى تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب فريدة من نوعها في العالمين العربي والإسلامي، وهي الثانية في إطار ما يسمى (العدالة الانتقالية في إفريقيا) بعد النموذج الجنوب إفريقي.

أما في تونس، البلد الذي حدثت فيه أول ثورة في العالم العربي، كانت مفجراً لربيع "الثورات العربية"، أجمعت فيها القوى السياسية على اختلاف مرجعياتها الإسلامية، والليبرالية، و اليسارية، على إطلاق مسار العدالة الانتقالية ليشمل فترتي الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة (1987-1956) وزين العابدين بن علي (1987 – 2011)، أي حوالي ستين عاماً.

غير أن المحللين التونسيين يعتقدون أن حركة "النهضة" التي تقود الائتلاف الحاكم لم تبلور مشاريع وبرامج عملية ترسخ دولة القانون، وتحمي الحريات العامة والحريات الشخصية، وتساهم في منع تكرار الانتهاكات لحقوق الإنسان، تفسح في المجال للعيش المشترك بين السلطات الجديدة و المعارضات السياسية، الذي يفترض التباين البنيويّ في الخيارات السياسية و الإيديولوجية و الاقتصادية و المجتمعية، بين النخب الحاكمة و القوى السياسية الطامحة إلى التغيير على قاعدة التداول السلمي للسلطة. وأنّ المطلوب هو المشاركة في الحياة السياسية، وهذه المشاركة تتطلب من السلطات الجديدة إعادة هيكلة الحقل السياسي، الذي يعكس شعار المصالحة الوطنية.

لكن حركة النهضة التي تعيش هاجس المحافظة على السلطة بأي شكل من الأشكال، لم تعد معنية بتحقيق العدالة الانتقالية، بقدر ما أصبحت تنظر إلى الانتخابات العامة المتوقعة في أواخر السنة الحالية وفق حسابات الربح والمصالح، فتخلت عن مطالب الإصلاح الديمقراطي في مؤسسة القضاء، والأجهزة الأمنية، لأنها لا تريد أن تستعدي المؤسسات والأجهزة، والحزب التاريخي الذي استند إليه الرئيسان السابقان بورقيبة وبن علي، آملة سحبه من منافسيها وخصوصاً الأحزاب التي تنتمي للفكر البورقيبي، أو في الأقل ضم بعض كوادره إلى صفوفها.

ويستدل المحللون على هذا التأويل بإدماج عناصر كثيرة من الحزب المنحل "التجمع الدستوري الديمقراطي" في دواوين الوزراء أو تعيينهم محافظين وموظفين سامين، استناداً إلى ما دعته "خبرتهم التكنوقراطية". وبحكم هذه الحسابات السياسية بدأ المجتمع يغوص في نسيان الماضي القريب والبعيد، مع أن الهدف الأول من العدالة الانتقالية هو منع نسيان الجرائم، تمهيداً لإنصاف الضحايا، فمن الضروري من أجل حفظ كرامة هؤلاء أن يُعترف لهم بوضع اجتماعي وأن يُرد لهم الاعتبار، وهذا جزء من واجبات الدولة إزاء الضحايا. الإنصاف والتعويض واجبان على الدولة كي لا تغرق الضحية في النسيان، وهي جريمة ثانية يرتكبها المجتمع إزاء من ضحوا بحياتهم وسعادتهم وراحة أسرهم في سبيل إصلاح الأوضاع السياسية (صحيفة الحياة، أبريل 2013).

ويتطلب تحصين الثورة في مرحلة الانتقال الديمقراطي تكريس مبدأ الحياد والشفافية والكفاءة في الإدارة العامة، حتى يستعيد المواطن ثقته في الإدارة التونسية، وتنأى هذه الأخيرة عن التجاذبات السياسية، التي من شأنها أن تُهّدد صيرورتها. فالمطلوب من كل القوى السياسية، سلطة ومعارضة، أن تخدم المصلحة العامة، وأن تبتعد عن التوظيف الحزبي للإدارة. وهذا بدوره يقودنا إلى إدراج مبدأ الحياد في الإدارة في الدستور التونسي الجديد أسوة بما هو معمول به في الدول الديمقراطية الغربية التي أدرجت مبدأ الحياد في دساتيرها نظراً لأهمية هذا المبدأ في حياة الدولة وصيرورتها واقترانه مباشرة بمبدأ المساواة، باعتبار تكامل المبدأين يسهم  في إقامة دولة ديمقراطية وضمانة لاستمرارية مؤسساتها.

ويعتبر الأستاذ الجامعي مصطفى بلطيف "أن مسألة حياد الإدارة في المرحلة الانتقالية التي تشهدها بلادنا مرتبطة بالقطع مع الإرث القائم على تبعية الإدارة تجاه السلطة السياسية على اعتبار أن الفترة السابقة أضعفت حياد كبار المسؤولين الإداريين والموظفين ما أفقد ثقة المواطن في حياد الإدارة" على حدّ قوله.

وأكد أستاذ القانون أنه بعد الثورة سادت فكرة تحييد الإدارة بشكل كبير بالتوازي مع الجدل القائم في الآونة الأخيرة على مستوى تحييد وزارات السيادة مشيراً إلى أن المطلوب اليوم إعادة الإدارة إلى وظيفتها الرئيسية وتحويلها من إدارة السلطة الحاكمة إلى إدارة خدمة المواطن والشأن العام(صحيفة الصباح 6مارس 2013).

وكانت المعارضة الديمقراطية انتقدت السياسة المتبعة في التسميات والتعيينات في الإدارة التونسية من قبل حركة النهضة وشريكيها في الترويكا الحاكمة، حيث عملت  السلطات الجديدة على إعادة إنتاج ثقافة الحكومة السابقة القائمة على السعي والتحكم في الإدارة وتسييرها بمنطق الولاء والمحسوبية والانتماءات الحزبية. ولا يقتصر تحصين الثورة على تكريس مبدأ حياد الإدارة فحسب، بل إنه يتطلب أيضاً تكريس مبدأ استقلالية وحيادية المؤسسة القضائية بشكل كامل عن السلطة التنفيذية، وتجاه الأحزاب السياسية. ويشعر القضاة التونسيون في هذه مرحلة الانتقال  الديمقراطي هذه بعدم الرضا، بعد الإعفاءات الأخيرة التي طالت القضاة على الرغم من هامش الحرية الذي اكتسبه المرفق القضائي إبان الثورة، وإسهام السلطة الجديدة في إضعاف المؤسسة القضائية عبر التعيينات السياسية بامتياز القائمة على أساس الانتماءات الحزبية، والنيل من حيادها، وعرقلة مسيرة القضاء الداعين إلى التوحد والعمل على إرساء قضاء مستقل بعيداً عن التجاذبات السياسية.

وتخوض الحكومة حالياً صراعاً عنيداً مع سلك القضاة لأنهم رفضوا مشروعاً لإقامة هيئة قضائية عليا تُخضع القضاء لسلطة الحزب الحاكم في شكل غير مباشر، وبالتالي تعاود إنتاج نظام بن علي، الذي كان يرأس بنفسه "المجلس الأعلى للقضاء"، لكن بثوب جديد. ومن أجل التعبير عن ذلك الرفض خاض القضاة في الشهر الماضي إضراباً عاماً هو الأول من نوعه منذ الاستقلال وبلغت نسبة المشاركة فيه 100%، حسب قول الكاتب عبد الرؤوف المالكي، في مقاله المنشور بصحيفة الحياة بتاريخ 8أبريل 2013.

يبقى أن أعظم جرائم نظام بن علي السابقة، تقع في الحقل الاقتصادي، و هنا يدور اختبار  أساسي لتحقيق أهداف الثورة، و المصالحة الوطنية، فقد اتضح أن أوساط المال والأعمال مسؤولة جداً عن مساندتها للنظام السابق، وساهمت في تعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء. ومن هنا فإن تحصين الثورة يبدأ ليس بالإقصاء لطرف سياسي، لأن هذا الإقصاء جزء من عملية التطهير الستالينية الشمولية، بل يجب اعتماد ضريبة للنمو، تفرض استثنائياً على الشركات والمداخيل الخاصة، مع مفعول رجعي على أرباح المؤسسات.

ولهذا السبب عجزت حركة النهضة عن مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية  التي تعيشها تونس في زمن ما بعد الثورة، لأنها لا تعرف حاجات الشعب التونسي   الاقتصادية والمعيشية فلم تهتم بها, وأخفقت أيضاً في بلورة خطة حقيقية للتنمية المستدامة تقطع مع نهج التبعية، فحافظت على عقد الصفقات المشبوهة مع الليبرالية الجديدة المتشكلة من نهابي مرحلة بن علي المخلوع، و تركت البلد للأغنياء الذين سبق أن مارسوا جميع أنواع النهب في عهد النظام السابق، واعتمدت على الاستثمارات الأجنبية وعلى السياحة، وعلى ما يرد من دول أجنبية وشركات خاصة دون أن تقدم برنامجاً لعمل الإنتاج الزراعي والصناعي، أو حتى الخدماتي.

وبما أن حركة النهضة الإسلامية لم تكن قوة ثورية في تاريخها، ولم تشارك في صنع الثورة، بل ركبت موجتها، وقطفت ثمارها فقط، فإنها عجزت عن تقديم مشروع مجتمعي جديد يلبي التطلعات والانتظارات للشعب التونسي، ويحقق أهداف الثورة، لذلك حافظت على الأساليب القديمة في القمع، و بدأت تقوض القاسم المشترك والعمومي للشعب التونسي ألا وهو الإسلام المستنير الإصلاحي والمتسامح، لتطرح من خلال تحالفها مع الجماعات السلفية، إسلاماً وهابياً مستورداً من الخليج وبتمويل من بعض دوله، وهذا ما جعل قوى المجتمع المدني التونسي تستنفر للمقاومة وتواجه هذا المسعى الديكتاتوري لحركة النهضة و حلفائها من السلفيين.

بعد سنة من ممارستها للسلطة، لا تزال حركة النهضة الإسلامية التي استغلت الديمقراطية لكي تعبد لها طريق الوصول إلى السلطة، تراوغ في إيمانها بمبادئ الديمقراطية، وترتكب الأخطاء عينها التي ارتكبتها الأنظمة الديكتاتورية في كل من تونس ومصر. فلا تزال حركة النهضة الإسلامية غير ملتزمة ببناء الدولة الديمقراطية التعددية، التي تؤكد على حرية المعتقد، وحرية التعبير، والتظاهر، والتنظيم، وقبول الرأي الآخر، ووجود قضاء مستقل ومحايد ونزيه، وإقرار الفصل بين السلطات لضمان الضوابط والموازين داخل الحكومة، وصياغة دستور ديمقراطي يتضمن مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبعض مبادئ الديمقراطية مثل القضاء المستقل والانتخابات وغيرها، كمرجعية كونية.

تقول الدكتورة آمال قرامي، الأكاديمية والمفكرة تونسية في معرض تحليلها عن  الانحراف في مسار الثورات العربية، وصعوبة الانتقال نحو الديمقراطيّة، في ظلّ سياق اتّسم بالعنف والتأزّم على جميع المستويات: السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة، أن المأزق السياسي يتمثل في "غياب الواقعيّة العقلانيّة إذ تصوَّرَ الحاكمون الجدد أنّ الدولة لا بدّ أن تكون مرتكزة على "المحاصصة" الحزبيّة، تُسيّر بمنطق العصبيّة والغنيمة والولاء لمن حازوا الشرعيّة ومثّلوا الأغلبيّة. فبات الجدل السياسيّ اليوميّ في مصر وتونس مثلاً قائماً على التراشق بالتهم والسبِّ والشتم والسخريّة والتشكيك في صدق النوايا والاستنقاص من قيمة الآخر والرغبة الملحّة في استبعاد كلّ من كانت له صلة تعاون مع النظامين السابقين وكأن مسار الثورة يقتضي التشفّي والإقصاء. ولم يتفطّن المسؤولون عن إدارة الانتقال الديمقراطيّ إلى خطورة التنكّر لوعود قطعوها حين صرّحوا أنّهم سيعملون جاهداً على تحقيق العدالة الاجتماعيّة والعدالة الانتقاليّة ومن ثمّ إرساء الدولة المدنيّة أو دولة المواطنة.

ومع كلّ شهر يتأكّد أنّ الذين يديرون هذه المرحلة فهموا الديمقراطيّة على أنّها إجراء وأداة، وليست ممارسة مبنيّة على تربية حقوقيّة ومنظومة قيميّة، واستعداد جماعيّ لتجسيدها على أرض الواقع والتزام كليّ بتركيز مؤسساتها العاضدة". لكن الشعب التونسي الذي أنجز ثورته، وأسقط الديكتاتورية السابقة، لن يقبل مرّة ثانية باستبدال ديكتاتورية بديكتاتورية أخرى.

اعلى الصفحة