التراث الديني ومتطلبات العصر
التأويل العقلي كطريق للتمكين الوجودي

السنة الثانية عشر ـ العدد 137 ـ ( جمادى الثانية ـ رجب 1434  هـ ) أيار ـ 2013 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تعتبر قضية الدين ومتطلبات العصر، ومدى قابلية الأفكار والمبادئ الدينية الثابتة للعيش والاستمرارية في واقع بشري نسبي متغير على الدوام، من أهم المشكلات المعرفية النظرية التي دارت حولها نقاشات وسجالات فكرية كثيرة ساخنة بين مدارس وتوجهات ومشاريع فكرية نهضوية، من مؤيد ومعارض، أو موافق ورافض لفكرة أن الدين وخصوصاً الإسلام قادر على التكيف مع قيم العصر ومواكبة مختلف تطوراته الفكرية والعلمية والسياسية، والأمر فقط مرهون بمدى وعي علماء الدين المسلمين لقيم وتطورات عصرهم، والعمل على إعادة قراءة أفكارهم ومراجعة قناعاتهم الدينية في ضوء تلك التطورات المتسارعة.

طبعاً، فهم جذر القضية يتطلب الوقوف المتأمل أمام علتها الحقيقية، كما ويحتاج لمقدمة بسيطة مفادها أن الإسلام كرسالة إنسانية سامية وخالدة، هو بالأساس دين خاتم غالب ومهيمن على حياة المسلمين عموماً، ومتحكم -شئنا أم أبينا- بمساراتهم وخياراتهم الحياتية والوجودية بالكامل من حيث القيم والتربية والسلوك والالتزام، من الولادة وحتى الممات، مع اختلاف درجة التأثير والهيمنة بين المجتمعات المسلمة من بلد إلى آخر..

ضمن هذا السياق والمناخ الديني المؤثر، يتبنى الإنسان المسلم مجموعة اعتقادات فكرية دينية تصل إلى درجة التقديس والولاء المطلق لهذا الدين الخالد، الذي انبثقت عنه تلك القيم النظرية المتبناة من الفرد المسلم.. وهذه الاعتقادات الدينية تدفعه دوماً لتبني خيارات سلوكية وطرائق عمل حياتية تنظيمية تعكس تلك الرؤى والبنى الفكرية الدينية.. فمثلاً وحتى لا نحلق في الفضاء بلا وزن، نقول بأن المسلم يؤمن بمرجعية النص المقدس وحاكمية الدين على الحياة كلها، وهو مقتنع بشدة بأن للدين رأيه ودوره في أشد تفاصيل حياته وسلوكه من المأكل والمشرب إلى طريقة ومنهج العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي..

ضمن هذا الإطار نتساءل: كيف يمكن لدين خالد قائم على نصوص مقدسة وآراء تفسيرية وفقهية اجتهادية قيلت في زمن مضى، أن يعكس طبيعة وعي المجتمعات الحديثة، وينسجم مع تطوراتها العصرية المتسارعة؟!!.. هل يكفي الاجتهاد في النص؟ هل يكفي قراءة النص قراءة تأويلية عقلية حاضرة في الزمان والمكان؟..

في الواقع، هناك نوعان من التراث الديني أولهما تراث ثابت ومقدس وهو كلام القرآن ومجمل المبادئ الكلية والأصول العامة المتعلقة بها الممثلة للدين الإسلامي، والآخر تراث ديني متغير غير مقدس يدور ويتحرك في الزمان والمكان، ونعني به مجمل أقوال ونصوص التفسير الديني المتعلقة بالمعاملات والحدود والأحكام المتغيرة، وكل ما يتصل بحركة الإنسان في الواقع في علاقاته وتدبيراته وشؤونه ومعاملاته وفعالياته المتنوعة.. والأصل فيها الحرية والإباحة إلا ما ألحق منها ضرراً بالنفس وبالآخر..

هذا التراث المتغير كما قلت ليس مقدساً إطلاقاً، لأنه قراءة من جملة قراءات متعددة ومتنوعة وعديدة للدين كنص مقدس، وتفسير من جملة تفسيرات للنصوص الدينية الحمالة لأوجه مختلفة.. والقراءات للفكر الديني متنوعة ومتعددة بتعدد أصحابها وقنواتها والبيئة العاملة فيها والمتأثرة بها سلباً أم إيجاباً، لأنها مرتبطة في العمق الفكري والروحي بثقافة ووعي ومدارك الإنسان نفسه، وظروفه وخصوصيات مجتمعه الذي يعيش فيه، ويمارس حياته من خلاله.. أي أن هذه الأحكام التي تصدر من هذا الفقيه القارئ أو ذاك هي لا شك متحركة ومتغيرة بحسب العادات والتقاليد والأعراف والزمان والمكان والثقافة السائدة وغيرها من الارتباطات المحدودة..

والإنسان بالطبع كائن أرضي نسبي يتطلع دوماً للمطلق وللكمال الممكن له.. لكنه محدود الوسائل والإمكانيات والقدرات، وهو لا يعيش في المطلق المجرد بل في الواقع الأرضي النسبي المحدود والمنمط.. والأديان جاءت لخدمة هذا الإنسان في هذا المجال للمساهمة في تمكينه، ولتحسين شروط وجوده على الأرض، من خلال مساعدته على تحقيق وإقامة العدل وسلوك طريق الخير والصلاح والرشاد الروحي والمادي.. وهكذا فكل تلك المعاملات والحدود اسمها "شريعة" وهي متغيرة.. أما الدين بمبادئه الكلية فهو الثابت، كمبدأ العدل والحرية والمساواة والخير.. هذه الكليات إذاً لا تتغير ولا يجري عليها قانون التبدل والتغير والنسبية مهما دار الزمان والمكان لأنها ترتبط بالمطلق، ولكن تجلياتها وتمثلاتها على الأرض هي المتغيرة..

وهنا تكمن أهمية العقل في الاجتهاد والتشريع والبناء والتطوير، حيث ذكر القرآن كلمة العقل، والتعقل والتدبر والبصر والإدراك والبصيرة والتفكر و..و..و..الخ، مئات المرات في كتابه الكريم.. وهنا تحضرني كلمة أو حديث مهم للرسول الكريم(ص) بما معناه: "إن لله على الناس حجتين، ظاهرة وباطنة، فأما الحجة الظاهرة فهم الأنبياء، وأما الحجة الباطنة فهي العقل".. فالأنبياء رسل الله من الخارج، والعقل رسول الله من الداخل.. فهل نحن بمستوى أهمية هذا الحديث؟!!.. وعندما لا يكون هناك رسل أو أنبياء.. ماذا نفعل؟!! وأين هي عقولنا ومداركنا؟! هل استفدنا منها ولو بنسبة واحد بالمائة؟!! أو أننا ربما أعطيناها إجازة مفتوحة للراحة والسكون والعطالة شبه الأبدية.. انظروا إلى واقعنا العربي والإسلامي عموماً!! إنه واقع اللاعقل واللاتفكير، واقع الفوضى والخراب الفكري والبؤس العلمي للأسف.. نحن نعيش في مجتمعات تتعب بسرعة، وتشتكي بسرعة، وتقف عند أول عقبة بسيطة في طريق العمل والتغيير والبناء الصحيح المتوازن..

من هنا، وحتى يكون واقع المسلمين حالياً ومستقبلاً هو واقع العمل والإنتاج والفاعلية الحضارية، وواقع الحضور المنتج والمؤثر في هذا العالم الذي لا يقدر ولا يحترم غير المستقلين الأقوياء والأكفاء، فإن أحوج ما تطلبه أوطاننا وبلداننا - في مواجهة متغيرات وتحديات العالم كله، وقد أصبح المتغير هو الثابت الوحيد فيه - هو العمل على إدارة هوياتنا وأفكارنا وثرواتنا وعلاقاتنا بالعالم بابتكار أفكار وسبل عيش جديدة من الصيغ والمهام أو الطرق للتمكين والفاعلية والحضور.. أما ثقافة التقديس الأعمى لطروحات نصية قديمة غير قابلة للاجتهاد والمفضية حتماً إلى بروز أكبر وأعلى لثقافة وفكر التطرف والعنف والتعصب والكره والخوف والعداء والصدام والقتل والانشداد إلى الوراء وعبادة الأسماء والأفكار والرموز، فمآلها الحتمي عربياً أو عالمياً هو تفخيخ العلاقات بين البشر، والانتقال من مأزق إلى آخر، ومن صدمة إلى أخرى، ومن خسارة إلى خسارة أكثر فداحة.

ولا شك أن المدخل لذلك كله هو تثمير علاقتنا مع التراث المتغير وقراءته عقلياً في ضوء التراث الثابت الذي أعطى للمجتهد مساحات واسعة لا حدود لها للتحرك العقلي والعلمي وإعادة فتح مغاليق التراث الديني المهيمن والمتحكم بالفكر والسلوك، والذي يدور في كثير من معالمه ومناحيه وفقاً لتعاليم قديمة أو تأويلات دينية مستحدثة غير واقعية وغير صحيحة وغير مفيدة، وربما تحد من قدرة وفاعلية الناس والأمة على العمل والإبداع، بحيث يركز أصحاب تلك الخطوط القديمة بصورة دائمة على قضايا التحليل والتحريم الضيقة مع نسيان شبه كلي لمجال السلوك الاجتماعي الواسع.

وتزداد حالياً أهمية الحديث عن قضية التراث الديني وأهمية الاجتهاد فيه، وحيوية إجاباته العملية على تحديات ومتغيرات التنوير والحداثة العقلية في ظل ما أفرزه واقع ما يسمى بـ"ربيع الثورات العربية" من هيمنة التيارات والخطابات الدينية والسلفية، وتحكمها بمستقبل كثير من تلك الدول العربية التي نجحت فيها الثورات، وعقدت فيها انتخابات ديمقراطية أشادت بها حتى الدول الغربية، على الرغم من كونها أدت إلى فوز الحركات الدينية المؤدلجة بغالبية مقاعد البرلمانات والمجالس.. الأمر الذي يدفعنا كمثقفين للتأكيد مجدداً على أهمية النقد والمساءلة والمحاسبة الفكرية والعقلية للفكر والنقل والتراث الحاكم، وإعادة طرح هذا السؤال التنويري على شكل وصيغة قابلية الإسلام ـ كدين إنساني عالمي ـ ليكون ديناً قابلاً للعيش والتأثير الوجودي كدين ورسالة خاتمة خالدة في ظل تسارع المتغيرات والتطورات الهائلة!؟.. وهل يقبل دعاة ورموز الفكر الإسلامي بفتح المجال السياسي العام - بكل ما يترتب عليه من طروحات ومفاهيم وأحزاب وتنظيمات وحقوق- أمام المناقضين لهم فكراً وعقيدة وسلوكاً حتى لو كانوا ملحدين؟!!، وهل يقبل الإسلاميون بفكرة الدولة المدنية العلمانية (الحيادية تجاه الأديان والعقائد) والتي تقوم على فكرة "الإنسان ـ الفرد" الحر في وعيه وسلوكه وخياراته الفكرية والسياسية والعقيدية، وغير الخاضع سوى للإرادة العامة المتمثلة في القانون المدني "العلماني" العام الناظم لحركة الدولة والمجتمع؟!..

حتى الآن لم نجد إجابات ودراسات وطروحات نقدية عقلانية واضحة وصريحة تناقش وتبحث بعمق تلك المحاور المهمة للإسلام وللأمة الإسلامية..

ولا بد بداية من أن نشير ونؤكد مجدداً ونذكر دائماً بأن ما قصدناه وعنيناه وما نقصده دوماً من كلمة الدين هنا، هو المعرفة الدينية البشرية التي درست وحللت وفسرت وأولت نصوص دينية واجتهدت في فهم نصوص الدين، وحاولت تقديم أنماط تفكيرية محددة للوعي الديني أفكاراً وسلوكاً.. ولم نقصد من الدين تلك المعرفة الذاتية والتجربة العرفانية الحرة الخالصة والخاصة بكل شخص في طبيعة فهمه ووعيه الذاتي لطبيعة العلاقة والتجربة الروحية الخاصة بينه وبين خالقه..

من هنا نعتقد بأن تحديات الحداثة وأسئلة التنوير تفرض علينا - في سياق المساهمة في مجال ومناخ العمل على تطوير مجتمعاتنا فكراً ومعرفةً وإنتاجاً مؤثراً- امتلاك أجوبة عملية واضحة ومحددة ومؤطرة ومتفق عليها بين النخب والتيارات والقوى القائمة، بهدف بلورة وتكوين وعي علمي ومعرفي وتوافقات مشتركة بين كل تلك الاتجاهات العاملة على الأرض، لأن غياب الإرادة المجتمعية الحرة الجامعة أو على الأقل إقامتها على القسر وعدم التوافق بين الجماعات السياسية القائمة لن تحقق أية غاية نبيلة في بناء وتطوير مجتمعاتنا العربية على أسس ومعايير سياسية وثقافية جديدة قد تمكننا من الإجابة العملية على أسئلة العصر وتغيراته المتواصلة..

وها هي بلداننا العربية التي نجحت فيها ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي" تعاني من إرهاصات ومخاضات عسيرة تتمظهر أمامنا من خلال عدم وجود حد أدنى من التوافق السياسي والمجتمعي الحر الصحيح المطلوب للبدء ببناء تلك الدول من جديد، وكأن الاستبداد الذي أعطى المواطن الاستقرار ونزع منه الحرية بات أفضل عند إنساننا لأنه يفضل الاستقرار على قيمة الحرية، مع أن سيئات وشرور الحرية أفضل من كل إيجابيات وحسنات الاستبداد إذا كان للأخير إيجابية واحدة أصلاً..

وهكذا نلاحظ في كل تلك الدول أن كل تيار لا ينفك يشد الحبل نحوه، وكل حزب يدعي امتلاك ناصية الإجابة النهائية والتامة على أسئلة الواقع وشؤون المجتمع، وهذا كله يؤثرـ بلا شك ـ على عدم بلورة خيارات والتزامات سياسية ومجتمعية واضحة خاصة على صعيد عدم تكوين وعي حقيقي مشترك لمفهوم الدين وقضية إدخاله في الحياة والعصر والحداثة الكونية..

وعلى هذا الصعيد يعاد بين وقت وآخر طرح قضية قبول الإسلام لفكرة المدنية والتعددية السياسية كقضية فكرية وسياسية ومجتمعية، أو كاتجاه فلسفي اجتماعي، بما تتضمنه من إعلان نهائي وحاسم لانتصار العقل على التقاليد، واعتبار أن مصدر السلطة (والسياسة عموماً التي تعني إدارة الشأن العام، وفصل الخصومات بين الناس، وبناء المجتمعات على أسس الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من القيم الإنسانية) واقع هنا في هذا العالم الأرضي النسبي وليس في العوالم الخفية (الدينية وغير الدينية) الأخرى..

الإشكالية تكمن هنا أساساً، في موافقة الدين الإسلامي (أو عدم موافقته) على وجود سلطة تدعي لنفسها العصمة والتأييد اللاهوتي، وعدم الخطأ، وتصادر على البشر والمجتمع حرياتهم وكراماتهم وتتحكم في مصائرهم ووجودهم على الرغم من أن الخالق نفسه قد منحهم نعمة العقل والتفكير وأودع فيهم عنصر الإرادة والقرار، وأعطاهم القدرة على تمييز الخطأ عن الصواب، ما يعني أن الدين عموماً يقف في جانب إعطاء الناس خياراتهم العملية الحرة ـ بما فيهم من آلة تفكير ووعي وعقلنة ـ لبناء حياتهم وإدارة مختلف شؤونهم وأنظمتهم الوجودية السياسية والاجتماعية وغيرها..

من هنا اعتقادنا أن الإسلام ـ كما نفهمه وأكدنا عليه في السابق، من حيث أن فيه تراثين، تراث الشريعة الذاتية كما هي في نصها المقدس الأصلي، وتراث الفهم والوعي البشري لها، الذي هو عبارة عن معرفة بشرية في حالة تجدد وسيرورة وتطور زماناً ومكاناً بالنظر لتطورات وتغيرات الحياة والعصر ـ لا يعيش مشكلة أو أزمة معرفية كبرى تجاه العلمنة كفكرة سياسية أو حتى كاتجاه فلسفي، لأنه هو نفسه يتحرك على منحى العلمانية من حيث أنه يؤيد خيارات البشر، ويرفض احتكار السلطة لأحد تحت أي مسمى كان، ولا يتبنى "التراتبية الاكليروسية" الدينية المعروفة.. ولا يحصر الحكم ـ بجميع مستتبعاته ـ في اتجاه أو طبقة محددة..

وقد وجدنا أنه ـ في كل تاريخنا الثقافي العربي والإسلامي ـ لم تتكرس حالة طبقية خاصة برجالات الدين، متفردة زماناً ومكاناً، ومشرعنة بشرعية النص الديني، بل كل ما كان هناك هو علماء دين يفسرون النصوص، ويشرحون الأحاديث، ويقدمون الفتاوى، فيخطئون فيها ويصيبون، ويتصرفون في الواقع من حيث أنهم أفراد مندمجون في واقعهم، وليسوا كفئة صاحبة امتياز "بطركي" خاص، على الرغم من بعض مظاهر تلك الحالة الدينية الأرثوذكسية المتناثرة في داخل اجتماعنا الديني هنا وهناك، ولكنها حالات نادرة يغلب عليها الطابع الذاتي لا العام، وهي محصورة كماً ونوعاً..

وعندما يقول البعض بأن هناك أوامر وإلزامات نصية دينية (أحكام وقواعد شرعية) تجبر المسلم على الخضوع لها، وقد تكون على نقيض التزاماته الواقعية (المدنية) المتجددة الأخرى، فهذا لا ينتقص من فكرتنا حول مدنية وتعددية الإسلام، لأن الفرد الملتزم بالدين عندما يتبنى رأياً دينياً معيناً حول أمر ديني محدد، فإنه يتبناه بإرادته ووعيه واختياره، من دون فرض أو قسر أو إكراه من أحد، حتى من الدين ذاته، خصوصاً عندما ينتهي هذا التبني الحر - تجريبياً وواقعياً- إلى النجاح المنشود.. وهذا لا يضر أصلاً بالقانون المدني المفترض أنه يقود حركية الدولة، وهو يشبه حالة أن تختار أو تتبنى دولة أو أمة ما دستورها الناظم لشؤونها المتنوعة لتعمل بموجبه في الحياة من دون أن يتبنى هذا النص الدستوري إنشاء طبقة تختص بالقداسة تتحصن وراء أو تحت سقف الدستور..

إن المدنية والإسلام يلتقيان في فكرة الحرية والاختيار الفردي الحر، بالرغم من وجود نصوص دينية ـ غير محكمة ـ عديدة توحي بعكس ذلك عندما يتم تفسيرها وتأويلها من قبل كثير من علماء الدين المنتفعين والمتكسبين على هذا النحو القدري الجبري، بهدف الإبقاء على حالة "الأصالة الدينية" و"صفاء الهوية النقية" المزعومة، والتي لم تجد لها أصداء قوية في الواقع العربي المجتمعي العام.. حيث أن العرب والمسلمين مندمجون كلياً في حداثة العصر، ولو من باب تبني حداثة الشكل دون حداثة المفهوم والنسق الثقافي والفلسفي الحضاري، فهذا الأخير يحتاج إلى وقت طويل، ودونه مراجعات نقدية وحفريات معرفية عسيرة.. المهم أن اجتماعنا الديني بدأ يتغير سياسياً لتبني خيارات سياسية تقوم على فكرة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وهذا أمر حيوي وتطور نوعي كبير للغاية.. يجب التأسيس الجدي عليه.. ومرده أساساً إلى حالة الانفتاح على تيارات الغرب الثقافية والسياسية المعاصرة، والتفاعل الكبير الذي نجم عن احتكاك كثير من نخب ومفكري الحالة الإسلامية مع واقع الغرب السياسي والفكري الحديث، ورؤيتهم عن كثب للنجاحات الباهرة التي حققتها تجربة الغرب "العلماني" الأوروبي والأمريكي على صعيد العلم والتجربة والتقنية والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مقارنةً بالطبع مع تأخر مجتمعاتهم وتخلفها وارتكاسها الحضاري الكبير..

وعندما نقول بأن الدين الإسلام هو دين مدني بالضرورة، وأنه يقبل الآخر المختلف عنه بل والمناقض له في السبيل والتوجه والسلوك، فنحن نستند أساساً على مقولات ونصوص دينية نهائية تعتبر أن الحرية هي خيار الناس وحقهم الأساسي في الإيمان والكفر، وهذا من أهم حالات الاختيار الذاتي الفردي..

قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف: من الآية 29)، ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(القصص:56)، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: من الآية11)، حديث النبي الأكرم(ص): "الناس أدرى بشؤون دنياهم".. حديث الخليفة عمر: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".. الخ..

من اعتقادنا الجازم بأن بواعث النهضة العربية والإسلامية الأساسية المطلوبة على مستوى الذات والموضوع، لن تشتعل من جديد إلا بإعادة الاعتبار لسؤال وفكرة وقيمة الحرية ذاتها باعتبارها قمة القيم الدينية.. وإذا ما حدث هذا النهوض من دون فكرة وقيمة الحرية - وهو لن يحدث - فلن يتعدى حدود إثارة الصراعات، وإيقاظ الهويات النائمة المغلقة قومياً وعرقياً ودينياً..

إن الإسلام هو الدين والرسالة الإنسانية الخاتمة كما تقول نصوصه الدينية، والإنسان هو الغاية من وجود هذا الدين، وهو المقصد النهائي، ولهذا لابد من وعي وتكييف نصوصه لصالح مقاصد هذا الإنسان الكبرى في حفظ النفس والكرامة والحرية والوجود الفعال والمنتج، وتمكين وجوده المؤثر السعيد على أرض الخلافة البشرية.

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة