ما بين حساب الحقل وحصاد البيدر
إسرائيل واستحقاقات الفوضى الإقليمية

السنة الثانية عشر ـ العدد 137 ـ ( جمادى الثانية ـ رجب 1434  هـ ) أيار ـ 2013 م)

بقلم: مأمون الحسيني(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

ما رشح عن بعض المصادر الاستخبارية الإسرائيلية حول مباحثات الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومضيفه بنيامين نتنياهو، بخصوص الوضع السوري الذي تشير التطورات المتسارعة الأخيرة ـ بما في ذلك إعادة تفعيل التحالف التركي- الإسرائيلي، وقرارات العسكرة والتصعيد الصادرة عن القمة العربية التي قررت منح مقعد سوريا في الجامعة العربية إلى بعض أطراف المعارضة السورية، ورفع منسوب التصعيد في العراق ـ إلى أنه مرشح للبقاء في دوائر العنف الدموية الشرسة فترة إضافية بعد عودة الولايات المتحدة إلى خططها القديمة.

ما رشح عن هذه المصادر يفيد بأن أوباما قدم مقاربة حذرة جدا فيما يتعلق بالتدخل الأمريكي في شؤون سوريا الداخلية، وأن الجانبين (الأمريكي والإسرائيلي) اتفقا على عدم التدخل في هذا البلد، وعدم اتخاذ أي خطوات لها علاقة بتطورات الموقف هناك، كون الأزمة السورية، حسب أوباما، مشكلة الأسرة الدولية برمتها، ولا تمس الولايات المتحدة وإسرائيل فقط، فضلا عن رفض روسيا والصين إقرار أي عمل ضد دمشق، وذلك في مقابل تخصيص أموال أمريكية إضافية لتمويل المنظومات الإسرائيلية لاعتراض الصواريخ، وخاصة "القبة الحديدية"، والبدء بمداولات لتمديد وتوسيع المساعدات العسكرية إلى الدولة العبرية لمدة 10 سنوات أخرى بعد أن ينتهي الاتفاق الحالي الساري المفعول، والمتوقع أن ينتهي عام 2017.

التباس وتمويه وخداع

على أن الملفت في هذا "النأي (اللفظي) بالنفس" الذي يعيد إلى الذاكرة "ضبط" الأمريكيين لإسرائيل وإجبارها على عدم القيام بالرد على الصواريخ العراقية خلال الغزو الأمريكي للعراق بداية التسعينات، ومنعها من توجيه أي ضربة عسكرية لإيران قبل عدة أشهر، هو أنه يخفي في طياته قدراً كبيراً من الالتباس والتمويه والخداع، ليس فقط بسبب تناقضه مع واقع الحال الذي يدب على الأرض، وإنما كذلك لحجبه الخطط والسيناريوهات التي تترجم في الجبهة السورية- الإسرائيلية تحت حجج وذرائع مختلفة، لعل أبرزها الزعم بأن الجيش السوري قام بسحب قواته من المناطق المتاخمة للجولان المحتل، مفسحاً المجال لمجموعات المعارضة المسلحة، بما فيها "جبهة النصرة"، بملء الفراغ، وارتفاع منسوب الخشية من أن تتحول منطقة وقف إطلاق النار والمنطقة الحدودية التي تنوي الدولة العبرية إقامة حزام أمني عسكري فيها، مماثل لما فعلته في جنوب لبنان، وأن تقام منطقة شبيهة بالمنطقة الحدودية مع مصر التي شهدت عمليات ضد أهداف إسرائيلية من جانب تنظيمات متطرفة، ولاسيما في ظل تزايد المؤشرات على إمكانية سحب قوات جنود الأمم المتحدة (أندوف) بعد حادثة اختطاف عناصر قوات حفظ السلام الفيليبينيين، والخشية كذلك من "تدحرج القدرات الإستراتيجية السورية الهائلة إلى المنظمات الإرهابية"، وفق ما جاء على لسان رئيس الأركان الإسرائيلي بيني غانتس أمام مؤتمر هرتسليا، والذي أعاد التأكيد أمام قادة الجيش الإسرائيلي، قبل نحو أسبوعين، بأن "أربعة عقود من الهدوء على الحدود الإسرائيلية السورية في هضبة الجولان قد انتهت"، في إشارة إلى استمرار سقوط قذائف من الجولان على الحدود بين سوريا والكيان الإسرائيلي.

على هذه القاعدة، وعلى الرغم من تقدير العديد من المحللين الإسرائيليين بأن الدولة العبرية تجد الوضع القائم حاليا في سورية يصب في مصلحتها، ترفع تل أبيب من وتيرة تهديداتها لسوريا وتحميلها مسؤولية أي تهديد لما تسميه "الحدود"، وفق ما جاء على لسان وزير الحرب الجديد موشيه يعالون، كما تحث الخطى لمواجهة ما تسميه "الخطر المقبل من سورية"، وعدم الاكتفاء برزمة الإجراءات المتخذة، بما في ذلك استكمال بناء ستة وتسعين كيلومتراً من الجدار الأمني، خلال أسابيع، مع نصب معدات رقابة ورادارات متطورة لمراقبة المنطقة، وإخلاء مساحات شاسعة من المناطق الحدودية من الألغام القديمة واستبدالها بأخرى جديدة، وبتجاوز المنطقة الحدودية، سواء لدوريات الجيش أو المدرعات، وإنما كذلك الإعلان، وبشكل واضح، عن سلسلة من الخطوات المستقبلة التي بدأت بحشد قوات عسكرية ضخمة في المواقع المتقدمة على جبهتي الجولان السورية، تحت ذريعة منع تدفق لاجئين سوريين إلى الجولان المحتل، أو وقوع هجمات وعمليات ضد أهداف إسرائيلية تنطلق من الحدود السورية، وفي مزارع شبعا اللبنانية، واستحداث بوابة عند نقطة القنيطرة، إلى جانب باحة صغيرة جهزت بمنازل جاهزة وخيم، تحت ستار تقديم المساعدة للمدنيين السوريين والمصابين خلال الأحداث الجارية في سوريا، وتكثيف التدريبات المتعلقة بكيفية إدارة معارك خلال اثنتين وسبعين ساعة متواصلة يقوم خلالها الجيش بتزويد سلاح المدرعات بمعدات قتالية غير اعتيادية.

وعلى نحو مواز، أعلن قبل أسابيع، عن إنشاء الجيش الإسرائيلي كتيبة جديدة لجمع المعلومات القتالية، وهي جزء من منظومة شاملة لحماية الحدود مع سوريا، والمساهمة في حماية باقي الجبهات. وحسب صحيفة "إسرائيل اليوم"، فإن الكتيبة الجديدة ستشكل جزءا من منظومة جمع المعلومات القتالية، التي كانت تُسمى "الاستخبارات العسكرية الميدانية"، وستستخدم وحدات الرصد فيها منظومة متعددة المجسات هي الأكثر تقدما في الجيش الإسرائيلي.

ويأتي تشكيل هذه الكتيبة ضمن خطة لإنشاء كتيبتين جديدتين خلال عام ونصف العام، وهو ما يعتبر أمراً نادراً في الجيش الإسرائيلي، ولاسيما حيال هذا النوع من هذا النوع من التشكيلات التي باتت تسند إليها مهام جديدة أبرزها في قيادة الجبهة الخلفية وفي منظومة الدفاع الجوي وخصوصاً بطاريات صواريخ القبة الحديدية.

"حزام أمني" وغطاء أمريكي!

أما الأهم والأبرز في هذه الإجراءات التي يؤكد مسؤول إسرائيلي أن الإدارة الأمريكية، التي أكدت جولة أوباما في المنطقة أنها ما زالت ترى في إسرائيل كنزاً استراتيجياً يمنحها قاعدة مستقرة في شرق أوسط غير مستقر، والقوة الإقليمية الصديقة التي ستحمي مصالح أمريكية حيوية معرضة للخطر، ستتغاضى عنها، كونها تشكل رادعاً لـ "القوى المتطرفة" التي ربما "تعتدي" على إسرائيل، بعد تسويق وبلورة فكرة أن سوريا أصبحت "دولة فاشلة" غير قادرة على الوفاء بتعهداتها الدولية، وتالياً حصول إسرائيل على غطاء دولي للقيام بأعمال عسكرية داخل الأراضي السورية تحت حجة منع "الفوضى السورية" من المس بمصالحها الأمنية الحيوية.

الأبرز في الإجراءات هو البدء بإقامة "حزام أمني عسكري" في المناطق التي تتواجد فيها قوات الـ"اندوف" المرشحة للرحيل، أي اجتاح القوات الإسرائيلية المنطقة السورية التي لم تكن مدرجة سابقا ضمن ما يسمى "المناطق الخطرة" واحتلال جزء جديد منها في الطرف الشرقي من الجولان، وإنضاج فكرة تكرار إنشاء "الجدار الطيب" على الحدود مع سوريا، على غرار الجدار الذي أقامته أيام ميليشيا سعد حداد خلال السبعينات والثمانينات في جنوب لبنان.

أما الهدف الأساس لهذا "الحزام الأمني العسكري" الذي أكد قائد القيادة الشمالية في الجيش الإسرائيلي الميجر جنرال يئير جولان الذي يشرف على قوات الاحتلال في الجبهتين السورية واللبنانية، أن كيانه، وبالتعاون مع من أسماهم "الحلفاء الطبيعيين من السوريين"، لن يتردد في إقامة هذا الحزام "بحكمة وسرية"، فهو امتلاك ورقة داخل معادلة الميدان السوري، وتحويل هذه المنطقة، بالتدريج، إلى أرض محتلة تعرض تل أبيب التخلي عنها لاحقاً في إطار "تسوية أمنية" وليست "سياسية" مع دمشق، قوامها الانسحاب "من الشريط" وليس "من الجولان".

وكان التلفزيون الإسرائيلي قد أعلن صراحة، أوائل الشهر المنصرم، عن اهتمام قادة الكيان بإنشاء منطقة عازلة تمتد إلى عمق 15 كيلو متراً في الأراضي السورية التي لا تزال غير محتلة، كما أشار إلى تأكيد هؤلاء على أهمية إنشاء مثل هذه المنطقة لضمان أمن إسرائيل، حسب مزاعمهم، ما يظهر إلى السطح بعض ما يجري التخطيط له على مستوى إقليمي ودولي بشأن مستقبل سورية. ولعل هذا ما يفسر، وبشكل شفاف، ذلك الاستعجال لحل المشكلة التي كانت قائمة بين إسرائيل وتركيا، وتراجع الجانبين عن تعنتهم ومعظم شروطهم السابقة. إذ أن ما يجمع المصالح التركية والإسرائيلية، تحت خيمة الإستراتيجية الأمريكية الصاخبة لفرض الخريطة الطائفية والمذهبية والإثنية في "الشرق الأوسط الجديد"، في سورية أكبر من مجرد إسقاط الرئيس السوري، فإسرائيل تريد تكريس احتلالها للجولان عبر ضم أراضٍ سورية جديدة يصبح الانسحاب منها مطلباً يفرض تسوية يتم معها نسيان مشكلة الجولان، ويفرض إسرائيل طرفاً مقرراً في الشأن السوري. وتركيا لا تخفي أطماعها في سورية وهي التي استحوذت على لواء الإسكندرونة السوري وفرضت على سورية التنازل عنه، وهي التي عينت والياً للأراضي السورية الشمالية.

وعلى السكة ذاتها، سكة المستوى السياسي الذي تعمل إسرائيل على بنائها، يشير معلق الشؤون السياسية في صحيفة "هآرتس" ألوف بن، إلى أن إسرائيل عززت من تحالفها مع الأردن الذي يتمتع بحدود أطول بكثير مع سوريا ويؤكد أيضاً أن اللقاءات بين الملك الأردني عبد الله الثاني ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تعقد في هذه الأثناء سراً، ويعللها الأردنيون بالجمود السياسي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. ويشير بن إلى أن الطرفين الإسرائيلي والتركي بررا الاعتذار في قضية مرمرة بالخوف المشترك من الوضع في سوريا، إلا أن ذلك لم يترجم حتى الآن إلى خطوات عملية للتعاون الأمني. ويكشف بن، كذلك، عن أن الإجراء الأكثر جرأة هو "إنشاء تواصل مع فريق من المتمردين بهدف ضمان وجود من يمكن الحديث معه في سوريا، في حال سقوط النظام، لتجنب خيار التورط العسكري".

في المقابل، وفي حال لم تكن هذه الإجراءات كافية، يشدد بن على أن إسرائيل قد تجد نفسها أمام واقعين: تحقيق هدوء وردع من دون اجتياح واحتلال أراضٍ وراء الحدود، أو تدهور الوضع إلى مواجهة عسكرية واسعة. لكن الجيش (الإسرائيلي)، بحسب مزاعم بن، ليس لديه توق كبير لإنشاء "شريط أمني" في الجولان السوري، بل يُفضل العثور على قوة محلية تُغلِّب الهدوء على الأرض وتحبط أي عملية إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل. ويختم بالتقدير، الذي قد يكون مستنداً إلى معطيات من دون أن يشير إلى ذلك، أن هذه القضية هي محور المحادثات الثلاثية الإسرائيلية الأمريكية والأردنية، والتي يرجح أن يكون لها علاقة، كذلك، بما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" حول تسريع واشنطن وعمان لعمليات تدريب نحو 3 آلاف من أفراد ما يسمى "الجيش الحر" بهدف إقامة منطقة عازلة في الأراضي السورية التي يتواجد فيها المتمردون على الحدود السورية- الأردنية

عام الصراعات المتفجرة

في موازاة كل ذلك، وعلى إيقاع تسييج الحدود مع سوريا ولبنان ومصر، ونصب بطاريات منظومة القبة الحديدية ومنظومات إنذار من القذائف والصواريخ "تسيفع أدوم"، والعمل المتواصل على تحصين الجبهة الداخلية، وإطلاق سيل من التهديدات المشفوعة ببعض القذائف الصاروخية ضد مواقع سورية محاذية للجولان المحتل، وشن بعض الغارات على قطاع غزة، يرتفع منسوب التدريبات العسكرية الإسرائيلية على اجتياح جنوب لبنان الذي نقل جيش الاحتلال مركز اهتماماته الأمنية وقواته في الجبهة الشمالية نحوه، انطلاقاً من عوامل ومعطيات وتقديرات استخبارية عدة، لعل أبرزها تغيّر وجه الشرق الأوسط وطبيعة مخاطره، والافتراض بأن الاستقرار الذي وسم العقود الأخيرة في ظل النظام العربي الذي كان قائماً انتهى وحل مكانه غموض يتسم بانعدام اليقين تحت ظلال التحولات الإستراتيجية غير المتوقعة، وأن الهدوء المحيط بـإسرائيل، كما يرى شمعون شيفر في "يديعوت أحرنوت"، مجرد "وقت مستعار"، ما ينذر بانتهاج سياسة عسكرية جديدة إزاء الأوضاع غير المستقرة في المنطقة العربية المحيطة بالكيان.

وحسب تقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فإن العام الحالي 2013 سيكون عام الصراعات المتفجرة، وسيكون "الشرق الأوسط" قابلاً للاشتعال؛ نتيجة أربعة صراعات أساسية يمكن أن تُحسم خلال العام المقبل: الأزمة النووية الإيرانية، والحرب في سورية، والصراع على السلطة في مصر، والصراع الأوسع على صورة العالم العربي، الذي يتفرع عنه عدد من الصراعات الثانوية، مثل الصراع ما بين الأنظمة القديمة والمعارضة، وبين الراديكاليين والمعتدلين. وبالإضافة إلى ذلك كله، ليس واضحاً كيف سيتطور الوضع في الضفة الغربية المحتلة، وإن كان الهدوء النسبي، الذي ساد في الأعوام الأخيرة سيتواصل.

وفي ما يخص سوريا، أكدت بعض التقديرات التي أشارت إليها الصحافة الإسرائيلية، أن إسرائيل تجد الوضع القائم حالياً في سورية يصب في مصلحتها، لاسيما بعد تبدد مخاوف قادة جيش الاحتلال من إقدام الجيش السوري على هجوم مباغت في الجولان, ووفقاً للعديد من التقارير الإسرائيلية، فإن جهاز الأمن ينظر إلى الوضع في سورية حالياً، على أنه "ساحة صدام بين معسكرين، تماماً مثلما استـُخدمت فيتنـام كسـاحة صراع بين الاتحاد السوفييتي(السابق) والولايات المتحدة في ستينات القرن الماضي". و"مثلما حدث في تلك الفترة، فإن جهات دولية عدة ضالعة في الصراع السوري الداخلي، ويبدو أن الولايات المتحدة والغرب يؤيدون بشكل كبير قوات المتمردين، التي تشمل مزيجاً كبيراً يضم أكثر من 90 تنظيماً، وبينها تنظيمات كثيرة تتماهى مع أفكار الجهاد العالمي، بينما يستمد النظام السوري دعما مكثفا من روسيا وإيران وحزب الله، ودعماً سياسياً صينياً".

وتخلص هذه التقديرات إلى أن ما تسميه "الحرب الأهلية في سوريا" تدل على "أن فترة دامت أكثر من 20 سنة كانت فيها الهيمنة الأمريكية العالمية مطلقة، قد انتهت، والمشكلة هي أن دعم الدول العظمى لطرفي الصراع يؤدي إلى تعادل في الحرب الأهلية التي قد تستمر لفترة أخرى". فضلاً عن ذلك، ثمة خشية، وفق ذات التقديرات، من "تعاظم قوة "حزب الله" العسكرية، وانتقال الكثير من أسلحة النظام (السوري) التقليدية وغير التقليدية إلى أيدي الحزب، كما إلى أيدي تنظيمات متطرفة لا تبدي كثير اهتمام "بستاتيكو النظام"، الذي امتازت به بداية فترة حكم (الرئيس) الأسد الأب، وصولا إلى حكم الرئيس بشار الأسد".

إشعال حرب أم تسعير فتنة داخلية؟!

ومع ذلك، لا يبدو أن الحراك الصاخب المتجول في المنطقة قد غيَر، بشكل حاسم، أولوية المواجهة مع "حزب الله" لدى القيادة الإسرائيلية، وذلك بسبب تزاوج عاملين أساسيين: الأول، تعاظم قوة الحزب، وامتلاكه، وفق المصادر الإسرائيلية المختلفة، عشرات آلاف الصواريخ التي تصل إلى كل نقطة في فلسطين المحتلة تقريباً، بما في ذلك المطارات والموانئ ومحطات الكهرباء وكافة مفاصل البنى التحتية، ناهيك عن مفاعل ديمونا النووي في النقب. وحسب تقديرات المحللين العسكريين الصهاينة، فإن إستراتيجية "حزب الله" القتالية لم تعد تقتصر على الدفاع الصرف، وإنما باتت تنطوي على مقومات هجومية، ومواجهة الجيش الإسرائيلي في المناطق المأهولة، والاستعداد فوق الأرض وتحتها لمواجهة أي عدوان، واستخدام ما يزيد عن 65 ألف صاروخ يملكها الحزب، ويوزعها في حوالي 180 قرية وبلدة في الجنوب اللبناني. وهو ما دفع وزير الحرب الجديد موشيه يعالون إلى التوقع بأن المعركة القادمة، "على الجبهة الشمالية"، ستكون طويلة وذات سيناريو مختلف تماما عن الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل في لبنان.

العامل الثاني له علاقة بعدم جدية مؤشرات التصعيد عسكرياً على أي من الجبهات الأخرى، وتراجع احتمالات مبادرة أي جيش عربي لمهاجمة إسرائيل، وفق التقديرات الاستخبارية، حيث أن الجبهة السورية التي تشهد توترات موضعية لها صلة بمحاولات دفع قوات "الاندوف" إلى الرحيل كتوطئة لاندفاع جيش الاحتلال إلى ابتلاع المزيد من الأراضي تحت مسمى "الحزام الأمني"، غير مرشحة للتصعيد الذي يلامس بوادر الحرب. وكذلك الأمر بالنسبة لجبهة غزة التي لا تبدو، مرحلياً على الأقل، ضمن خطوط التوتر العالي، انطلاقاً من الحرص الإسرائيلي على اتفاق وقف "الأعمال العدائية" الموقع مع "حماس" والفصائل الفلسطينية، وعلى عدم وضع تعقيدات إضافية أمام حكم "الإخوان المسلمين" في مصر، فضلاً عن أخذ تل أبيب في اعتبارها انخراط حركة "حماس" في مشروع "الإخوان" العالمي، وهرولتها نحو التموضع في محور القوى المسماة "معتدلة".

أما بخصوص جبهة الحرب المحتملة مع إيران، فتبدو خارج الأولويات والحسابات الراهنة، ليس فقط بسبب تعقيدات المشهد العربي ومآلاته المفتوحة على احتمالات شتى، والانشغال الأمريكي بالتهديدات الكورية الشمالية، وإنما كذلك نتيجة تصاعد قوة إيران العسكرية التي تجعل التفكير في ارتكاب مغامرة عسكرية ضدها، سواء من قبل واشنطن أو تل أبيب، أقرب إلى الحماقة والغباء والجنون.

ومع ذلك، فإن العودة إلى الحديث عن الحرب ضد لبنان و"حزب الله" الذي أكد أمينه العام السيد حسن نصر الله بأن لديه كل ما يحتاجه من أسلحة وذخائر، وأن أي اعتداء على لبنان سيواجه بقصف المطارات والموانئ ومحطات الكهرباء الإسرائيلية بالصواريخ، وشدد على الخطأ الذي يرتكبه البعض في اعتبار أن المقاومة في لحظة ضعف أو ارتباك وأنها اللحظة المواتية "للقيام باعتداء أو حرب"، لا يعني أن الأمور ذاهبة باتجاه الانفجار في المدى القريب، ذلك أن أسباباً ومعطيات عديدة تحول دون اشتعال الجبهة اللبنانية، لعل أبرزها عدم تيقّن الإسرائيليين من قدرات "حزب الله" الحقيقية، والخشية، ليس فقط من عدم تحقيق مكاسب في أي معركة ضد الحزب، وإنما كذلك من إمكان التدحرج نحو هزيمة من طراز جديد غير مألوف في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، خصوصاً وأن الحزب الذي منع القوات الإسرائيلية من تحقيق أهدافها في العام 2006، أعلن مراراً وتكراراً، وبعد ارتفاع منسوب قوته أضعافاً مضاعفة، أنه لن يخوض حرباً دفاعية صرفة، على شاكلة التجارب السابقة، وإنما سيستخدم كل طاقته لإلحاق الهزيمة بالعدو، ما يعني، في الترجمة العسكرية، القدرة على استهداف الطائرات والدبابات والقطع البحرية الإسرائيلية، فضلاً عن المرافق والبنى ذات الطبيعة العسكرية والمدنية (موانئ ومطارات ومحطات كهرباء ومصانع ومستشفيات ومنشآت حيوية..).

وعليه، لم يكن من قبيل المبالغة تأكيد المراسل العسكري لصحيفة "هآرتس" بأن الحرب المقبلة مع "حزب الله"، في حال حدوثها، ستكون أعنف بعشرة أضعاف، وستشهد صليات كبيرة من الصواريخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية. ما يضع قائد الجبهة الداخلية الجنرال إيال آيزنبرغ، وهو ما حدث فعلاً، في موضع مركزي بوصفه المسؤول عن الشق الدفاعي في نظرية الحرب الإسرائيلية الجديدة. ووفق أيزنبرغ هذا، فإن "حزب الله" الذي كان بوسعه إطلاق مئات الصواريخ في حرب لبنان الثانية "قادر اليوم على أن يطلق على مركز البلاد من القذائف الصاروخية عشرة أضعاف ذلك ـ وستكون رؤوس الصواريخ أثقل وأدق أيضاً"، ما يعني أن ثمة وظيفة أخرى لهذا التصعيد العسكري والسياسي والإعلامي الإسرائيلي لها علاقة بمحاولات إشعال وتسعير فتنة داخلية في لبنان أسوأ وأشد وطأة من الحرب.

كاتب فلسطيني(*)

اعلى الصفحة