أصالة السلام بين بني البشر.. وجهة نظر إسلامية

السنة الثانية عشر ـ العدد 137 ـ ( جمادى الثانية ـ رجب 1434  هـ ) أيار ـ 2013 م)

بقلم: الدكتور الشيخ علي ناصر(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تبرز أهمية هذا الموضوع في زمننا الحاضر، ولاسيما أننا نعيش في فتنة التكفير التي يراد لها أن تأكل الأخضر واليابس، وأن تكون ذريعة ليقتل المسلمُ المسلمَ دون حسيب أو رقيب، بحجة أن من يقتل مسلماً من مذهب آخر يدخل إلى الجنة! وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن بعض المسلمين يعيشون في تخلُّف مطبق، وفي جهل مركَّب، وإن طالت لحاهم.

فهؤلاء وقعوا ضحايا في خدع الأعداء، وخطبوا في المساجد بنبرة تحدٍّ واستعلاء، وشجَّعوا على الطائفية والمذهبية والاقتتال الداخلي، فهم إنما ينفخون في بوق الشيطان، ولا يستمعون إلى كلمات الرحمن، ولا يفقهون القرآن، ولا السُّنَّة النبوية، بل كانوا ضحايا نزعتهم العصبية العنصرية، وعدم خبرتهم السياسية، بحسب ما تقتضيه مصالحهم الآنية، وبحسب ما تقتضيه مصالح وألاعيب الاستكبار السياسي الغربي، الذي يعيش على أشلاء ضحايانا، ونهب ثرواتنا، وتنصيب رؤسائنا، فمن لا يوافق على سياسات الغرب تجاه أمتنا لا يصل إلى سُدَّة الرئاسة، وكأنها الهدف النهائي للخِلقة، وغاية الإسلام المحمدي الأصيل! والإسلام يدعو جميع المؤمنين به إلى السلام فيما بينهم، ويرى أن التحية بين المسلمين، بل بين الناس أجمعين، يجب أن تكون: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، ورد التحية يكون: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، فهي تتضمن السلام بالدرجة الأولى، والرحمة في مقابل النقمة، والبركة والنمو والازدهار في مقابل النقص والشحِّ والانهيار، ومن أصرح النصوص الناطقة بذلك، قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾(1).

ولتوضيح المقصود، وتأصيل المفهوم، والقبول بالكلام الحجة، وإتّباع الدليل والبرهان، نقول بأن دم المسلم على المسلم حرام، وكذلك عرضه وماله، ونوسِّع دائرة البحث لتشمل العلاقة مع غير المسلمين، على مستوى العالم أجمعين.

أولاً-المجتمع البشري في نظرة إسلامية

ينقسم المجتمع البشري بحسب وجهة نظر إسلامية تقليدية على أساس عقائدي إلى عدة أقسام: فهناك المجتمع المسلم، وهناك المجتمع الكافر، الذي يُقسم بدوره إلى قسمين:

1- مجتمع كافر حربي(2) كتابي(3)، وغير كتابي.

2- ومجتمع كافر غير حربي، الذي يُقسم بدوره إلى أربعة أقسام: كتابي، وغير كتابي، وذمي، ومعاهد.

ويرتكز أصحاب هذه النظرة على أساس الآية القرآنية: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(4)، أو الآية التي تقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(5).

وعدم الاهتداء إلى الإسلام، وعدم الإيمان به على مستوى العقيدة كدين إلهي خاتم يمثل الرسالة الإلهية الأكمل للإنسان، هو من معاني الكفر، ولكنه لا يستلزم قتل من لم يؤمن بالإسلام ابتداءً، بدليل ما فعله النبي محمد(ص)، عندما عاهد اليهود في المدينة، ولم يحاصرهم ويحاربهم إلا لأنهم نقضوا العهد، وخانوا الأمانة، وحاربوا المسلمين، وحاولوا زرع الفتن والشقاق بينهم، ولم يجبرهم على اعتناق الإسلام، بل دعاهم إليه، ولم يعتنقه منهم إلا نفر قليل، ومع ذلك فقد تصرف معهم على أنهم شركاء في الوطن، تطبَّق عليهم قوانين العدالة الاجتماعية، وأقرَّهم على أموالهم وأملاكهم(6). وينقسم المجتمع الكافر غير الحربي من ناحية حكمية إلى قسمين:

أ- الكافر غير الحربي المعاهد: سواء كان من أهل الكتاب، أو لم يكن من أهل الكتاب، ويتكون المجتمع المعاهد من شريحة اجتماعية تحكم نفسها بنفسها، ولكنها عقدت مع المسلمين عهد سلام، وتعاون، وتنسيق، تُقِرُّ بموجبه بعدم خيانة المسلمين والتآمر عليهم، وبعدم التعاون مع أعدائهم، وهو كل مجتمع ارتبط بالدولة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي بمعاهدة تقرِّر السلام بين الطرفين. ولا يجوز خرق ما نصَّت عليه المعاهدة إلا أن يعمد الطرف الُمعاهد إلى نقض عهده(7).

ب- الكافر غير الحربي الذمي: سواء كان من أهل الكتاب أو لم يكن من أهل الكتاب، ويتكون المجتمع الذمي من شريحة اجتماعية قَبِلَت بحكم المسلمين لهم، على أن يبقوا على دينهم، ويدفعوا الجزية للمسلمين، الذين يدافعون عنهم في حال شنَّت دولة أخرى الحرب عليهم. والذمي هو من ارتبط بالدولة الإسلامية برابطة عقد الذِّمَّة المنظَّم بأحكام فقهية مقرَّرة، فيكون الكافر الكتابي الذمّي آمناً في الذات والمتعلِّقات، أي آمن على نفسه، وعياله، وداره، وماله، فلا يحلُّ قتله، ولا إيذاؤه، بل ويكون مواطناً يتمتع بكافة امتيازات المواطنة الصالحة لمواطني الدولة الإسلامية، وعليه مثلها من الواجبات. نعم، لو قام الذمي بخرق شروط عقد الذمة، فلا ذمة له. أما شرائط الذمة فهي ستة:

1- قبول إعطاء الجزية للحاكم الإسلامي، تؤخذ ممّن يُقِرُّ على دينه من أهل الكتاب، فمن بلغ من صبيانهم يؤمر بالإسلام، أو بذل الجزية، فإن امتنع صار حربياً. ولا حدَّ للجزية بل تقديرها إلى الإمام بحسب الأصلح.

2- أن لا يفعلوا ما يُنافي الأمان، مثل العزم على حرب المسلمين، أو إمداد المشركين.

3- أن لا يؤذوا المسلمين، كالزنا بنسائهم، واللواط بصبيانهم، والسرقة لأموالهم، وإيواء عين المشركين، والتجسس لهم.

4- أن لا يتظاهروا بالمنكرات، كشرب الخمر، والزنى، وأكل لحم الخنزير، ونكاحِ المحرمات كالأخت والأم وبنات الأخت والأخ، وإن كان جائزاً في شريعتهم.

5- أن لا يبنوا كنيسة جديدة، ولا يُطيلوا بناءً بجعله أعلى من بيوت المسلمين المجاورة له.

6- أن يجري عليهم أحكام المسلمين ما داموا داخل البلاد الإسلامية، من أداء حق، أو ترك محرَّم(8).

ثانياً-الدولة الإسلامية والمعاهدات الدولية

إن المفاهيم والقيم الإنسانية والأخلاقية التي تقوم عليها فكرة الدولة في الإسلام، هي قيم العدالة، والحرية الواعية والمسؤولة، وحفظ كرامة الإنسان، وتحقيق التكامل الروحي والمادي لأبناء الأمة الإسلامية، والوطن، ما أمكن. إذ إن المجتمع الإسلامي ليس مجرد تعبير عن الضرورة الاجتماعية للإنسان، لحفظ حياته المتوازنة والطبيعية، واستمرار وجوده المنظَّم والمتكامل على مستوى الحياة المدنية فقط، بل هو أيضاً التزام رسالي ومهمة حضارية.

فقد رفض التشريع الإسلامي مبدأ الاستبداد في تكوين المجتمع السياسي، والدولة، والنظام السياسي، لأنه يؤدي إلى الظلم والطغيان. كما رفض الحرية المطلقة، وإن اعترف بالحرية في حدود النظام التشريعي للفرد والمجتمع، لأن الحرية المطلقة هي أمر غير واقعي حتى في بلاد الغرب، وهي حرية غير مسؤولة، ولا تحترم حقوق الآخرين، أو الحق العام، ولذلك فهي تجعل العدالة في خطر.

وإقامة العدالة الاجتماعية، وصيانتها من الانتهاك والتعدي سواء داخل الدولة، أو على مستوى المجتمع الدولي، هي تكليف إلهي، وهي مسؤولية الجميع، وهي مهمة عملية تحتاج إلى امتلاك وسائل تنفيذها على من يتعدى على الدولة الإسلامية، أو يهمُّ بالتعدي عليها، من قِبَل القوى الداخلية، أو الخارجية. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(9).

ويذهب القرآن الكريم أبعد من ذلك، فيشجِّع المؤمنين على ألا يقتصروا على العدل في معاملة الآخر، بل أن يمزجوا ذلك بالإحسان، والرحمة، فيقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(10). والإحسان درجات، وأول درجاته العفو عن خطايا الآخر، والصبر على الأذى، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾(11).

ويقوم القانون الدولي في الإسلام على مبدأ الإصلاح، وفضِّ النزاعات بين الدول، والشعوب، بالطرق السلمية ما أمكن، وهذا مصداق قول الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(12). كما يقوم القانون الدولي في الإسلام على مبدأ الوفاء بالعهود والمواثيق التي التزمت بها الدولة الإسلامية بناء على تحقق مصلحة الإسلام والمسلمين فيها، قائلاً: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾(13). ووفقاً لهذه الإستراتيجية يمكن للقانون الدولي في الإسلام، بغض النظر عن الاجتهادات المتنوعة فيه، أن ينتشر على الصعيد العالمي.

ويمكن القول إن القانون الدولي في الإسلام، هو مجموعة المبادئ، والقواعد العامة الملزمة، والثابتة، التي تنظم الحياة الاجتماعية والمسائل المختلفة في العلاقات الدولية في ضوء هدى الإسلام. ولا شك أن جميع الأحكام والمقررات القانونية في الإسلام تقوم على أساس المصالح الواقعية للفرد، والمجتمع الإسلامي، والدولي. وفي ذلك يقول أحد علماء القانون الدولي الإسلامي: "مبدئياً فإن الإستراتيجية العالمية في الإسلام، تقوم على أساس توسيع دائرة المشتركات، بأكبر ما يمكن، وبلوغ المجتمع الدولي مرحلة الاتفاق على الفكر، والنظام المثالي الواحد، من أجل الحصول على العدالة، والمساواة، والسلم، والأمن. والطريق الوحيد لبلوغ هذا الهدف السامي، وتطوير مثل هذه الإستراتيجية، هو اللجوء إلى المعاهدات الثنائية، أو المتعددة الأطراف"(14).

والمتأمل في قضايا السيرة السياسية للنبي الأكرم محمد(ص)، وقضايا الفقه الدولي، والمسائل المتعلقة بالجزية، وقانون الحرب، والمعاهدات الدولية، وقانون الأسرى، والمواطنة، وغنائم الحرب، وأنواع المواثيق، والآثار المترتبة على نقض المعاهدات، والتحكيم، يجد أن الإسلام يسعى إلى تحقيق السلم، والأمن، العادلين، والعالميين، ولا يلجأ إلى الحرب إلا مضطراً لها، ومكرهاً عليها.

ولعلَّ اهتمام الرسول(ص) بالعلاقات مع الشعوب والأمم الأخرى يبرز من خلال ما كتبه الرسول(ص) إلى رؤساء القبائل العربية، وإلى ملك الروم، ويهود بني قينقاع، وإلى بعض يهود خيبر، وأهل نجران المسيحيين، وإلى أبي سفيان، وإلى همدان، وإلى حبر تيماء، وإل بعض المشركين، وإلى أهل اليمن، وإلى أهل مكة، وإلى النجاشي، والمعاهدة بينه وبين يهود المدينة.

وأخص بالذكر صلح الحديبية، حيث رجع رسول الله (ص) إلى المدينة قرير العين بما فتح الله له وأنزل عليه: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾(15). لقد أدى عقد الصلح إلى دخول الناس في دين الله أفواجاً، فرأى فسحةً لنشر الدين، ومجالاً لتبليغ الرسالة إلى الناس كافةً سواء العربي، والعجمي، والأبيض، والأسود، ليتم الحجة ويكمل رحمة الله على الناس كلهم، فبدأ كتبه(ص) في الدعوة إلى الإسلام إلى الملوك، والأمراء، ورؤساء القبائل.. والأساقفة، والعمال، وغيرهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، فبدأ بإمبراطوريتي الروم وفارس، وملكي الحبشة، والقبط، فكتب في يوم واحد ستة كتب وأرسلها مع ستة رسل(16).

والمهادنة هي المعاقدة على ترك الحرب مدة معينة، وهي جائزة إذا تضمنت مصلحة المسلمين، إما لقِلَّتهم عن المقاومة، أو لما يحصل به الاستظهار، أي دخول الكفار في الإسلام لما يشاهدونه من جمع القوة وإعداد العُدَّة، أو لما يشاهدونه من إنسانية المسلمين وحسن معاملتهم. ومتى ارتفع ذلك وكان في المسلمين قوة على الخصم، لم تجز المهادنة لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(17). ولذا تجوز الهدنة أربعة أشهر. وقيل تجوز أكثر من ذلك لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(18). والأوجه مراعاة الأصلح من قِبَل الحاكم الإسلامي. ولو وقعت الهدنة على ما لا يجوز فعله، مثل التظاهر بالمنكرات،لم يجب الوفاء(19).

ثالثاً - أصالة السلام في الإسلام

نظر الإنسان الغربي وهو في قِمَّة حضارته إلى الحياة على أنها نفعية مادية، وإلى الإنسان على أساس إطلاق العنان لغريزته، ولاسيما الغريزة الجنسية، بحجة أن كبت الغريزة يؤدي إلى أمراض نفسية بحسب نظرية فرويد(20)، وإلى أسس الاجتماع الإنساني انطلاقاً من نظرية داروين في علم الأحياء، التي تقوم على مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأصلح(21)، فرأى أن عوامل البقاء والتقدم واحدة في عالمي الحيوان والإنسان، وهكذا أوجد مبرراً - ادعى أنه علمي- لنزعة التسلط العدواني على الشعوب الأخرى، مارسها على أنها حق ورسالة!.

وقد انعكست هذه الأفكار الفلسفية في الفكر الغربي الاجتماعي السياسي سلوكاً عملياً، وهذا ما ساعد على إيجاد تسابق بين الدول الغربية لامتصاص دماء الشعوب العربية والإسلامية والمستضعفة ونهب خيرات بلادها، وممارسة أبشع أنواع التسلط عليها، فتفجر صراع رهيب، ونشبت حروب لم يعرف التاريخ لها مثيلاً في هولها، وعدد ضحاياها، واتسع نطاق الدمار الذي سببته. إنها حروب بدأت محدودة ثم اتسعت لتشمل كل المراكز الإستراتيجية ومصادر المواد الخام في العالم.

ويعلِّمنا الإسلام أن الأصل في العلاقة مع سائر البشر، هو البرُّ والقسط، ما داموا لا يحاربون المسلمين، ولا يخرجونهم من ديارهم، قال تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(22). أما الذي يُجَرِّدُ سيفه، ويُقاتل، ويُخرج الناس عن ديارهم، فلا يصحُّ بِرُّه وقِسْطُه، وهو مما يُستثنى من الأصل. ثم إن هذه العلاقة ليست علاقة ولاء، لأن الولاء للكفار محرَّم على المؤمنين. فالبِرُّ والقسط يعني التعامل معهم بعدل، واحترام أموالهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وسائر حُرُماتهم.

ويرى بعض المجتهدين أن المقصود بآية: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ...﴾ هم أفراد الكفّار، والجماعات، المنشغلون بقضاياهم الدنيوية من زراعة، وتجارة، وصناعة، وليس لهم مكر، وكيد فعلي تجاه جماعة المؤمنين وعقيدتهم، والقبائل، والمدن، غير المنتظمة في كيانات سياسية. أما المقصود بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ...﴾ فهو الكيانات السياسية الكافرة. أضف إلى ذلك أن مفاد آية ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ... ﴾ لا يلغي التشريع الابتدائي في القتال، فالقتال يجب ابتداءً على مستوى الكيانات السياسية الكافرة، ولكن بشرط القدرة أولاً، والتدريج ثانياً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ(23)  مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(24). ومن هذا المنطلق يجب صرف القدرة ضد الدول الكافرة القريبة، فإذا لم تكن القدرة موجودة، ولا حالة المجاورة، فلا يجب قتالهم. كما لا يجب البِرُّ والقسط في حالة ثانية أيضاً، وهي ما لو كان للكفار كيان سياسي ويقاتلوننا في ديننا، ويخرجوننا من ديارنا، ويطاردوننا، كحالة "إسرائيل" مع أبناء الإسلام في فلسطين، والمناطق المجاورة لها(25). وبالتأكيد ليس المقصود من الآية الكريمة قتال المسلم السني لأخيه الشيعي بحجة أنهم أقرب جغرافياً من "إسرائيل"، فالمسلم هو من يدعو إلى الوحدة بين المسلمين، لا من يدعو إلى الفرقة ويشجع المغالين.

ويرى المرحوم والشهيد السعيد العلاّمة البوطي أن "السِّلْمَ العالمي هو المحور الذي تدور عليه شرائع الإسلام وأحكامه.. غير أن السِّلْمَ لا يوجد ولا يتنامى إلا في حضن العدالة. هذا ما يقرِّره المنطق، ويجزم به التاريخ، ويعرفه الناس جميعاً. لذا فقد كان اهتمام الإسلام بالعدل وترسيخ دعائمه مساوياً لمدى اهتمامه بالسِّلْمَ ومدِّ رواقه. بل كان لا بد منهجياً أن يرعى الأول ابتغاء وصوله إلى الثاني.. إذن فبين السِّلْمِ والعدالة تلازم مستمر في الطرد والعكس، أي فكلَّما امتدَّ سلطان العدل امتدَّ رواق السِّلْمِ، وكلَّما تقلَّص سلطان العدل وامتدَّت مكانه ظلل الجور، تقلَّص رواق السِّلْمِ أيضاً وتفتَّحت في مكانه ثغرات الهرج والمرج"(26).

ويضيف سماحته أن الأصل في العلاقات الدولية هو السِّلْم، قائلاً: "السِّلْمُ في العلاقات القائمة بين المسلمين وغيرهم، بل بين الناس جميعاً على اختلاف نِحَلِهِم وفئاتهم، هو الأصل"(27). ويرى سماحته أنه لا مانع من إجراء صلح دائم مع الأعداء، بشرط أن ينهض هذا الصلح على أسس تمكين المسلمين من القيام بواجبهم الذي كلّفهم الله به، ألا وهو واجب الدعوة إلى الله، وتبصير الناس بحقائق الإسلام، من دون أي إحراج أو تضييق، وأن الذي يبرم الصلح هو إمام المسلمين، إن رأى أن مصلحتهم العامة في ذلك(28).

ويُفَسِّرُ سماحته السلام الذي يدعو إليه الإسلام، بأنه السلام الذي يقوم على إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه. ويعطي سماحته مثالاً على ذلك العلاقة مع "إسرائيل"، حيث يجد أنه لا مانع من إقامة السلام معها إن هي أعادت الحقوق المغصوبة لأصحابها، قائلاً: " ندعو "إسرائيل" عندما ترفع شعار السلام وتدعونا لإقراره، إلى الخطوة السابقة، وهي إقرار مبادئ العدالة، أي التخلي عن الاغتصاب وإعادة الحقوق إلى أصحابها.. فإن هي استجابت.. سِرنا معها لإقامة بناء السلام"(29).

ولكن الخطوة الأولى التي طالب سماحته "إسرائيل" بتنفيذها تعني خروج كل اليهود المغتصبين لفلسطين، وإعادة كل الأراضي العربية المحتلَّة، وإزالة النظام السياسي العنصري الذي تقوم عليه "إسرائيل"، وإزالة كل مؤسسات الدولة العِبرية القائمة على العدوان، وبالتالي إزالة "إسرائيل" الغاصبة من كامل تراب فلسطين. وهذا يعني أنه لا يعود هناك "إسرائيل" ليقوم المسلمون أو العرب بعقد الصلح معها! وبالتالي لا يمكن الحديث عن سلام عادل وشامل مع "إسرائيل" القائمة على الغصب والعدوان، حتى لو اعترف بها المجتمع الدولي كلُّه، وأعطى الفلسطينيين حقوقاً مجتزأة. وهذا ما ينسجم مع قول سماحته: "وليس للمسلمين أن يستسلموا لهم باسم الجنوح إلى السِّلم.. على أن للمسلمين أن يستردوا البقاع التي اغتصبت منهم بقعة إثر أخرى، إن حوصر المسلمون في هذا السبيل، ولم يتأت منهم غير ذلك، بشرط أن يخططوا لاسترداد حقوقهم كلها، ويعزموا عزم الصادق على ذلك سراً أو جهراً"(30).

 باحث في الشريعة والقانون الدولي، من لبنان(*).

هوامش:

(1) سورة البقرة، الآية: 208.

(2) أي يتكون من شريحة اجتماعية تناصب العداء للمسلمين، وتعلن الحرب على المجتمع الإسلامي.

(3) أي يتكون من شريحة اجتماعية تؤمن بدين سماوي غير الإسلام، كاليهودية، والمسيحية.

(4) سورة آل عمران، الآية: 85.

(5) سورة آل عمران، الآية: 19.

(6) ناصر، علي، الصراع الإسلامي اليهودي في المدينة المنورة- قراءة تحليلية نقدية في التفسير الاستشراقي، مجلة المنهاج: إسلامية-فكرية-فصلية، تصدر عن مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، العدد الخمسون، السنة الثالثة عشرة، صيف 1429ه / 2008م، ص: 147-193.

(7) المالكي، فاضل، مبدأ التعايش السلمي في الفقه الإسلامي، ط1، العراق، مؤسسة البحوث والدراسات الإسلامية، 1428هـ، ص: 7-9.

(8) المحقِّق الحلي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، ط4، طهران، انتشارات استقلال، 1415هـ، ج1، ص: 250-253.

(9) سورة المائدة، الآية: 8.

(10) سورة النحل، الآية: 90.

(11) سورة البقرة، الآية: 219.

(12) سورة آل عمران، الآية: 64.

(13) سورة الإسراء، الآية: 34.

(14) الزنجاني، عباس علي العميد، القانون الدولي في الإسلام، ط2، تعريب: الدكتور علي هاشم الإسلامي، مشهد-إيران، مجمع البحوث الإسلامية، 1417هـ، ص: 72.

(15) سورة الفتح، الآية: 1.

(16) الميانجي، علي الأحمدي، مكاتيب الرسول، ط1، دار الحديث، 1998م، ج1، ص: 181-182.

(17) سورة التوبة، الآية: 5.

(18) سورة الأنفال، الآية: 61.

(19) المحقِّق الحلي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، مرجع سابق، ص: 254.

(20) طبيب نمساوي متخصص بمعالجة الأمراض العصبية، وبحسب فرويد فإن هندسة النفس الإنسانية تقوم على غرائز الإنسان، وبالتحديد الغريزة الجنسية، التي تلازم حياة الإنسان منذ الولادة، وتمر بمراحل متتالية، لكل واحدة منها خصائصها، حتى تصل إلى المرحلة التناسلية، والتي يؤدي كبتها إلى عقدة نفسية.

(21) نظرية فسَّر بها سبب انقراض فصائل من الحيوانات، التي لم تكن صالحة بنظره للبقاء نتيجة عدم تكيفها مع المحيط، أو عجزها عن إيجاد بدائل لمصادر غذائها، أو لفقدانها للقدرة الجسدية على تحمل تقلبات المناخ.

(22) سورة الممتحنة، الآية: 8.

(23) يلونكم: من هم بجواركم، الأقرب فالأقرب.

(24) سورة التوبة، الآية: 123.

(25) الآصفي، محمد مهدي، الجهاد-تقريراً لبحث الخارج، ط1، قم-إيران، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1421ه، ص: 44-52.

(26) البوطي، محمد سعيد، الجهاد في الإسلام-كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟، ط2، دمشق-سوريا، دار الفكر، 1997م، ص: 227-228.

(27) المرجع نفسه، ص: 229.

(28) المرجع نفسه، ص: 230.

(29) المرجع نفسه، ص: 314.

(30) المرجع نفسه، ص: 232-233.  

اعلى الصفحة