إيران قوة سياسية إقليمية ودولية بارزة

السنة الحادية عشر ـ العدد133 ـ ( محرم ـ صفر 1433  هـ ) كانون أول ـ 2012 م)

بقلم: معين عبد الحكيم(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تقول ذاكرة الحاضر إن الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم نظام سياسي وثقافي ثابت الأركان، وتداول السلطات فيه يحصل وفق دستور مؤيد من الشعب، ومستفاد من الشرع، ومستفيد من النظريات الدستورية المعاصرة. وإن المؤسسات الدستورية تعمل وفق هذا النظام باستقلال وتعاون يسمحان بانطلاق جهاز إدارة شؤون البلاد ودفعها في طريق النمو المطّرد والتقدم الواثق.. السلطات فيها منفصلة ومتصلة، وذات استقلال وسيادة وفعالية في نطاق عملها الخاص.

ولا يعني ذلك عدم وجود عقبات ولا نشوء أزمات، بل لعل العقبات والأزمات جزء من فعل المؤسسات وإشكالية العمل وطبيعة الإدارة، ويمكن وصف هذا الشكل من الإدارة في الحكم بالحرية والديمقراطية والعدالة، والنظر إلى السياسة في نطاقها كعمل شرعي (سياسة شرعية)، وفي نطاقها كعلم قائم بذاته (سياسة وضعية).. الأولى تقوم بدور الأساس للبناء، والأخرى تقوم بدور الآلة للبناء، أو علم البناء وفنّه.

وإذا تعددت المصادر بتعدد الخصائص، صار الاجتهاد موضع الإبداع الخلاق في العمل السياسي، وصارت موضوعات من نوع العلاقة بين الموالاة والمعارضة جزءاً تكوينياً في العملية السياسية.

ولذلك تتصاعد أصوات الضجة في المشهد السياسي الإيراني، كما هي الحال في موضوع انتخابات البرلمان، لتكشف في دائرة الحوار الذي يشبه التفكير بصوت عالٍ، مستوى ما بلغه المشهد من ممارسة حرية الرأي وقواعد اللعبة الديمقراطية.

وتقول ذاكرة الحاضر إن الجمهورية الإسلامية في إيران قوة سياسية إقليمية ودولية بارزة، استطاعت أن تحل المشكلات الداخلية في سياق من الحوار على كفة الأمان الداخلي وثبات أركان النظام، وأن تقيم سياسة خارجية ناجحة في عالم مضطرب قريب منها وبعيد عنها، وأن تتحول إلى لعب دور التوازن المستفاد من العقلانية السياسية والاعتدال الإيجابي، في محيط إقليمي يزداد اضطراباً.. استطاعت إيران أن تخرج منه وأن تطوق كل محاولات العزل والاحتواء السياسي والمحاصرة الاقتصادية والحملات الإعلامية والتهديدات الأمنية، لمصلحتها ومصلحة شعوب المنطقة المحيطة بها.

بعد ذلك نسأل: ما هو موقع الاهتمامات الإقليمية في سياسة إيران الخارجية؟ وكيف تمكنت الجمهورية الإسلامية من تبوّء مكانتها الإقليمية الدولية البارزة التي تحظى بها اليوم؟.

الاهتمامات الإقليمية

تقول المادة 152 من الدستور الإيراني: تقوم السياسة الخارجية الإيرانية على أساس رفض أي نوع من أنواع التسلط أو الخضوع والحفاظ على الاستقلال التام ووحدة أراضي البلاد والدفاع عن حقوق جميع المسلمين وعدم الانحياز للقوة المتسلطة وعلى تبادل العلاقات السلمية مع الدول المسالمة. وتقول المادة 153: إن إبرام أي معاهدة تفضي إلى السيطرة الأجنبية على الثروات الصناعية والاقتصادية أو الثقافية والجيش والشؤون الأخرى في البلاد أمر ممنوع بتاتاً.

أن منطقة الشرق الأوسط تعيش بعد حوادث 11 أيلول/سبتمبر والتحولات التي تلت أزمة عام 2003 في العراق، حالة الانتقال نحو نظام سياسي ـ أمني جديد يتنافس فيه جميع اللاعبين المهمين الإقليميين من أجل تثبيت (دورهم الجديد) في المنطقة. وإيران بدورها كقوة إقليمية وعالمية جديدة بحاجة لتقوية تعاونها وزيادة مبادلاتها على الصعيد الإقليمي وتحسين علاقاتها مع الشعوب وإيجاد تحالفات جديدة مع الدول من أجل تثبيت دورها.

إن المكانة التاريخية ـ الحضارية والجيوبوليتيكية ـ الأمنية لإيران في منظومة الأمن الإقليمي والعالمي تجعل من أخذ التحولات المختلفة في تطبيق سياسة إيران الخارجية أمراً لا مناص عنه.

وهناك أربعة توجهات أساسية في إقليمية السياسة الخارجية الإيرانية هي: التوجه الجغرافي والجيوبوليتيكي، التوجه الثقافي ـ التاريخي, التوجه العقائدي- الديني, والتوجه السياسي ـ الأمني. وقد واجهت سياسة إيران الخارجية تحدياً طوال العقود الأخيرة في إيجاد تعادل بين هذه التوجهات والاهتمامات الأربعة، يمكن تسمية ذلك بنوع من أنواع التحديات النظرية في التركيز على قواعد الأنظمة الإقليمية المختلفة في الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى والقوقاز، وآسيا الجنوبية. كذلك يمكننا التعبير عن هذا التضاد بالتحدي بين الإقليمية والعالمية في توجيه العلاقات الإقليمية وسياسة إيران الخارجية.

ويعتبر بعض ذوي الرأي في دراسات السياسة الخارجية أن التحدي الأساس الذي يواجه سياسة إيران الخارجية هو إيجاد التعادل بين العنصر الجيوبوليتيكي والعنصر العقائدي. الموجود طوال تاريخ إيران، والذي بلغ القمة خلال عهد الثورة الإسلامية.

ومع انهيار الإتحاد السوفيتي وظهور الدول الجديدة في آسيا الوسطى والقوقاز في أوائل عقد التسعينات، تحدث آخرون من ذوي الرأي عن ضرورة التركيز على الاهتمام التاريخي ـ الحضاري في توجهات سياسة إيران الخارجية. ولقد شهد الاهتمام بالمكانة الإقليمية في سياسة إيران الخارجية نقاط تحول متفاوتة. فخلال عهد النظام السابق لم يكن هناك اقتناع كافٍ بالتركيز على الإقليمية، لذلك فإن الدور السياسي ـ الأمني، بل وحتى الاقتصادي لإيران في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في الشرق الأوسط العربي اعتبر ثانوياً. وعليه فإن دخول إيران إلى القضايا السياسة والعقائدية في الشرق الأوسط من زاوية السلام بين العرب وإسرائيل، دفع إيران للدخول في مواضيع لا علاقة لإيران بها لجهة مصالحها الوطنية والإستراتيجية، بل كان تدخل السياسة الخارجية الإيرانية في توترات وتجاذبات غير ضرورية.

وشكل قيام الثورة الإسلامية الإيرانية نقطة تحول أساسية في التركيز على الإقليمية مع توجه العقائدي في السياسة الخارجية الإيرانية. ولما كانت ماهية الثورة الإسلامية تركز على العقيدة الإسلامية، كان ارتباط إيران بقضايا العالم العربي والإسلامي أمراً لا مفر منه، وخلافاً للماضي، كان التركيز على القضايا الإقليمية نوعا ًمن القوة في السياسة الخارجية الإيرانية. وأضحت القضايا الأساسية للشرق الأوسط مثل: الصراع العربي الإسرائيلي، ومواجهة قوى الاستكبار العالمي هما الموضوعان اللذان ربطا الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقضايا المنطقة مباشرة. في هذه البرهة خرج الدور الإيراني من التهميش، لتصبح إيران اللاعب الأنشط في المنطقة، بشكلٍ جديد.

كما وشكّل انهيار الإتحاد السوفيتي نقطة تحول أخرى في مجال التركيز على التوجه (الحضاري ـ الثقافي ـ التاريخي) للسياسة الخارجية الإيرانية، فظهور دول آسيا الوسطى والقوقاز المستقلة حديثاً، والتي ترتبط إلى حد ما بإيران والشرق الأوسط في الجانب (الحضاري ـ التاريخي) وفي الثقافة الإسلامية، ما وفّر الظروف التي دعت إيران إلى جعل الاهتمام بالمناطق الشمالي والشرقية ـ ولأول مرة ـ في صدر أولويات سياستها الخارجية. فطوال عقد التسعينات كان خبراء دراسات السياسة الخارجية الإيرانية منشغلون في البحث عن طرق تقارب إيران مع دول هذه المنطقة، و التركيز على ضرورة الحضور الفاعل لإيران في هذه المناطق.

يخطئ من يعتقد بأن السياسة الإيرانية منذ القدم بنيت على اعتبارات داخلية محضة. ويبدو من السذاجة أن تطلب من دولة أن لا تتطلع إلى لعب دور إقليمي أو عالمي.

وتشتبك إيران بعلاقات معقدة مع دول المنطقة العربية من جهة، ومع الدول التي لها مصالح في الشرق الأوسط من جهة أخرى. ويطغى التوتر على علاقة إيران بغالبية الدول الغربية، فخلافها مع الغرب الأوروبي يكاد ينحصر في برنامجها النووي، لكن خلافاتها مع الولايات المتحدة لا تنحصر في ذلك فقط، إنما ثمة مشاكل عديدة وعصية على الحلّ. فالولايات المتحدة، تنظر إلى إيران باعتبارها دولة تناصبها العداء وتسعى دائماً إلى إفساد مشاريعها في الشرق الأوسط. ولذا تنظر إلى تحركاتها في هذه المنطقة بعين الريبة. وتعتقد الولايات المتحدة أن النظام في إيران هو المسؤول عن تعثر عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو المسؤول عن عدم إحراز أي تقدم في مفاوضات السلام التي أصيبت بالشلل بعد الخلاف الحاد بين حماس وفتح. وتلقي الولايات المتحدة أيضاً باللائمة على إيران في العمل على زعزعة الوضع في العراق ولبنان، وعلاقتها ببعض الجماعات الإسلامية الراديكالية. ولعل الموقف المتشدد والعدائي الذي تتخذه إيران من إسرائيل والتصريحات العدائية المباشرة التي يطلقها القادة الإيرانيون سواء تلك التي تتضمن تهديداً لإسرائيل أو تلك التي تتضمن تشكيكاً بالهولوكوست، قد جعل الولايات المتحدة وإسرائيل تنظران إلى التحركات الإيرانية السياسية والعسكرية بخشية كبيرة.

ومن ناحية ثانية، فإن القيادة السياسية الإيرانية تعمل ليل نهار لإقامة علاقات مع الدول التي تشاطر الولايات المتحدة وإسرائيل العداء، وهكذا التقت المصالح الإيرانية مع مصالح بعض الدول في القارة الأمريكية بغية تأسيس تكتل دولي أو إقامة تحالفات تقف بوجه المارد الأمريكي. وتتمتع إيران بعلاقات متينة مع روسيا، وتعززت هذه العلاقة بعد الخلاف الغربي الروسي نتيجة لغزو الأخيرة الأراضي الجورجية. ومن ينظر الآن إلى مسار العلاقات الدولية، يتلمس بوادر تشكيل تكتل دولي مناهض للولايات المتحدة والغرب، وقبل أيام صرّح بوتين بأن العالم ليس أوروبا والولايات المتحدة فقط. وفي الوقت الذي تعرف فيه السياسة الإيرانية كيف تتحرك وتستثمر التغيرات الدولية فإن العرب يبدون في سبات عميق حيال ما يجري.

الدور الإقليمي المحوري

من خلال إستراتيجية الأقاليم الكبرى التي وضعته مدرسة ميونيخ عام 1920, ومن خلال الدراسات والأبحاث التحليلية التي أقيمت لتوضيح الدور المركزي الذي من الممكن أن يلعبه الإقليم العربي في غرب آسيا، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، وجدنا أن أي تحليل للجانب العربي من غرب آسيا، دون إعطاء دور استراتيجي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في غرب آسيا، يترك فراغاً كبيراً في التحليل الاستراتيجي لغرب آسيا.

وإذا أردنا أن نتناول الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه إيران، فيجب معرفة الموقع الجغرافي الإيراني وتحليله الجيوسياسي، فإيران يحدها من الشرق باكستان وأفغانستان، ومن الشمال تركمنستان وأذربيجان وأرمينيا وتركيا، ومن الغرب الجمهورية العراقية، ومن الجنوب الغربي الخليج ودول مجلس التعاون الخليجي، ومن الجنوب المحيط الهندي.

ونتيجة للموقع المذكور يتبين لنا بأن إيران ذات النماذج الإقليمية المتنوعة، وذات الطبوغرافية والبيئات الطبيعية المتناقضة، وذات التركيبة البشرية المتعددة، لابد لها من تصور إستراتيجي للمحافظة على الوحدة الوطنية لكيان الدولة المركزية الإيرانية، وأيضاً لابد لها من دور إقليمي تلعبه مع دول الجوار الجغرافي.

ويعتمد الإيرانيون في تصورهم السياسي الإقليمي على قاعدة سكانية ضخمة نسبياً مقارنة مع دول مجلس التعاون الخليجي والعراق. فعند مقارنة إيران بباقي دول النظام الإقليمي الخليجي من ناحية الحجم السكاني نجد أن عدد سكان إيران 73 مليون نسمة ونسبة الأجانب فيما بينهم لا تزيد على 4%، أما دول التعاون الخليجي والعراق مجموع عدد سكانهم 51 مليون نسمة وأكثر من 25% منهم أجانب.

لقد مرت إيران منذ نجاح الثورة الإسلامية بمراحل عدة على صعيد سياساتها الخارجية، ونظراً إلى ما لديها من نزعة استقلالية وتجارب في أنظمة الحكم، فقد سعت إيران دائماً من أجل عدم تكرار الماضي البغيض، حيث التدخلات الأجنبية والتي كان من أبرزها التدخل الأجنبي في تأميم صناعة النفط والإطاحة بالحكومة المنتخبة في ذلك الوقت.

وقبيل قيام الثورة الإسلامية وبالتحديد في عامي 1977، و1978 قامت إدارة جيمي كارتر بمساندة نظام الشاه من أجل حماية المصالح الأمريكية في الخليج، وفي أوج الثورة الشعبية والاضطرابات، اعتبر كارتر إيران جزيرة مستقرة في بحر متلاطم الأمواج فكان خطابه ساذجا استند إلى الدعم الأمريكي المطلق لنظام الشاه. لكن بعد سقوط الشاه لم ترغب الولايات المتحدة الأمريكية في القبول بحقيقة التحولات الداخلية الإيرانية أو التسليم برغبة الشعب الإيراني في تغيير النظام، ومنذ ذلك الوقت واجهت الولايات المتحدة الأمريكية نظام الجمهورية الإسلامية بأساليب عدة كان منها: تقديم الدعم للجماعات المناهضة للثورة وتجميد الأرصدة المالية الإيرانية وحشد الحلفاء ضد إيران.

ومع نشوب الحرب العراقية – الإيرانية قامت الولايات المتحدة بتقديم كافة أوجه الدعم السياسية والاقتصادية والعسكرية للنظام العراقي وذلك في إطار السياسة الأمريكية لإسقاط نظام الجمهورية الإسلامية لدرجة أن الولايات المتحدة شاركت في نهاية الحرب في شن هجوم عسكري ضد إيران وبعد نهاية الحرب لم يحدث أي تحول جذري في سياسات واشنطن حيث استمرت سياسة الحذر والضغط ودعم الجماعات الإيرانية المعارضة، وقد بلغت الضغوط الأمريكية على إيران ذروتها في عهد إدارة جورج بوش الابن، حيث تم إدراج إيران ضمن محور الشر الذي ضم بجانب إيران كلا من كوريا الشمالية والعراق. ونظراً للسياسات الأمريكية المتشددة تجاه إيران يصعب التنبؤ بانفراجة في العلاقات بين الدولتين.  فمنذ عام 1993، تتبع الولايات المتحدة سياسة المقاطعة وعزل إيران.

على صعيد آخر، لا يمكن الفصل بين السياسات الإقليمية التي تنتهجها إيران في الخليج وبين ملف العلاقات الإيرانية – الأمريكية، وبعبارة أخرى فإن نمط التفاعلات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية يؤثر مباشرة على علاقات إيران مع دول الجوار وخصوصاً دول الخليج.

وقد حافظت إيران على استقرارها وقوتها على الساحة الدولية بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على نجاح الثورة الإسلامية ويمكنها مواصلة النجاح من خلال الحفاظ على استقلاليتها وعزتها وقدرتها على تسوية القضايا العالقة من خلال المشاورات والمباحثات الدبلوماسية حيث يعتبر أسلوب إزالة التوتر والنهوض بمستوى العلاقات الدبلوماسية الإيرانية من أهم عوامل النجاح الإيراني على الصعيد الإقليمي.

على صعيد آخر فإن العلاقات الإيرانية القوية مع الصين وأوروبا في مجال الاقتصاد والطاقة سيكون لها انعكاسات أمنية داعمة لتحسين العلاقات الأمنية مع دول الجوار.

أما بخصوص التعاون الإقليمي مع دول الجوار فقد وقعت إيران خلال السنوات القليلة الماضية عدة اتفاقيات مع المملكة العربية السعودية والكويت وقطر وتم التباحث حول آليات تفعيل التعاون الأمني ودعم التعاون الإقليمي في اتفاقية بين إيران والمملكة العربية السعودية وتوقيع اتفاق مشابه بين إيران والبحرين.

بالإضافة إلى ذلك كله ترتبط إيران بعلاقات قوية مع العديد من الدول العربية وفي مقدمتها سورية ولبنان وفلسطين التي أخذت قضيتها مكانة هامة في إستراتيجية السياسة الإيرانية الخارجية.

العلاقات الإيرانية- الخليجية

وكنموذج على المكانة الإقليمية والدور البارز الذي أخذته إيران في ظل الجمهورية الإسلامية نتطرق إلى العلاقات الإيرانية الخليجية التي يمكن تقسيمها إلى محورين:

تمثل المحور الأول بمخاوف تصدير الثورة ومشكلة الحجم: فلا أحد يستطيع أن ينكر بأنه في بداية الثورة الإيرانية كانت فكرة مبدأ تصدير الثورة بمعناها الإيجابي واردة في الخطاب السياسي، وهذا أمر طبيعي عندما يحقق الشعب نصراً ضد رمز كان مصوراً لهم معنوياً بأنه لا يقهر.

ولكن الصورة وآلية التعامل الإيرانية مع دول الجوار الخليجي بدأت تتغير بعد حرب الخليج الأولى 1980 - 1990م، وأثمر ذلك عن علاقات دبلوماسية ثنائية جيدة ما بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، ونقصد بعلاقات ثنائية جيدة، أي علاقة واحد لواحد مثل وجود علاقة دبلوماسية جيدة ما بين إيران وقطر، وإيران والكويت، وإيران والإمارات، وإيران وعمان، وإيران والسعودية، وأخيراً إيران والبحرين.

ونجد أن إيران تحرص أن تكون علاقاتها مع دول الخليج بهذه الطريقة، ودول المجلس بسبب عدم وجود إستراتيجية تعاونية لسياسة خارجية موحدة كل منها تحرص على أن يكون لها علاقة فردية مع إيران، ولكن عندما تشعر دول هذه المنظومة بالخطر، ترجع للمنظومة للحصول على دعم جماعي. وهذا أدى إلى وجود خلل استراتيجي في العلاقات الخليجية التعاونية وإيران الإسلامية، وهذا الخلل ليس من صالح أي من الطرفين، لأن ذلك يسمى في السياسة لعبة شد الحبل.

وهذه اللعبة هي أساس خلق التوتر وعدم التوازن في العلاقات الدولية على مستوى العالم.  ولو استمرت دول المجلس مع إيران على هذا المنوال، فسوف يؤدي ذلك إلى ابتزاز الخليج بأكمله من القوى الخارجية اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وسوف تبقى هذه المنطقة متخلفة إلى يوم يبعثون. والذين يدفعون الثمن هم شعوب هذه المنطقة. ولو قامت العلاقات الإيرانية الخليجية على أساس سليم فذلك سوف يساهم نسبياً في معالجة التباين في الخلل السكاني الفاضح فيما بينهما، وأيضاً سوف يسهل على المتخصصين في المنطقة في استثمار عناصر التشابه الإقليمي ومنها وحدة الدين الإسلامي.

ومن الناحية الحضارية نجد أن هناك ارتباط ما بين القوميتين العربية والفارسية، ضارباً في القدم ويعود إلى آلاف السنين، ونجد حتى في التركيب الحضاري للدولة الإيرانية نسبة لا يستهان بها من القومية العربية، وفي التركيب الحضاري لدول مجلس التعاون الخليجي نسبة لا يستهان بها من القومية الفارسية. ولكن الأكثر أهمية هو أن التقارب الكبير ما بين القوميتين، جعل ولاء القومية العربية الموجودة في إيران كاملاً لطهران، وولاء القومية الفارسية الموجودة في دول المجلس كاملاً لدول مجلس التعاون الخليجي.

وتمثل المحور الثاني في الاستثمار الاقتصادي: فتنمية المصالح الاقتصادية المشتركة ما بين دول النظام الإقليمي الخليجي، وخاصة أن هذه الدول يوجد فيما بينها تماثل في السلعة، مجموع احتياطي النفط في هذه الدول يصل إلى 65% من احتياطي العالم، وتمتلك نفس الدول 3305% من احتياطي العالم من الغاز الطبيعي، ونصيب الطاقتين من الاستهلاك العالمي للطاقة يصل إلى 70% من الطاقة المستخدمة في العالم بحيث النفط يستحوذ على 50%، والغاز الطبيعي على 20% من الطاقة المستخدمة في العالم، بمعنى آخر بأن إقليم الخليج الآن يمثل شريان الحياة للعالم.

وتتوزع الاحتياطيات النفطية ما بين دول الإقليم كالتالي، دول مجلس التعاون الخليجي يوجد بها 46% من الاحتياطي العالمي من النفط، والعراق 10%، وإيران 9%. أما بالنسبة للغاز الطبيعي فإيران يوجد بها 16% من الاحتياطي العالمي، ودول مجلس التعاون 5ر15%، والعراق 2% أي مجموع هذه الدول يصل إلى 5ر33%، وهذا يعطي دول النظام الإقليمي الخليجي المرتبة الثانية مباشرة بعد دول الاتحاد السوفيتي السابق البالغ احتياطياتها من الغاز الطبيعي 39% من الاحتياطي العالمي.

ويعتبر تماثل السلعة الهيدروكاربونية الخليجية، سلاحاً ذا حدين، فإذا وظف التوظيف السليم في مواجهة التحديات الـ"فوق إقليمية"، من خلال عقد تحالفات واتفاقيات إقليمية ما بين الدول المتماثلة في إنتاج السلعة، وبعد ذلك مواجهة السوق الدولية من خلال المحافظة على صيانة القيمة السوقية للسلعة المتماثلة. فستكون نتائجه كبيرة لصالح دول الإقليم.

مثلاً كما ذكر سلفاً بأن احتياطيات الإقليم الخليجي من الغاز الطبيعي 33.5% من الاحتياطي العالمي، والاتحاد السوفيتي السابق يسيطر على 39% من الاحتياطي العالمي، بمعنى آخر إن ما يقارب 72.5% من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم محاصرة في حيز جغرافي محدد، وهذه الطاقة تعتبر طاقة المستقبل أي نمو الطلب السنوي عليها ليصل إلى 6% تقريباً. وذلك خاصة بعد التوجه الأممي الكبير لتقليص الكميات الضخمة من الوقود الحضري والإشعاعي المنبثقة في الفضاء الخارجي، وخاصة بعد أن ثبت علمياً بأن الغاز الطبيعي هو أقلها ضرراً على البيئة.

ولكن البوادر التي نراها الآن بدلاً من عقد تحالفات ما بين الدول المتماثلة، نجد بأن هناك تنافساً ما بين هذه الدول. مثلاً منطقة مجلس التعاون الخليجي يفترض أن تكون من المناطق الداعمة للمشروع القطري العملاق ذي التكلفة المرتفعة في حقل الشمال للغاز الطبيعي، فمن المفروض أن تكون هناك شبكة أنابيب إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي لجميع دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصاً بأن جميع المؤشرات تقول بأن قطر هي أفضل مركز لتصدير الغاز الطبيعي لدول مجلس التعاون الخليجي وذلك من خلال سهولة مظاهر السطح مما يخفض التكلفة الإنشائية للأنابيب ووجود الاستثمارات الجاهزة في حقل الشمال القطري، ولو حدث بالفعل هذا التعاون الاقتصادي ما بين دول المجلس، فذلك سوف يكون من الآليات الفعالة لإحياء روح الكونفدرالية الخليجية.

أما دخول إيران كمنافس إلى ملعب طاقة الغاز الطبيعي في دول مجلس التعاون، فهذا سوف يخلق تنافساً غير مستحب ما بين دول السلع المتماثلة. وفي نفس الوقت يفترض على دول مجلس التعاون دعم المشروع الإيراني لتصدير الغاز الطبيعي إلى كلٍّ من الهند وباكستان. وبعد ذلك يمكن أن يطور التنسيق ما بين دول هذا النموذج إيران ودول المجلس والعراق، لتصدير الغاز الطبيعي والنفط عبر شبكة أنابيب تعبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية باتجاه جنوب شرق آسيا، والشرق الأقصى، وذلك لإيصال الهيدروكاربون إلى مناطق ذات كثافات سكانية ضخمة، وتنمية اقتصادية هائلة، وحقولهم الهيدروكاربونية قاربت على الجفاف، وبعضها لم يعد يفي بحاجة سكانها ومنهم اندونيسيا والصين، وخصوصاً الصين التي تحتاج إلى استيراد ما يقارب 95% من احتياجاتها النفطية. كذلك هناك مجموعة من المحاور من الممكن أن تقوي الروابط الإيرانية والدول العربية الخليجية نذكر منها:

1- صيانة البيئة:

فالتعاون البيئي أمر مصيري بالنسبة للدول الخليجية، لحماية بيئة حوض الخليج وسواحله، وخصوصاً بأن حوض الخليج بحيرة شبه مغلقة يصل طولها إلى 1000كم, ويتراوح عرضها ما بين 300كم إلى 200 كم، ومساحتها لا تزيد على 226 ألف كم2، وحجم المياه الموجودة في الخليج لا تزيد على 6000 كم3، وأعمق موقع فيها يصل إلى 100م عند مضيق هرمز، أما متوسط العمق لا يزيد على 35م. ونجد عنق الزجاجة للعلاقات الخليجية العالمية مضيق هرمز الذي أقصى عرض له لا يزيد على60 كم، ومن نفس المضيق تتجدد الدورة المائية في مياه الخليج كل سنتين، بالإضافة إلى ذلك ترتفع نسبة الملوحة في مياه الخليج بشكل مذهل بسبب ضحالة المياه وارتفاع درجات الحرارة التي ينتج عنها زيادة في معدلات التبخر، والعامل الذي يحافظ على توازن مياه الخليج بعدم تحوله إلى بحر ميت بسبب الملوحة، الترسبات المنحدرة من شط العرب وبعض الأنهر الإيرانية الصغيرة إلى مياه الخليج. وعلى الرغم من صغر حجم الخليج وهشاشة بيئته, إلا أنه يوجد فيه وحوله ما يقارب من 65% من الطاقة النفطية في العالم و33.5%  من طاقة الغاز الطبيعي في العالم، بالإضافة إلى الصناعات الكيماوية والمعدنية الضخمة المنتشرة على كل السواحل الخليجية، بالإضافة إلى أن الخليج يتعرض إلى مخلفات المدن والموانئ والمحطات الحرارية لتوليد الطاقة وتحلية المياه وناقلات النفط والسفن بشكل عام، والصيد الجائر، كل ذلك جعل الخليج أحد أكثر البحار تلوثاً في العالم، ويصل معدل التلوث إلى أكثر من 50 مرة مقارنة مع معدل التلوث في المياه العادية.

وعلى الرغم من كل هذا الخطر البيئي الضخم الذي يهدد مياه الخليج، إلا أننا لا نرى أي تعاون يذكر ما بين دول النظام الإقليمي الخليجي، لذلك يجب أن تكون هناك دراسات خليجية دقيقة تركز على كل متر مربع من المياه الخليجية. 

2- السياحة

هذا المحور لو أستغل الاستغلال الأمثل، فمن الممكن أن يساهم في تأطير العلاقات الإيرانية العربية في الخليج العربي، وذلك من خلال تسهيل مهمة السياحة الثقافية والترفيهية والروحية، ففي إيران توجد معالم أثرية وتباين في مظاهر السطح مما يعطيها بيئات مناخية متناقضة ذات مواصفات خاصة، ومدن ساحلية، ويوجد بها مناطق روحية مثل قم ومشهد... إلخ، وفي الجانب العربي من الخليج توجد بعض المناطق الأثرية، والمدن الساحلية، وبعض البيئات التضاريسية مثل جبال البحر الأحمر في السعودية، والجبل الأخضر في عُمان، وتوجد بعض المزارات الدينية في العراق مثل النجف وكربلاء 0 وفي قمة ذلك كله توجد في الجزيرة العربية قبلة المسلمين الأولى مكة المكرمة، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة.

3- إستراتيجية الأمن الإقليمي الخليجي

إن المتتبع لهذا الإستراتيجية، ربما يلاحظ بأن التوتر في العلاقات الخليجية -الخليجية من الممكن تجاوزها إذا استوعب طرفي الخليج قضيتهم الأمنية، وبحثوا لها عن حلول جذرية، مثلاً ألمانيا وإيطاليا كانوا يشكلون دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وأعدائهم المملكة المتحدة وفرنسا وبمساندة الولايات المتحدة الأمريكية يمثلون الحلفاء، ورغم الكوارث البشرية والاقتصادية التي حدثت في الحرب المذكورة، إلا أن الدول الأوربية الأربع المذكورة سلفاً يندرجون تحت آلية السوق الأوربية المشتركة، والتي تصل علاقة التجارة البينية فيما بينهم إلى 65% من قيمة تجارتهم الدولية، والدول الأوربية والولايات المتحدة يندرجون تحت مظلة حلف شمال الأطلسي العسكري الذي يشرف على الأمن العالمي بطريقة مباشرة وغير مباشرة. إذن، إذا نظرنا إلى هذه المشكلة العالمية، فسوف نجد بأن مشكلة مجلس التعاون الخليجي وإيران والعراق صغيرة جداً مقارنة معها، ومن الممكن احتوائها، إذا وجدت الإرادة الإقليمية الصادقة.  ولكن حسب رأينا العلمي المتواضع من خلال هذا التحليل، فلن يحدث تقارب خليجي - خليجي حقيقي، إلا بعد تسوية الخلافات الإستراتيجية القائمة ما بين الجانبين العربي والفارسي في الخليج وهي: 

1- إيجاد تسوية جذرية لقضية جزر، طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى.  

2- تنسيق الأمن الإقليمي الخليجي، مع وجود اتفاقية إقليمية لحفظ توازن التسليح الاستراتيجي في الإقليم. 

3- العمل على إيجاد آلية مناسبة لتسوية النزاع المزمن ما بين إيران والعراق من تسوية أزمة الحدود السياسية المشتركة بينهم، وإيجاد ميكانيزم مناسب لتوزيع المجالات المكانية المائية على شط العرب, والعمل على توحيد جهود الشعبين المسلمين لصالح الأمة الإسلامية، لمواجهة الصهيونية العالمية، والمساهمة في تحرير الأراضي العربية المغتصبة.

4- عمل سيناريو إقليمي لأمن منطقة الخليج، تشترك فيه الثلاث كتل المعنية مباشرة، وهي دول مجلس التعاون الخليجي، وإيران، والعراق، ومقابل هذا التنسيق يبدأ الانسحاب التدريجي للقوى العالمية من الإقليم الخليجي، ممثلة بالولايات المتحدة الأمريكية وبقية حلفاءها الأوربيين، وتقوم الكتل الإقليمية الثلاث بعمل تنسيق أمني اقتصادي عالمي، ما بين دول هذه الكتل، والعالم باتفاقيات موثقة ومصدقة ومعترف بها من ضمن جميع المنظمات الإقليمية والعالمية. 

وفي رأينا أنه لو تم ذلك بالفعل لأصبح هناك ثورة إقليمية إصلاحية في جميع المجالات ما بين إيران والدول العربية في غرب آسيا، وهذه الثورة سوف تكون المرحلة الثانية منها هو ربط هذه الكتل الثلاث وباقي دول غرب آسيا بشبكة شرايين الحياة وذلك يمثل الطرق المعبدة، والسكك الحديدية والأنابيب الهيدروكاربونية، وتطوير الملاحة البحرية والجوية، وعمل شبكة للنقل الكهربائي، وتطوير ثورة نقل المعلومات، وعمل شبكة لأنابيب المياه إذا وجد فائض مع أننا نشك في ذلك. ولكن يبقى المحور الأساسي لنجاح دور شبكة شرايين الحياة، وهو المشاركة الشعبية من جميع مواطني دول غرب آسيا في صناعة القرار السياسي، وتسهيل مرور سيد الأرض الإنسان عبر الحدود السياسية لدول غرب آسيا. ولو نجحت دول غرب آسيا في تطوير ما يسمى بشرايين الحياة كما قال عنه الأب الروحي لعلم الجيوبوليتيكا رودلف كيلين لتمكنت هذه الدول من وضع إستراتيجية لإنشاء كتلة اقتصادية متحدة.  

معين عبد الحكيم: باحث في القضايا الإقليمية(*)

المراجع:

1- آل ثاني، فهد، دراسات في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا، عمان، دار وائل للنشر، 2000م.

2- آل ثاني، فهد، إستراتيجية التنمية في دول مجلس التعاون الخليجي، دار الشرق للنشر والتوزيع، الدوحة، 2001م.  

3- الأهرام، مركز الدراسات الإستراتيجية، العدد الثامن، القاهرة، مارس 2001م. 

4- جريدة الراية القطرية، العدد، 6760، 6763، 6904، 6948.

5- جريدة الوطن القطرية، العدد 2067.  

6- رياض، محمد، الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا، بيروت، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، 1979م.

7- عبد الله، حسين، مستقبل النفط العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نوفمبر 2000م. 

8- مجلة الوسط، لندن، العدد 480، 484، 485.   

9- فصلية ايران والعرب -عدد 26 -السنة الثامنة -شتاء2011.

اعلى الصفحة