الأوراسية الروسية والأوراسية الأمريكية
إستراتيجية جديدة للهيمنة على العالم

السنة الثانية عشر ـ العدد 134 ـ (  ربيع أول ـ ربيع ثاني 1434  هـ ) شباط ـ 2013 م)

بقلم جنان العلي

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

           لعل من مزايا سياسات الدول الكبرى، هو التخطيط الاستراتيجي الذي يتميز بطول الزمن، وبعد الأفق وعمق التقييم، عندما يتعلق الأمر بمصالحها القومية، سواء الأمنية أم الاقتصادية فيما تُغرق هذه الدول، الدول النامية وتلك التي في طور النمو، في أوحال أزمات محدودة، فتبدو هذه الأزمات وكأنها كل القصة.

        وبقراءة أوسع، قراءة إستراتيجية، نجد أن هذه الأزمة في منطقتنا مثلاً، أو تلك الأزمة (وهي أزمات كثيرة على أي حال) ما هي إلا تفاصيل في خارطة إستراتيجية كبرى للدول اللاعبة، وأن هذا الزعيم أو الرئيس أو الملك أو ذاك، ما هو إلا بيدق على "رقعة الشطرنج الكبرى"، وهو بالمناسبة اسم كتاب استراتيجي جدير بالقراءة، ففيه الكثير مما يمكن فهمه وقراءته، ولعل وعسى أن ندرك أننا في أحد الأزقة الصغيرة في المتاهة الكبرى للعبة الأمم.

        في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى- السيطرة الأمريكية وما يترتب عليها جيواستراتيجياً"، يرى زبيغنيو بريجنسكي المستشار للأمن القومي الأمريكي أيام الرئيس جيمي كارتر بين عام1977 و1981، يرى أن أوراسيا ( أوروبا- آسيا) تشكل مكمن التحدي السياسي والاقتصادي للسيادة الأمريكية على العالم، وأن قوة أوراسيا تفوق بشكل كاسح قوة أمريكا.

        جغرافياً، فإن أوراسيا أي( أوروبا- آسيا) تمتد من حدود أوروبا الغربية على المحيط الأطلسي حتى ضفاف الصين وروسيا على المحيط الهادئ في الشرق. وتضم أوراسيا ثلاثة أرباع مصادر الطاقة في العالم، وهي أكبر قارات العالم، وفيها معظم ثرواته وفيها ست دول ضخمة من الناحية الاقتصادية و العسكرية، والدولتان الأكثر سكاناً هما الصين والهند، والدولة الأكبر مساحة وهي روسيا 17.1 مليون كلم2.

        والأوراسيا ليست جغرافيا وحسب، لقد باتت ايدولوجياً تجتاح روسيا، وصارت " موضة" فكرية تجمع حولها الحالمين بتحدي الهيمنة الأمريكية في العالم، والذين لم ينسوا قط الإمبراطورية القيصرية، وأمجاد الاتحاد السوفيتي القوة الثانية المناوئة للقوة الأمريكية.

        ويمكن القول أيضاً، أن الأوراسية باتت مشروعاً، وهي أحد اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في روسيا وفي جمهوريات آسيا الوسطى، واللافت أن نشأة الفكر الأوراسي، يعود إلى العام 1944 إلى أستاذ أمريكي في العلاقات الدولية في جامعة "ييل" الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية، يدعى نيكولاس سبيكمان، وقد قسّم الجغرافيا الأوراسية إلى قلب قاري هو روسيا، ولها امتداد بري يتجاوز 17 مليون كلم2، وإلى هلال كبير من الدول الساحلية، وتشمل كل أوروبا وشبه الجزيرة العربية والعراق وآسيا الوسطى، وإيران وأفغانستان والهند وجنوب شرق آسيا والصين وكوريا، وكل هذه الدول لها مكانتها الجيوسياسية، ولديها إمكانات اقتصادية مهمة. ومنذ الحرب العالمية الثانية، وفي المنظور الاستراتيجي، تشكل المنطقة الأوراسية " منطقة الارتطام" في تنافس القوى الدولية الكبرى للسيطرة والهيمنة على العالم.

        وقد أعتبر بعض المحللين السياسيين، أن دخول السوفييت أفغانستان عام 1979، كان استدراجاً أمريكياً للسوفييت، حيث تم هناك استنزافهم بواسطة قوى محلية أفغانية مدعومة أمريكياً، طوال عشر سنوات. إلى أن أتت الفرصة الأمريكيين، فتفكك الاتحاد السوفيتي إلى دويلات مستقلة في شرق لأوروبا وشمالها ووسط آسيا.

        فعمل الأمريكيون على تقديم إغراءات اقتصادية للدويلات الوليدة لاستقطابها، وبناء قواعد أمريكية فيها، وحث هذه الدول للانضمام إلى حلف الناتو، في محاولة لتطويق الروس ومنع قيام اتحاد جديد يستفيد من المزايا الكثيرة للمنطقة الأوراسية.

        وما حدث وعقب تفكك الاتحاد السوفيتي ساد المجتمع الروسي ما يُسمى بأطلسة روسيا، أو الاطلنطية في مقابل الأوراسية، حيث سادت القيم الغربية، وخصوصاً الأمريكية، وهو ما اعتبره الأوراسيون خطراً قاتلاً لروسيا، وهم الذين عجزوا عن اتخاذ المبادرة وملء الفراغ بعد انهيار الماركسية.

        وفي العام 1994 أعلن الرئيس الكازاخستاني نزار باييف بدء مشروع اتحاد دول أوراسي، وفق مبادئ  أربعة:

        - المنفعة الاقتصادية.

        - التكامل المتعدد الجوانب.

        - توحيد المنظمات السابقة لإقامة الاتحاد.

        - توحيد البلدان تبعاً لجهوزية كلٍ منها.

        ولعله منذ ذلك الوقت تحولت الأوراسية من مجرد نظرية إستراتيجية إلى تطبيق سياسي له فكر وإيديولوجيا. وأظهر أن الفكر الأوراسي سفينة النجاة المرتجاة للمجتمع الروسي الذي صحت أوساط واسعة فيه على مخاطر الأطلسة لروسيا، كما دغدغت الأوراسية أحلام دول في آسيا الوسطى، للتكتل من جديد للاستقواء أمام الهجمة الأمريكية الساحقة في العالم.

        والاستقواء هنا، ليس بالمعنى السياسي أو العسكري، وإن كان جزءاً منه، بل الاستقواء الاقتصادي، فالمسألة تتجه إلى حيازة الموارد، وأي اتحاد أوراسي يمكن أن يتشكل سيكون اتحاداً غنياً بالموارد الطبيعية والبشرية والتكنولوجية والصناعية والزراعية.

        ولو تحقق الاتحاد الأوراسي فإنه يملك ثلاثة ملايين نهر يبلغ طولها عشرة ملايين كلم، تعطي أكثر من 3 آلاف مليار متر مكعب من المياه سنوياً، ما يفسح المجال واسعاً أمام الزراعة وتأمين الغذاء وكسر احتكار الولايات المتحدة الأمريكية للقمح في العالم. وتغذي روسيا أوروبا الغربية بثلث احتياجاتها من النفط، ومن المتوقع أن يصبح الاتحاد قوة اقتصادية عظمى مع توفر الإمكانات النفطية الكبرى لدول مثل كازاخستان.

الفكر الأوراسي

        ولئن تطلع الأوراسيون إلى القوى والمنافع الاقتصادية والجيوسياسية للاتحاد الأوراسي، فإن لديهم تعقيداً فكرياً تاريخياً للطرح الأوراسي، إنه الإيديولوجية بالمعنى الصحيح الحقيقي.

        فمفكرو الأوراسية كما سبق الإشارة، يشيرون إلى الأطلنطية مقابل الأوراسية في السياسة والاقتصاد والثقافة، ولهم رأي في الحضارة الغربية، فهم يرون أنها راكدة ومتلاشية وكل محاولات التجديد والتحديث فيها يقود إلى مزيد من الفشل والتعقيد والأزمات في حياة المجتمعات الغربية. والأوراسية ليست يمينية ولا يسارية، وليست هي ليبرالية أو اشتراكية، إنها تحديداً وحدة شعوب أوراسيا في دولة- قارة تتفاعل حضارياً.

        وتؤمن الأوراسية بما تسميه "التعقيد المزهر" وهو التنوع العرقي الذي يُغني ويزهر، ويخصّب المجتمع الروسي بإثنيات تتشارك في بناء الدولة، الدولة الروسية بالمعنى المحدد، والدولة والقارة الأوراسية.

        ويعتبر الفكر الأوراسي (الروسي) أن روسيا الممتدة في آسيا وأوروبا هي محور التاريخ، وتدور الحضارة حوله (أي حول روسيا) مكتسبة طاقة خلاّقة. وتتخذ الأوراسية موقفاً من الغرب، والأمريكيين بالذات، وكما سوف نرى، يبادلها الأمريكيون موقف الخصومة، فإن لهم رؤيتهم الأوراسية الخاصة، ويعلن بريجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى (وهي هنا تعني أوراسيا) أن أفضل روسيا بالنسبة للأمريكيين هي روسيا غير الموجودة، روسيا المحطمة التي يستغلها جيرانها.

تفاعلات أوراسية

        منذ طرح الرئيس الكازاخستاني بدء مشروع اتحاد دول أوراسيا، بدا أن الفكرة صعبة التطبيق لأسباب مادية وقومية، وقد عقدت ندوات ومؤتمرات وطاولات مستديرة لشرح المشروع وتوضيح آفاقه ومستقبله. واتسعت دوائر الدعوة إلى المشروع، وظهر الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو داعياً إلى اتحاد أوراسيا. وبدأت ملامح التطبيق بصوره الأولية، فتأسس اتحاد روسيا وبيلاروسيا، ثم منظمة شنغهاي والتي تضم روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان وطاجاكستان وتحظى بصفة شريك في الحوار سريلانكا وبيلاروسيا. وتضم هذه المنظمة اثنتين من دول العالم الرئيسية وهما روسيا والصين، مما أثار مخاوف الدول الغربية، خصوصاً وأن دولاً مهمة تدور في فلك المنظمة مثل إيران والهند وأفغانستان وباكستان. وقد أمكن لهذه المنظمة أن تجمع بين روسيا والصين، متجنبة منازعات بينهما في آسيا الوسطى.

        وبالحس الاستراتيجي، طلبت المنظمة عام 2005 من واشنطن تحديد مدة بقائها في آسيا الوسطى( لديها قوات مسلحة) ولكن بدون أي إنذار إلى واشنطن مما أزعج هذه الأخيرة واعتبرته رداً روسياً على الانتفاضات التي حدثت في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا وأوزبكستان والمفارقة هي أن لدى أعضاء المنظمة ( شنغهاي) علاقات واسعة بواشنطن وهي لا تعاديها، وربما في هذا السياق تم تعليق طلب إيران للانضمام إلى المنظمة.

        وقيام منظمة شنغهاي لئن دل بشكل ما إلى أفق أوراسي فهو يدل أيضاً وبشكل أبرز إلى إعادة ترتيب للقوى الدولية في العالم، وهذه المنظمة تلوح بشكل ما للأمريكيين بضرورة أن يراعوا مصالح روسيا والصين في العالم.

        وقد تحتاج أعضاء منظمة شنغهاي إلى مزيد من الوقت كل ما يعلق بينهما من مسائل مثل الأولويات، ففيما ترى الصين أن أولوياتها الأساسية في كل علاقاتها الدولية هي المصالح والنفوذ الاقتصادي فإن روسيا تعطي الأولوية للمسائل الأمنية.

بوتين.. الأوراسي

        وقد اتخذ المشروع الأوراسي زخماً جديداً مع وصول بوتين إلى الرئاسة فقال: "إن الطاقة التي تحملها الأفكار الأوراسية تكتسب أهمية فائقة اليوم حين نبني علاقات متساوية حقاً بين بلدان الرابطة" وقد كرر بوتين مراراً أنه لن يكون لأي اتحاد أوراسي وضعية الاتحاد السوفيتي بالمعنى الاستتباعي، بل المساواة بين الدول، والسيادة لكل دولة. إنه مشروع للتكامل الجديد ولتطوير علاقات روسيا مع إيران وتركيا، خاصة وأن مصالح مشتركة تجمع بين هذه الدول. إشارة إلى أن المشروع (الاتحاد الأوراسي) ليس غريباً عن إيران وتركيا وسائر دول آسيا الوسطى، فهي على علم به وتدور حوله نقاشات ودراسات كثيرة، ولا شك أن حصول الاتحاد بين دول مختلفة الثقافة واللغة والحضارة في أوروبا أو ما يسمى بالاتحاد الأوروبي، شكّل حافزاً لروسيا وغيرها من دعاة الاتحاد الأوراسي إلى تحقيق هذا المشروع.

        وقد أعلن بوتين في الأول من تشرين الأول عام 2000 " أن روسيا هي دولة أوراسية" وهذا التعبير على إيجازه يحمل برنامجاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً لسياسة بوتين ولمستقبل روسيا، وقد بادرت روسيا عام 2011 إلى توقيع الاتحاد الجمركي مع بيلاروسيا وكازاخستان، وكان قد تم التوقيع على اتفاقية الأمن الجماعي بين روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجاكستان وأوزبكستان. "إنه المستقبل الذي يولد اليوم" على حد تعبير الرئيس بوتين، ويشرح في كلام له في الثاني من كانون الثاني 2012 "أن الفضاء الأوراسي المشترك بين بيلاروسيا وكازاخستان وروسيا سيبدأ فعلياً، وستلغى التأشيرات بين هذه البلدان بعد أن ألغيت الإجراءات الجمركية وسيتم لاحقاً اعتماد عملة موحدة على طريقة الاتحاد الأوروبي".

        ويرى بوتين أن في هذا الاتحاد تكاملاً لصيقاً على أساس قيمي وسياسي واقتصادي، ويقترح وحدة عابرة وقوية للقوميات من شأنها أن تصبح أحد أقطاب العالم المعاصر. وهنا بيت القصيد، أن يصبح قطباً مؤثراً في العالم المعاصر، والاتحاد الأوراسي ليس أي قطب، إنه قطب كاسح للهيمنة الأمريكية في العالم.

الأوراسية الأمريكية

        في هذا الوقت لا نجد غفلة أمريكية عن الأهمية الجيوسياسية لأوراسيا، فهذا الأمر لفت انتباه الأمريكي، كما سبق الإشارة منذ العام 1944، في أول قراءة أوراسية للجغرافية السياسية لأوروبا وآسيا، وقد يكون على الأمريكيين السعي للعمل على خطين:

        1- خط تفكيك أي تكتل يقوم، يمكن أن يؤشر لأوراسيا مضادة لسياستها في المنطقة.

        2- خط اجتذاب الجمهوريات في آسيا الوسطى بإغراءات اقتصادية لإبعادها عن أي تكتل معادٍ.

        ويظهر مجدداً كتاب "رقعة الشطرنج الكبرى" لزبيغنيو بريجنسكي حيث يرسم خريطة الصراع العالمي، فيقوم بإعادة بلورة الفكر الاستراتيجي الأمريكي تجاه الأوراسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، ويرى أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحرم روسيا من ثلاث دول ركائز جيوسياسية مهمة بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية وهي أوكرانيا، وأوزبكستان وأذربيجان. فإن أوكرانيا تطل على البحر الأسود المؤدي إلى المضائق التركية وعدد سكانها لا يتجاوز الخمسين مليون نسمة، وأي وجود أمريكي في أوكرانيا سيمنع روسيا من نشر أساطيلها مؤثرة بذلك على أوروبا وآسيا.

        وتظهر الأهمية البالغة لأوزبكستان في آسيا الوسطى، حيث تشكل مركز الدائرة في آسيا الوسطى، وهي دولة غنية بإمكاناتها الهيدروليكية والزراعية، فيما تطل أذربيجان على بحر قزوين وهي مجاورة لروسيا.

        والوجود الأمريكي في أوكرانيا وأذربيجان هو وجود على البحر الأسود الذي يعتبر منفذاً لروسيا على البحر الأبيض المتوسط، وهو (أي الوجود الأمريكي) وجود على بحر قزوين مستودع البترول في آسيا الوسطى. ويعتبر زبيغنيو بريجنسكي أن من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية التواجد في العمق البري لآسيا الوسطى خاصة في أوزبكستان. كما يعتبر أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية توثيق علاقتها بألمانيا وفرنسا، من أجل بناء أوروبي متماسك مرتبط بها وبدون بناء أوروبي لا يمكن بناء منظومة تعاون أوراسي- أطلنطي وهو الخيار الأفضل والأهم للإدارة الأمريكية في مواجهة أي استيقاظ للطموح الجيوسياسي الروسي تجاه أوروبا الوسطى.

        إن من مصلحة الإستراتيجية الأمريكية حسب بريجنسكي هو أن  التعدديات الجيوسياسية في المنطقة الأوراسية وبقاء خطوط التماس العقائدي بين الدول لمنع قيام تحالف كيانات معادية للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه على الأمريكيين البحث عن شركاء استراتيجيين لبناء نظام أمني أوراسي أطلنطي.

اعلى الصفحة