العدوان الإسرائيلي على السودان
ترجمة لأهداف قديمة - جديدة

السنة الثانية عشر ـ العدد 134  ـ ( صفر ـ ربيع الأول  1434  هـ ) كانون الثاني 2013 م)

بقلم: مأمون الحسيني(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لا يمكن النظر إلى العدوان الإسرائيلي على مجمع اليرموك للتصنيع الحربي في الخرطوم، مؤخراً، والذي لم يحظَ بما يستحق من الاهتمام السياسي والدبلوماسي والإعلامي، فقط من زوايا استهدافاته المباشرة التي أجمع على أنها تنحصر في اعتباره بمثابة "البروفة" على الضربة المقبلة لإيران، ومحاولة تنفيس الاحتقان الذي خلّفه تراجع نتنياهو أمام أوباما في قضية الضربة العسكرية ضد طهران، وتوجيه رسائل تهديد إلى كل من سوريا و"حزب الله" والمقاومة الفلسطينية، فضلاً عن كونه يشكل رسالة داخلية انتخابية، ومحاولة لفرض الطابع الأمني والسياسي على الانتخابات التي يحاول خصوم رئيس الوزراء أن يجعلوها استفتاءً على السياسة الاقتصادية والاجتماعية.

وإنما ينبغي النظر إليه (العدوان) كذلك من زاوية اندراجه في سياق محاولات التغلغل الإسرائيلي- الأمريكي في السودان الغني بالثروات الإستراتيجية والطبيعية، والتي تعود إلى ستينيات القرن المنصرم، وفي مقدمها، راهناً، الضغط على الخرطوم ودفعها لترجمة الاتفاقات الموقعة مع جوبا التي تربطها علاقات تحالفية متينة مع تل أبيب، ناهيك عن العمل على ما يمكن تسميته "ضبط الجبهة الجنوبية" التي تزعم إسرائيل إنها باتت أوسع بكثير من الحدود مع قطاع غزة وبعض جيوب شبه جزيرة سيناء.

مسلسل العدوان.. والذرائع الساقطة

هذا العدوان الذي يشكل إحدى الحلقات في سلسلة الهجمات التي شنَها سلاح الجو الإسرائيلي على هذه الدولة العربية، أعاد إلى الأذهان أحداثاً سابقة مماثلة شهدها السودان خلال السنوات الأخيرة: ففي أيار/ مايو العام 2012، قصفت طائرة إسرائيلية سيارة ناصر عوض الله، المتهم من قبل تل أبيب بتهريب السلاح إلى قطاع غزة، في منطقة بور سودان. وفيما سارعت الحكومة السودانية إلى تحميل إسرائيل المسؤولية، اكتفت الأخيرة بنقل الخبر عن الإذاعة السودانية الرسمية من دون تعليق. وفي نيسان/ إبريل العام 2011، اتهمت الخرطوم تل أبيب بالوقوف وراء غارة جوية على سيارة في بور سودان سقط فيها قتيلان، فيما عُرف بحادثة عربة "السوناتا". وفي ذلك الوقت أكد النائب عن حركة "حماس" الفلسطينية إسماعيل الأشقر أن الغارة كانت تستهدف قيادياً في الذراع العسكرية للحركة، لكنه نجا منها. وتقدمت السلطات السودانية حينها بشكوى إلى مجلس الأمن.

وبالتزامن مع زيارة رئيس جنوب السودان سيلفا كير إلى إسرائيل في كانون الأول/ ديسمبر 2011 نشرت صحيفة "الانتباهة" السودانية المستقلة خبراً يفيد بـ"قيام إسرائيل بغارتين على شرق السودان لاستهداف منقّبي الذهب قبالة الحدود السودانية المصرية".

وكان الملفت تعاطي الصحف الإسرائيلية بشكل جدي مع هذه المعلومات، في وقت أشار بعضها إلى أن الغارتين استهدفتا قوافل سيارات كانت تهرّب سلاحاً إلى غزة. وفي الشهر ذاته، اتُّهِمَ متمردون من جنوب السودان إسرائيل بقتل زعيم التمرد الجنرال جورج أطور في منطقة موربو مع اثنين من كبار القادة الميدانيين وخمسة من حراسه، وذلك عبر قوة خاصة.

وفي كانون الثاني/ يناير 2009، وفي ذروة العدوان الإسرائيلي السابق على قطاع غزة والذي سمي عملية "الرصاص المسكوب"، اتهمت السودان إسرائيل بشن هجوم على قافلة شاحنات كانت محملة بالأسلحة في شرق السودان نتيجة اشتباه بأنها تهرّب السلاح لحركة "حماس"، وقتل في الغارة حينها حوالي 119 شخصاً، وحينها أكدت واشنطن الهجوم وحملت إسرائيل المسؤولية عن تنفيذه. وقد ألمحت الخرطوم، في البداية، إلى ضلوع الولايات المتحدة، ثم أشارت لاحقاً إلى تقارير تؤكد التورط الإسرائيلي، في وقت نقلت تقارير عن مصادر أمنية في إسرائيل حصول "الموساد" على معلومات دقيقة تفيد أن السلاح الذي تمَّ تدميره على الأراضي السودانية هو إيراني ومن بينه صواريخ "فجر" التي يبلغ مداها 70 كيلومتراً. ولم تكن تلك الغارة منفردة فقد أفادت مصادر غير رسمية عن وقوع ثلاث غارات، اثنتين منها بطائرة من دون طيار والثالثة بحرية. وفي العام 1998، قصفت الولايات المتحدة مصنع "الشفاء" للأدوية في شمال الخرطوم، بحجة أن أسلحة كيميائية تنتج فيه. ولم تقدم واشنطن حينها أدلة دامغة على الاتهام، في وقت اتهمت مصادر سودانية إسرائيل بالمشاركة في العملية.

وعلى الرغم من أن إسرائيل الرسمية لم تقدم أية تفسيرات لهذا العدوان الأخير الذي اعتبره العديد من المحللين بمثابة رسالة ضعف، وليس قوة، كون المجمع الحربي السوداني هدفاً بلا دفاعات، وخارج إطار توقعات الاستهداف، وما سيعقب الهجوم من تداعيات ليس بشديد الأهمية، لاسيما وأنها (إسرائيل) لم تتبنَ بالأساس هذه العملية التي أكدت مجموعة "ساتلايت سنتينيل بروجيكت" غير الحكومية، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرّاً لها، أنها نفذَت بواسطة ضربات جوية، إلا أن صحافتها تكفلت بذلك، وقدمَت ذرائع وحججاً ومبررات تمحورت حول رواية مركزية تفيد بأن "المسألة ليست السودان وإنما إيران". وحيثية ذلك، وفق الصحف العبرية، هي أن ثمة حلفا دفاعيا أبرم، قبل أربع سنوات ونصف، بين شمال السودان وإيران جعل البلاد تتحول إلى "مستعمرة إيرانية".

وحسب تقرير صحافي إسرائيلي نشر يوم 29/ 10 الماضي، فإن قصف مصنع "اليرموك" للأسلحة في العاصمة السودانية استهدف شحنات أسلحة متطورة من صنع إيراني كانت سترسل إلى قطاع غزة، وليس مصنع الأسلحة نفسه. ونقل المحلل العسكري في موقع "يديعوت أحرونوت" الالكتروني، رون بن يشاي، عن مصدر غربي وصفه بأنه "موثوق للغاية" قوله إنه "لو وصل قسم صغير من هذه الأسلحة إلى غايتها في قطاع غزة لكان من شأنها أن تشكل تهديداً خطيراً على إسرائيل والجيش الإسرائيلي. وأشار بن يشاي إلى أن شحنة الأسلحة هذه لا تحتوي على أسلحة كيميائية أو طائرات صغيرة من دون طيار كما نشرت وسائل إعلام عالمية. مضيفاً أنه يرجح أن قسماً من هذه الأسلحة على الأقل "وخصوصاً منظومات الأسلحة الخاصة والحديثة" تم صنعها في إيران وغايتها حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني وفصائل أخرى في قطاع غزة "التي تتمتع برعاية وتمويل إيرانيين". ووفقاً للمحلل الإسرائيلي، فإن طريق إيصال شحنة الأسلحة هذه إلى القطاع كانت ستتم عبر البر ومروراً بالأراضي المصرية وليس عن طريق البحر الأحمر إلى سيناء، وذلك بهدف الابتعاد عن أعين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وتجنب استهدافها. ويبدو، حسب بن يشاي، أن الأسلحة في مصنع "اليرموك" لا تصل من إيران فقط وإنما من مخازن الأسلحة الليبية التي تم اقتحامها في أعقاب سقوط العقيد معمر القذافي ويشتريها الإيرانيون أو الفلسطينيون.

ويتابع التقرير الإسرائيلي، أن شحنة الأسلحة التي تم قصفها شملت صواريخ إيرانية من طراز "فجر" وربما صواريخ أكثر تطورا يزيد مداها عن 70 كيلومتراً، وصواريخ مضادة للطائرات وربما صواريخ أرض – بحر من صنع إيراني "التي قد تشكل خطرا على أعمال التنقيب (الإسرائيلية) عن الغاز والنفط مقابل شواطئ جنوب إسرائيل" وعلى البوارج البحرية الإسرائيلية التي تشدد الحصار على القطاع، وقامت بقصفه خلال العدوان الأخير.

من جانبه، أفاد المحرر العسكري لصحيفة "يديعوت أحرنوت" إليكس فيشمان، بأن إسرائيل "امتلكت معلومات أكيدة بشأن وجود قواعد عسكرية إيرانية في العاصمة السودانية الخرطوم، ومن أبرز هذه القواعد معسكر اليرموك الذي يتحكم عدد من القادة أو الخبراء الإيرانيين في عمله، الأمر الذي دفعها (إسرائيل) إلى ضرب هذا المعسكر الذي كان يصنع بعضاً من الأسلحة" التي وصفها فيشمان بالخطيرة على أمن كيان الاحتلال، والتي كانت في طريقها إلى حركة "حماس" في غزة. وأشار إلى أن "الإيرانيين اختاروا إنشاء مركزهم اللوجستي الذي يديرون منه تهريب السلاح الى غزة وحزب الله في السودان"، لاسيما وأن "تضييق المصريين على عبور السفن العسكرية الإيرانية ويقظتهم حيال التدقيق في السفن العابرة من القناة وإليها، دفعاهم إلى اختيار السودان، حيث يستطيعون الرسو في موانئه وتهريب السلاح برّاً منه". ويضيف فيشمان في عدد "يديعوت أحرنوت" الصادر يوم 27/ 10 الماضي، بأن الإيرانيين أقاموا في السودان مصانع للسلاح الخفيف والذخيرة.

البلد الأكثر خطورة!!

وبصرف النظر عن الرواية الإسرائيلية حول مدى وعمق العلاقة الإيرانية - السودانية، وعن مزاعم تحوَل هذه البوابة الإفريقية الإستراتيجية إلى مقرَ وممرَ للأسلحة التي تصل إلى قطاع غزة أو إلى المجموعات المسلحة في سيناء، وذلك على الرغم من نفي وزارة الخارجية السودانية والمتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية رامين مهمانبرست، وجود أي صلة لإيران بمجمع اليرموك للصناعات العسكرية، واتهام الأخير إسرائيل باستخدام "هذه الذريعة للتغطية على جرائمها"، واعتباره أنها تمر "بأزمة خانقة وأضعف من أن تتمكن من شن هجوم على إيران"، فإن ما ينبغي تأكيده هو أن الدولة العبرية تعتبر السودان هو البلد العربي الأكثر خطورة بسبب مساحته وثرواته، وبسبب موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر. وقد سبق وأن تناول وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق آفي ديختر، في محاضرة ألقاها في العام 2008، نظرة تل أبيب للسودان وأهمية هذا البلد، وخاصة لجهة إمكانية تحويله إلى قوة منافسة لمصر والعراق والسعودية، كما العمل على إلغاء الخوف من كونه عمقاً استراتيجيا لمصر، كما أشار إلى حجم الثروات التي يمكن جنيها إن تمّ سحب جزء من مياه النيل، وركّز على النجاح في تطويق الأمن العربي والضغط على مصر، خاتما بالقول: "يجب ألا يُسمح لهذا البلد، على الرغم من بعده عنّا، بأن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي، لأن موارده إن استُثمرت في ظل أوضاع مستقرة فستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب".

ولذا، كان على إسرائيل والجهات الداعمة لها وحلفائها الأفارقة، كأثيوبيا واريتريا وأوغندا، ومؤخرا دولة جنوب السودان،، أن تعمل على إبقاء الخرطوم في حالة دفاع دائم، ومفاقمة أزماتها مع إنتاج وإضافة أزمات جديدة.

ويبدو أن نصيب هذه السياسة العدائية حيال السودان من النجاح كان وافرا، حيث ساهمت إسرائيل بفعالية في تقسيم السودان، ونجحت في نسج علاقات عسكرية وأمنية واقتصادية مع دولة الجنوب التي تحولت إلى ممر أساسي للإستراتيجية الإسرائيلية نحو إفريقيا جنوب الصحراء. ويوضح التدقيق في الجذور التاريخية لهذه العلاقة أن "الاستثمار الاستراتيجي" الإسرائيلي في دعم استقلال جنوب السودان كان مجدياً تماماً، حيث يقدم العميد في جهاز الموساد الإسرائيلي “موشى فرحى” في كتابه المعنون “إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان” (الصادر عن مركز دايان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية بجامعة تل أبيب عام 2003)، رواية الجنرال السوداني الجنوبي، المؤسس الفعلي للحركة الشعبية والجيش الشعبي، جوزيف لاقو (في أحاديثه لوسائل إعلام إسرائيلية خلال العامين الماضيين) التي تتحدث عن الدور الإسرائيلي الملموس في دعم استقلال الجنوب، والمنطلق من مبدأ "التحالف المحيطي" الذي يتضمن إقامة علاقات مع الدول والقوى المحيطة بالوطن العربي للحفاظ على مصالحها في المنطقة، والذي تبنتَه إسرائيل منذ عهد رئيس حكومتها الأول دافيد بن غوريون.

وتفيد رواية لاقو، وفقا لحديث مع أحد كبار الإعلاميين الإسرائيليين من القناة العاشرة، أنه ذهب إلى إسرائيل للمرة الأولى في العام 1968 عبر وسائل ملتوية، وذلك بعد أن كتب رسالة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك ليفي أشكول يهنئه فيها على الفوز في حرب الأيام الستة، ويطلب منه الدعم لـ "شد وثاق الجيش السوداني ومنعه من الوصول إلى مصر لمحاربة إسرائيل". وبعد رحيل ليفي أشكول، في تلك الفترة، طلبت خليفته غولدا مائير إحضار لاقو بأي وسيلة، بعد أن "انتبهت إلى الفرصة الذهبية التي تسمح بدق إسفين في قلب دولة عربية معادية لإسرائيل".

بعد اللقاء جرى الاتفاق على تزويد لاقو بالأسلحة والعتاد، حيث بدأت الأسلحة تصل من إسرائيل إلى المتمردين في جنوب السودان، وذلك عبر مظلات كانت تُلقى في أماكن محددة. كما أنشأت إسرائيل، بحسب لاقو، في تلك الفترة، تحالفا مع أثيوبيا، وتمّ تعزيز دعم الجنوبيين والعمل على تدريبهم.

في موازاة ذلك، اعترف عاموس يادلين الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية المعروفة اختصارا بـ"أمان"، خلال تسليمه لمهام منصبه لخليفته، بدور إسرائيل الكبير في مساعدة الحركات الانفصالية بالجنوب السوداني، حيث قال بوضوح: "لقد أنجزنا خلال السنوات الأربع والنصف الماضية كل المهام التي أوكلت إلينا، واستكملنا العديد منها، والتي بدأ فيها الذين سبقونا". وأضاف: "أنجزنا عملاً عظيماً للغاية في السودان، نظمنا خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية في جنوبه، ودربنا العديد منهم، وقمنا أكثر من مرة بأعمال لوجستية لمساعدتهم، ونشرنا في الجنوب ودارفور شبكات رائعة قادرة على الاستمرار بالعمل إلى ما لا نهاية، ونشرف حاليا على تنظيم "الحركة الشعبية" هناك، وشكلنا لهم جهازاً أمنياً استخباراتياً".

التقسيم.. ورزمة المكاسب الإسرائيلية

وعليه، كان من الطبيعي أن تكون إسرائيل أول دولة في العالم تعترف رسمياً بالدولة الجديدة المنشقة في جنوب السودان، وأن تعلن، بعد شهر واحد فقط، افتتاح سفارة لها في جوبا "لدعم العلاقات التطبيعية بين البلدين". وخلفية هذه السرعة والغبطة لدى حكام تل أبيب هي أن انهيار السودان وتقسيمه يحققان لإسرائيل الكثير من المكاسب، سواء السياسية أو الاقتصادية، لعل أهمها، كسر إحدى حلقات دعم المقاومة الفلسطينية، وفتح الباب أمام التغلغل المخابراتي الصهيوني لرصد التحركات المناوئة للدولة العبرية داخل السودان، وخصوصاً التحركات الإيرانية بعد تطور العلاقات ما بين الخرطوم وطهران.

أما في المحور الاقتصادي، فيمكن القول إن الأطماع الصهيونية في الثروات الطبيعية للسودان بدأت في الظهور مع بروز الدور الصيني في القارة الإفريقية عموما، وفي السودان على وجه الخصوص، لاسيما بعد توقيع الصين لعدد من الصفقات والاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية مع حكومة الخرطوم تقدَر بمليارات الدولارات. وفي الجنوب ثمة ما يُغري إسرائيل بتعزيز علاقاتها مع الدولة الوليدة التي تضم أكثر من 8 ملايين نسمة، وذات احتياطيات نفطية مهمة (المرتبة 23 في العالم) كانت توفر نحو 90% من العملة الصعبة للسودان الموحد (سابقاً).

وقد بيّن الإسرائيليون أن مجالات التعاون مع جنوب السودان ستشمل قطاعات الزراعة والغابات والنفط والتعدين والتكنولوجيا والطرق والجسور والكهرباء، وغيرها. وحسب تقارير صحفية حديثة، فإن مبعوثين إسرائيليين ناقشوا مع حكومة جوبا إنشاء خزان للطاقة الكهربائية في مدينة "نمولي" (خلال فترة وجيزة)، وشق قنوات للمياه، كما بدأ مستثمرون إسرائيليون بإنشاء محطة لتنقية المياه بين النيل الأزرق ودولة إثيوبيا على حدود جنوب السودان. وفي المستقبل المنظور، كمثال، يمكن للعديد من رجال الأعمال الإسرائيليين الذين يرسلون معامل النسيج وسواها إلى الصين أن يتوجهوا بدلاً من ذلك إلى جنوب السودان، خصوصاً وأن الأجور هناك متدنِّية جداً.

إلى جانب ذلك، فإن إقامة دولة في جنوب السودان على علاقات قوية مع إسرائيل سيفتح الباب أمام تل أبيب للحصول على مياه نهر النيل وتزيد من فرض سيطرتها عليها، عبر بناء المزيد من السدود وإقامة المشروعات المائية، كما سبق وأن فعلت في إثيوبيا؛ لتكون ورقة جديدة تلاعب بها مصر، لتضييق الخناق عليها وابتزازها هذه المرة سيكون سياسياً واقتصادياً.

وقد تمت ترجمة الخطوة الأولى لهذا التوجه من خلال توقيع اتفاقية تعاون للبنية التحتية المائية والتنمية التكنولوجية بين البلدين، فقد أعلن، قبل نحو شهرين، عن مشروع مشترك بين ألمانيا وإسرائيل وكينيا لتطهير مياه بحيرة فيكتوريا التي تشكّل المنبع الرئيس لنهر النيل، وتعتبر أكبر خزان للمياه العذبة في أفريقيا، وذلك بهدف "إعادة الثروة السمكية إليها وإبادة نباتات مائية ضارة سيطرت على البحيرة"، ما يعني إمساك السودان ومصر، اللتين يطغى التوتر على علاقاتهما مع معظم دول حوض النيل والمعروفة بدول المصب: إثيوبيا والكونغو الديمقراطية وكينيا وإريتريا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وأوغندا، من خاصرتهما الرخوة، وشد الخناق المائي عليهما، ورفع منسوب الابتزاز السياسي والاقتصادي والأمني ضدهما، وصولاً إلى ما هو أفظع وأشد خطورة.

وتبقى المكاسب الأمنية العسكرية التي تطمح إسرائيل في تحقيقها في بلدان منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل المجاورة للسودان، حيث ثمة مصلحة إسرائيلية في صفقات بيع الأسلحة التي تدر مبالغ طائلة، ومواجهة التهديدات المحتملة الموجهة لها من داخل القارة، والحصول على معلومات دقيقة حول ما يجري في المنطقة. وهناك تقديرات تفيد بأنه، وبفضل المساعدة التي تلقتها من دولة جنوب السودان، تمكنت إسرائيل من شن نحو أربع غارات، على الأقل، خلال السنوات الأربع الماضية، على قوافل سودانية زعمت إسرائيل أنها كانت تحمل أسلحة ومقاتلين إلى قطاع غزة. وفي هذا الصدد، تعمل إسرائيل على إنشاء قاعدة جوية في منطقة "فلج" بجنوب السودان، بهدف تدريب الطيارين الحربيين الجنوبيين، لتؤكد بذلك على الأهمية القصوى التي توليها لهذه الدولة، التي أصبحت بالفعل جزءاً رئيسياً من الإستراتيجية الإسرائيلية نحو أفريقيا جنوب الصحراء. كما تعتزم إسرائيل بناء ثكنات لقوات الحدود ومستشفيات عسكرية، وإنشاء مركز بحوث للألغام في جوبا، كما تسلّمت استخبارات ما يسمى "الجيش الشعبي" و"وحدة الأمن الرئاسي" في دولة جنوب السودان من إسرائيل أسلحة إسناد حربية وكمية من أسلحة المدفعية وعدداً من الراجمات وأجهزة للرصد والاستشعار الحراري، طبقاً لتقارير صحفية نشرت مطلع كانون الثاني/ يناير الماضي.

وارتباطا بهذاً البعد العسكري- الأمني، ثمة حضور لملف اللاجئين الأفارقة الذي يؤرق نظام الأبارتايد الإسرائيلي، حيث تشير بعض الإحصاءات المتوافرة أنه يوجد في إسرائيل نحو 8000 سوداني تسللوا خلال السنوات الماضية. وقد شغل هذا الملف حيزاً مهما في مباحثات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ورئيس دولة جنوب السودان سيلڤا كير الذي اعترف بأن دولته ما كانت لتقوم لولا الدعم الإسرائيلي، حيث اقترح الأول، خلال لقاء الجانبين في القدس المحتلة، إقامة معسكرات في جنوب السودان لإيواء جميع المتسللين الأفارقة الذين تعيدهم إسرائيل، وأن يتولى المدير السابق لمكتب وزارة الحرب الإسرائيلية فيكتور بارجيل إدارة هذه المعسكرات والإشراف عليها، وذلك في مقابل مساعدة الدولة الجنوبية الحديثة العهد في الزراعة والتكنولوجيا والأمن الداخلي.

في كل الأحوال، وبعد تقسيم السودان وسط عجز عربي مخجل ينذر بسقوط مزيد من الدول العربية في براثن التفتت والتحول إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، وتحت ظلال الصمت العربي المطبق الذي بات يغري إسرائيل بمواصلة استباحة الأرض والأجواء والمياه الإقليمية العربية، وباستثناء الرد الإيراني على هذه العربدة الإسرائيلية الذي تجلَى بإرسال مجموعة من القطع البحرية التي تضم حاملة المروحيات "خارك" ومدمرة "الشهيد الأميرال نقدي" إلى ميناء بور سودان شمال شرق السودان، تحت عنوان "إعلان رسالة السلام والصداقة وحفظ أمن خطوط النقل والملاحة البحرية لمواجهة ظاهرة القرصنة البحرية"، جاء العدوان الأخير على مجمع اليرموك للتصنيع الحربي في الخرطوم، ليؤكد أن العرب و"ثوراتهم" و"انتفاضاتهم" باتوا خارج معادلة الصراع على شكل وطبيعة النظام الإقليمي (والدولي)، والتي ستكون على حسابهم في حال استمرار بقاء الحال على ما هو عليه.

كاتب فلسطيني(*) 

اعلى الصفحة