نظرة إسلاميّة حول القرارات الدوليّة

السنة الثانية عشر ـ العدد 134  ـ ( صفر ـ ربيع الأول  1434  هـ ) كانون الثاني 2013 م)

بقلم: جعفر محمّد حسين فضل الله

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

منذ نهايات القرن الماضي، بدا واضحاً أنّ نجم الإسلاميّين إلى بريقٍ متزايد، وصعودٍ إلى مواقع التأثير في حركة السياسة الإقليمية والدوليّة؛ بل بالإمكان النظر إلى فاعليّتهم بأسبق زماناً بعشرات السنين، وذلك عندما كانت الأنظمة الاستبداديّة تستبعدهم عبر تصويرهم في صورة فزّاعة للمصالح الغربيّة الاستكباريّة، ممّا كان يستدعي الإبقاء على حياة تلك الأنظمة عبر غضّ النظر عن سياسة القمع التي كانت تمارسها على الإسلاميّين عموماً.

اليوم، الإسلاميّون في مواقع السلطة، على تنوّعها. فهم على رأس دول إسلاميّة، كما في إيران وأفغانستان، أو يُمسكون بالقرار الحاسم في أكثر من دولةٍ بعد الثورات العربيّة، كما في العراق ومصر وليبيا وتونس، أو يقودون حركات مقاومة ضدّ الاحتلال، كما في فلسطين ولبنان؛ بل باتوا ـ كحركة مقاومة ـ جزءاً من المعادلة الإقليمية والدوليّة في حركة الصراع في ما يُسمّى الشرق الأوسط.

سلطة الإسلاميّين الصاعدة أو المتشكّلة تقع في إطار نظام دولي مضى على تشكّله أكثر من نصف قرن؛ إذ تقف على إدارة حركة الصراعات في العالم اليوم منظّمة الأمم المتّحدة، بكلّ فروعها، وأهمّها مجلس الأمن الدولي، الذي يقع على نقطة تقاطع مصالح قوى كُبرى عالميّة، تمتلك قوّة نفوذ وحسم إيجابي وسلبي على سائر دول العالم؛ هي الولايات المتّحدة الأمريكية، الصين، روسيا، بريطانيا، وفرنسا؛ الدول التي تمتلك حقّ النقض(الفيتو) لأيّ قرار يصدر عن مجلس الأمن.

وبالتالي، لم يكن الإسلاميّون، بل ولا دولهم الراعية، جزءاً من القرار الفاعل بإنشاء المنظّمة الدوليّة، بل كان العالم العربي والإسلامي تتقاسمه الدول الكُبرى، وبالتالي فموافقة الدولة العربيّة والإسلاميّة على قرار إنشائها دور المنفعل الذي لا يملك الكثير ممّا يُمكن أن يعدّل أو يغيّر في المنظّمة الدوليّة المُنشأة.

وبعبارة أخرى، إذا كان إنشاء المنظّمة يقوم على معاهدة بين الدول، فإنّ منطق التعاهد يفترض أن تكون نتيجة توافق الجميع قبل إنشائها، ومن الواضح أنّ هذا لم يحصل في وقتٍ كان العالم فيه منقسماً إلى منتصر ومهزوم، وكانت الحربان العالميّتان تدفعان الدول ـ نفسيّاً وعمليّاً ـ في اتّجاه إيجاد عنصر توازن ولو في حدّه الأدنى.

هذا لا يعني ـ بالضرورة ـ أنّ القواعد التي تقوم عليها منظّمة الأمم المتّحدة تقع على طرف نقيض مع القواعد التي يتبنّاها الإسلاميّون في القواعد النظريّة للحركة الإسلاميّة، ولاسيّما في مسألة حقوق الإنسان وكثير من القواعد النظريّة للعدالة بين الدول؛ ولكن فرقٌ بين أن تكون جزءاً من حركة التشكيل والبناء وبين أن توافق عليه حيث لا يُمكن لك إلا أن تقبل بالأمر الواقع باعتباره أفضل الممكن، مع انعدام البدائل في هذا المجال. هنا نحاول أن نحدّد موقفنا كإسلاميّين من عدّة أمور:

أوّلاً: في أصل إنشاء المنظّمة الدوليّة

لا شكّ في أنّ وجود منظّمة عالميّة ترعى السلام العالميّ وتعملُ على تحقيقه، مسألةٌ ذات حيويّة كُبرى في الإسلام؛ بل هي الدور الأساسيّ في العلاقات الدوليّة التي ينشئها، وقد شهد النبيّ محمّداً(ص) قبل الإسلام حلفاً روي عنه(ص) فيه قوله: "شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت"، يعني حلف الفضول، سمّي به تشبيها بحلفٍ كان قديماً بمكّة أيّام جُرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القويّ، وللغريب من القاطن، قام به رجال من جُرهم كلّهم يسمّى الفضل، منهم الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة". ولسنا هنا في مقام الاستدلال بالرواية على شرعيّة عقد مثل هذه الأحلاف، حتّى يُناقَش في صحّة الرواية؛ لأنّ الأدلّة العامّة الواردة في ضرورة إقامة العدل ورفع الظلم والتعاون على البرّ ووجوب الوفاء بالعقود وما إلى ذلك كافيةٌ للحكم بشرعيّة كلّ تعاهدٍ أريد من خلال تحقيق تلك العناوين ذات الأولويّة القصوى في الحياة.

لكن، حيث لم يكن الإسلاميّون جزءاً أساسيّاً من عقد معاهدة المنظّمة الدوليّة ولا من المفاوضات الجارية لإنشائها، ولا هم كانوا قوّة فاعلة في صوغ قيمها التي تحكم عملها، ولا في نُظُمها حتّى الإداريّة منها التي ينبغي أن تكفل استقامة عملها؛ وحيثُ أمكن لكثير من التفاصيل أن تفرض نفسها في مقام التشكيك في آليّات العمل ووسائله الموصلة نحو أهداف المنظّمة، مع الغضّ عن إمكانيّة النقاش النظري، ولو التفصيلي، في تلك الأهداف من خلال رؤيتنا الإسلاميّة للسلم العالميّ، فإنّه ليس هناك ما يفرض ـ بالضرورة ـ على الإسلاميّين أن يعترفوا بالشرعيّة الشاملة لكلّ ما فيها، بل لا بدّ أن يقوموا بالدراسة التفصيليّة لقواعدها ونُظمها وآليّاتها، ولذلك لهدفين:

الأوّل: تحديد الموقف الإسلامي من الانسجام مع قرارات المنظّمة الدوليّة بشكل عامّ؛ لأنّه لا يصحّ للإسلاميّين أن يقبلوا بشرعيّة أيّ جهة ما لم تحز على الشرعيّة الإسلاميّة، الناشئة من موافقتها للقواعد العامّة التي يتّبعونها في هذا المجال. لا نقول هنا إنّ الشرعيّة تدور مدار أن يكون عنوان المنظّمة إسلاميّاً؛ فإنّ هذا لا محلّ له في مثل منظّمة عالميّة يُراد لها أن تجمع بين دولٍ مختلفة المشارب والأديان، بل الشرعيّة هنا تنبع من المواءمة للقواعد والنُظُم التي تشكّل أساس عمل الإسلاميّين؛ بل ربّما نقول هنا بإمكانيّة أن تكون الشرعيّة نسبيّة، ترتكز إلى العناوين الثانويّة التي تفرض التعاهد على نظامٍ ما هو الخيار الوحيد في مقابل الفوضى والحروب. لكن نقول إنّ الموافقة على العناوين العامّة والشعارات التي تأخذ المنظّمة الدوليّة على عاتقها تحقيقها، لا يعني الموافقة على الآليّات التي قد يراها الإسلاميّون، أو أيّ جهة أخرى، غير موصلة إلى تلك الأهداف.

الثاني: إنّ النقاش الجادّ والمسؤول في أيّ من مفردات المنظّمة الدوليّة يُمكن له أن يشكّل مساهمة فكريّة حضاريّة من قبل الإسلاميّين عبر إبراز نقدهم الموضوعي للآليّات التي تتحرّك بها منظّمة الأمم المتّحدة، بل المضامين التي ينبغي أن تتضمنّها العناوين والشعارات التي تأخذ بها.

وإنّنا نرى أنّ المساهمة النظريّة للإسلاميّين في أيّ من القضايا العالميّة أمرٌ ملحٌّ جدّاً، ويكتسب أهمّية كُبرى في تعريف العالم بالإسلام، بشرط أن ينطلق الإسلاميّون ليخاطبوا العالم بالذهنيّة التي يفهمها، لكي نكون وإيّاه على لغة مشتركة، في طبيعة المفردات وفي أسلوب الخطاب. وهذا ما يفرض على الإسلاميّين أن لا يستحيوا من أن يطرحوا وجهات نظرهم من موقع خصوصيّتهم الإسلاميّة بكلّ قوّة المنطق والفكر؛ فإنّ من ينظّرون فكريّاً في الغرب ليست عقولهم من ذهبٍ وعقولنا من تراب!.

ونحن نُدرك أنّ طبيعة موازين القوى لا تسمح بكبير تأثيرٍ في ذلك، إلا أنّ الإسلاميّين معنيّون بصوغ رؤاهم في كلّ ما هو ناجزٌ ومؤثّر على المسرح الدولي وفي حركة الصراع بين القوى العالميّة والإقليمية وغيرها، ولاسيّما أنّ العالم كلّه أصبح قرية كونيّة واحدةً، بحيث باتت أسماء الشوارع الداخليّة لبلدٍ صغير على الخارطة، كلبنان، تتردّد على ألسنة قادة الدول الكُبرى عندما تكون المسألة جزءاً من إدارة صراعٍ أو تجاذب قوى... أو لكي يتعرّف الإسلاميّون ـ على الأقلّ ـ كيف يتحرّكون في مشاريع على هذا المستوى إذا امتلكوا القدرة على التأثير.

ومن نافل القول هنا، إنّ التنظير الإسلاميّ يفرض حالةً من انفتاح الاجتهاد لدى كلّ المذاهب، لا لكي نوائم الإسلام مع ما تقتضيه القوانين والشرائع الدوليّة؛ فإنّ معنى ذلك إلغاء فكر الإسلام لمصلحة فكر الآخرين... بل لكي يبقى الفكر الإسلامي الاجتهادي في حركة متجدّدة لدراسة المستجدّات على ضوء النصوص؛ فلعلّ فيها ما لم يلتفت إليه السلف من العلماء والفقهاء، ولا شكّ أنّ المسألة هنا دقيقة وحسّاسة، وهنا يأتي دور الآليّات التي تضبط التفكير الفقهي لكي لا ينزلق إلى حالةٍ تبريريّة للأوضاع القائمة وإلباسها لبوساً إسلاميّاً، من دون أن تكون في الحقيقة منسجمةً مع قواعد الإسلام ونصوصه.

وربّما نحتاج، ولو مرحليّاً في انتظار أن تتبلور لدى الأمّة الإسلاميّة، بكل مذاهبها، فكرة انفتاح الاجتهاد، من أن ننفتح على كلّ الآراء والنظريّات والتجارب الإسلاميّة، دونما تقوقع في إطار مذهبيّ معيّن؛ لأنّ ذلك يُعطينا هامشاً من الطروحات الإسلاميّة، ولو على نحو الاحتمالات أو النظريّات؛ فإنّ ذلك أفضل من أن يُغيّب الرأي الإسلاميّ بالكامل.

هذا كلّه على المستوى الفكري والنظري؛ ومن المهمّ لنا النظر إلى المسألة من الزاوية الواقعيّة، وتحديداً في حركة مجلس الأمن الدولي الذي يمثّل نقطة الارتكاز في حركة المنظّمة الدوليّة وفاعليّتها.

ثانياً: شرعيّة القرارات الدوليّة

ونقف هنا تحديد عند شرعيّة قرارات مجلس الأمن؛ لأنّها الأكثر تأثيراً تجاه ما نمرّ به من تحدّيات ومشاكل رجوعاً إلى نصف قرنٍ وأكثر.

لا يختلف اثنان من الجادّين في قراءة الأمور، على أنّ مجلس الأمن الدولي نقطة ارتكاز لشبكة من المصالح للدول التي تملك التحكّم بمسار القرارات التي تصدر عنه، وهي الدول الخمس التي تملك حقّ النقض (الفيتو)؛ بل يُمكن النظر على أنّ مجلس الأمن يمثّل الإطار التنظيمي لحركة الصراع بين تلك الدول، حتّى لا يتحوّل ـ بسرعةٍ ـ إلى صراعٍ مسلّح يُنذر بشرّ مستطير، بل يتحرّك وفق إيقاع معيّن يجري فيه تدوير الزوايا في كثير من الأحيان لكي يخدم أيّ قرار مصلحة جميع الفاعلين.

ولقد رأينا أنّ العالم العربي والإسلامي قد مثّل، على أثر انهيار الاتّحاد السوفيتي، نقطة ارتكاز في حركة السياسة الدوليّة، وقد شكّل مجلس الأمن الدولي مسرحاً لقرارات طائرة من هنا وهناك، حتّى أصبح ما سمّي بالشرق الأوسط محور حركة السياسة العالميّة خلال العقود الثلاثة الماضية؛ بل خلال نصف قرنٍ إلى الوراء؛ وذلك لسببين:

الأوّل: وجود الكيان الصهيوني الذي أريد تثبيته كحقيقة وحيدة في قلب العالم الإسلاميّ والعربيّ، فكانت القرارات الصادرة من مجلس الأمن تواكب حركة الأرض بما يمهّد الأرض والرأي العامّ الدولي لقبول شرعية هذه الدولة القائمة على الاغتصاب والقتل والتدمير.

الثاني: الثروات الطبيعية التي تنعم بها منطقتنا، حيث تبدو المنطقة في حركة التخطيط الاستراتيجي كبقرة حلوبٍ تدرّ نفطاً وغازاً وتمثّل سوقاً استهلاكيّة لمنتجات الشركات الكبرى.

إضافةً إلى ذلك، كان لانهيار الاتحاد السوفيتي أثرٌ في إعادة توجيه البوصلة نحو الإسلام والمسلمين، من قبل حلف الأطلسي الذي هو المتحكّم الأساس بالمنظّمة الدوليّة ومجلس الأمن والمهيمن على حركة السياسة الدولية بشكل وبآخر.

وعلى هذا الأساس، كان مجلس الأمن منحازاً بالكامل، بسبب اختلال موازين القوى لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، إلى كيان العدوّ فيما يخصّ قضيّة تحرير فلسطين؛ بل قد لا يُمكننا رؤية أيّ سياسة أمريكية للولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، بل هناك سياسة إسرائيليّة تنفذها الخارجيّة الأمريكية، وذلك واضحٌ من خلال القرارات التي صدرت في وجه الاحتلال الإسرائيلي والتي لم تكن إلا لحفظ ماء الوجه، أو في لحظة تشابك مصالح ما لبثت أن تحوّلت واقعيّاً إلى حبر على ورق، كالقرار المتعلّق بحقّ العودة أو بالانسحاب من الأراضي التي احتلّها كيان العدوّ في 1967، وغير ذلك؛ ولذلك نجد أنّ حركة مجلس الأمن تتنكّر لهذه القرارات نفسها في ما آلت إليه الضغوط على الفلسطينيّين لمصلحة العدوّ الصهيوني، لكي يتنازل أولئك عن حقوقهم بفعل اختلال موازين القوى على أرض الواقع.

وذلك جليّ في استعمال الإدارة الأمريكية لحقّ النقض المتكرّر تجاه أيّ إدانة للمجازر الصارخة التي كانت "إسرائيل" ترتكبها بحقّ الفلسطينيين واللبنانيّين وغيرهم في أكثر من حربٍ عدوانيّة. أمّا ما نُفّذ من قرارات، كالقرار 425 الذي يطالب قوّات العدوّ الإسرائيلي بالانسحاب من لبنان على أثر احتلال 1982، فقد نُفّذ على الأرض بفعل جهاد المقاومة الإسلاميّة والوطنيّة اللبنانيّة.

وفي ميدان آخر، وكصدىً للإستراتيجية السياسيّة الاستكباريّة نفسها، كان مجلس الأمن حاضراً لصوغ قرارات تجاه إيران والعراق أفغانستان وليبيا وسوريا، تخدم المشاريع التي أخذت عنوان "الشرق الأوسط الجديد" الذي بشّرت به الإدارة الأمريكية على دويّ صواريخ العدوّ الإسرائيلي، التي كانت تنهال على لبنان وغزّة... واللائحة تطولُ وقد حُفرت في ذاكرة الأمّة بالدم والحديد والنار، فلا داعي للتذكير بها هنا.

لكنّنا نقول: لا يجوز للفرد المسلم أن يقبل بشرعيّة المنكر؛ والمسألة هنا تُقاس بشكل تفصيليّ، لا بنحوٍ إجمالي ليُقال إمّا أن تقبلوا بالشرعية الدولية جملة واحدة أو أنتم خارج إطارها بالكامل؛ فإنّ المُنكر والشرّ والظُلم أمورٌ تُقاسُ بأدقّ الموازين، وبالقطعة الواحدة ـ بالتعبير الشائع ـ؛ لأنّنا إذا قبلنا بالإطار العامّ للأمم المتّحدة، لأنّه ينسجم مع عناوين إنسانيّة أو إسلامية عامّة، في ظلّ انعدام البدائل، فإنّه لا يصحّ أن يقبل المُسلم، أو الإنسان الذي ينشد العدل عموماً، بكلّ ما يصدر من ذلك الإطار، الذي هو عبارةٌ عن تجمّع قوى ومصالح، اختبرنا ابتعادها عن منطق العدالة إلا فيما خصّ مصالحها.

وعلى هذا الأساس، لا يُمكن أن يُطلب من الإسلاميّين، ولا يجوز لهم أن ينزلقوا، إلى استخدام المصطلحات التي توحي بالخضوع لمفاعيل السياسة الدوليّة التي يحتضنها مجلس الأمن، وليست إلا صدىً لحركة مصالح الدول الكُبرى، فضلاً عن الإقرار بشرعيّتها.

نقولها هنا لأنّنا ـ مع كلّ الأسف ـ وتحت ضغط حركة الفتنة المذهبيّة، أصبح بعضُ الإسلاميّين، أو هكذا يُوحى، ينطلقون وكأنّ القرارات الدوليّة كتابٌ منزل، بحيث بتنا نخشى أن يتشوّه الحسّ الإسلاميّ لدى الأجيال الشابّة، التي تستمع إلى كثير من القيادات، وبعضُها ديني، وهي تستخدم مصطلح "الشرعية الدوليّة" في وجه إسلاميّين آخرين.

بكلّ عقلٍ ووعي، ينبغي علينا ـ كإسلاميّين ـ أن نفرّق بين القضايا الكُبرى والقضايا الجزئيّة عند قراءتنا للقرارات الدوليّة، أو للمواقف السياسيّة التي تطلقها الدول الكُبرى، بعدما اختبرنا كذبها تجاه قضايانا على مدى عقود طويلة، وبالتالي لا يجوز لنا ـ كإسلاميّين ـ أن ننزلق، تحت ضغط مفردات جزئيّة داخليّة، أو ضمن تأجّج الشعور المذهبيّ من خلال أكثر من عاملٍ، لننسجم مع دعوات تتطابق مع قرارات دوليّة؛ لمجرّد أنّها صادرة عن مجلس الأمن باعتباره يمثّل "الشرعية الدوليّة"! كالقرار 1559، أو كالقرارات المتعلّقة بالمحكمة الدوليّة المُنشأة في قضيّة اغتيال الرئيس الحريري عام 2005م، أو غيرها من القرارات المرتبطة بالأوضاع الإقليمية، العربيّة والإسلاميّة.

نحن لا نريد أن ندخل في جدلٍ حول مسألة العدالة في مسألة الاغتيالات أو غيرها، وسبُل تحقيقها وضرورتها؛ لأنّ البديل ليس منحصراً في المحاكم الدولية التي اختبرنا وظائفها في أكثر من قضيّة أو بلد، كما أنّنا لا ننكر أنّ المفردات والقضايا الجزئيّة الداخليّة في هذا البلد أو ذاك، والتنافر المذهبي الموروث تاريخيّاً، كلُّ ذلك يُعتبر فجوةً تؤثّر في كلّ ذلك، ولا سيّما أنّها تمثّل المنافذ للسياسات المتنوّعة لتعبث بساحتنا غير المحصّنة تجاه كثير من حالات الصراع المذهبي والطائفي؛ ولكنّ ذلك لا يعني الاستغراق بها بحيث تحكم كلّ تقويمنا للأوضاع الجارية من حولنا، بحيث نأخذ بالمنطق المرفوض الذي يقول: (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً)، ولا يعني التنازل عن قواعدنا الإسلاميّة الشرعية، والإنسانيّة المرتبطة بالعدالة، لمصلحة الواقع الدولي المعلوم صفةً ونسباً.

في كلّ الأحوال، نملك، كشعوب، الحقّ في مواجهة القرارات الدوليّة عندما تريد أن تحرّك مشاريع استكباريّة ظالمة تجاه حاضرنا ومستقبلنا، عندما نمتلك الإرادة على المواجهة وتحمّل الأعباء والتكاليف، كما قال تعالى: ﴿الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم، إنّما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين﴾؛ وقد اختبرنا ذلك واقعيّاً، في التاريخ والحاضر، وليست المسألة مسألة إيمانيّة فحسب.

هذا كلّه مع كون الإسلاميّين قلّة يخافون أن يتخطّفهم الناس؛ أمّا مع صعود الإسلاميّين إلى مواقع القرار والسلطة في المنطقة، فإنّ من غير الجائز أن يكونوا مسلوبي الإرادة والشخصيّة أمام كلّ الواقع الدولي ومنظّماته وقراراته، إذا ما أرادوا أن يحترمهم العالم، ويقدّرهم التاريخ عندما يكتب عن البطولات والمواقف وتجسيد المبادئ؛ بل ينبغي عليهم أن ينظروا إلى المصلحة العليا لشعوبهم، في المديين الآني والاستراتيجي، ويحاولوا أن يتحرّكوا بثقلهم التنظيري والواقعيّ ليفرضوا أنفسهم كشريك في صوغ نظام عالميّ جديدٍ، فاعلٍ في قراراته، غير منفعلٍ فحسب، ولا مسحوق الإرادة أمام إرادات المستكبرين.

وهذا ما يحتّم علينا كإسلاميّين أن ننطلق لنتلاقى على أرضية الحوار، لنناقش كلّ القضايا التي تعصف بالعالم اليوم، ليفهم بعضُنا بعضاً على الأقلّ، إن لم نستطع أن يقنع بعضُنا البعض بوجهة نظره، إضافةً إلى ما أشرنا إليه سابقاً من ضرورة الاستفادة من الاجتهادات المتنوّعة، وعدم مصادرة الفكرة الإسلاميّة برمّتها من قبل أحدٍ أو جهةٍ أو فئة. 

اعلى الصفحة