الحرب العدوانية الصهيونية على قطاع غزة: أبعادها وتداعياتها

السنة الحادية عشر ـ العدد132 ـ ( محرم ـ صفر 1434  هـ ) كانون أول ـ 2012 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

التوقيت الذي اختاره العدو الصهيوني لهذه الحرب على غزة  كان ملفتاً ومفاجئاً بلا شك. فقد شنت إسرائيل الحرب على قطاع غزة بطريقة الصدمة والترويع، من خلال اغتيال القائد العسكري  لكتائب عز الدين القسام أحمد الجعبري في مدينة غزة، وشن جملة غارات جوية على العديد من المنشآت والقواعد التابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في مناطق مختلفة من القطاع جنوباً وشمالاً. ثم إن اغتيال الجعبري من وجهة نظر نتنياهو، يوازي في أهميته، حسب رأي صحيفة "هآرتس"، اغتيال زعيم "القاعدة "أسامة بن لادن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.

أما الإطار الأوسع لتوقيت هذه الحرب. ومن وجهة نظر الإسرائيلية، كان الجعبري مدرجاً على قائمة المطلوبين، إذ تقول إسرائيل إنه مسؤول عن عمليات عسكرية عدّة، ومن بينها عملية أسر الجندي جلعاد شاليت في العام 2006، وهو تولى بعد خمس سنوات تنسيق عملية الإفراج عنه في إطار صفقة ضخمة لتبادل الأسرى.

لقد جاء العدوان الصهيوني على قطاع غزة بعد فوز الرئيس باراك أوباما بولاية ثانية في الانتخابات الأمريكية التي جرت يوم 6 نوفمبر 2012، حيث وفرت تلك الإدارة الغطاء السياسي لهذه الحرب وما رافقها من جرائم وانتهاكات لكل القوانين والأعراف الدولية. ولا يشكل توصيف العملية العسكرية الإسرائيلية بأنها حرب بديلاً عن الطابع الأساسي لها وهو كونها عملاً عدوانياً صهيونياً على الشعب الفلسطيني، بل هو استكمال لتوصيفها. فهي حرب عدوانية صهيونية مبيتة ضد شعبنا الفلسطيني في كل أماكن تواجده، داخل فلسطين المحتلة وخارجها. وهي منفصلة بالتأكيد عن كافة الذرائع التي ساقها الكيان الصهيوني لتبرير تلك الحرب أو تسويغها سياسياً وقانونياً وأخلاقياً. إنها حرب لأنها:

1- جاءت استجابة لظروف إسرائيلية داخلية، تتعلق بالتوازنات الحزبية الإسرائيلية، وبسعي قوى رئيسية في الكيان الصهيوني إلى تعزيز مكانتها الشعبية، وبالتالي فرص فوزها بالانتخابات العامة واحتفاظها بالسلطة. فقبل ثلاثة أشهر من الانتخابات المبكرة  يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الفوز بها على منافسيه، من خلال حفظ أمن الإسرائيليين،باعتباره هاجساً مقلقاً لهم. وفي تجمع فاشي مثل التجمع الصهيوني في فلسطين، فإن الحرب والعدوان، والعمل على إلغاء الخصم التاريخي المتمثل في الشعب الفلسطيني، تشكل الرافعة السياسية الرئيسية لأي حزب صهيوني.

2- تم التخطيط لهذه الحرب بصورة مسبقة، وتم خلق الظروف المؤدية لها، وحظيت باتفاق وتوافق النخبة السياسية الإسرائيلية، سواء الحاكمة منها أو المعارضة. فالحكومة الإسرائيلية تسعى إلى عرقلة مسعى السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس  التي تخوض معركة دبلوماسية على الصعيد الدولي من أجل التوجه إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة لطلب التصويت على اعتماد فلسطين دولة غير عضو في المنظمة الدولية وفق حدود 1967، وما يرتبه ذلك من اعتبار الأراضي الفلسطينية المتنازع عليها، أراضي محتلة من قبل إسرائيل، ما يعدّل قواعد التفاوض بين الجانبين عليها.

3– لما كان بنيامين نتنياهو انحاز إلى المرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية  الأمريكية الأخيرة التي فاز فيها باراك أوباما، فإنه أراد من خلال الحرب على غزة، أن يستعيد العلاقة الحميمية بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يختلف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن توجيه ضربة عسكرية ضد إيران، نظراً لتفضيله الحل الدبلوماسي. وقد نجح نتنياهو في تحقيق هدفه، إذ أيد أوباما إسرائيل في عدوانها الأخير على قطاع غزة.

ولم يكن مفاجئاً أن القوى اليمينية والفاشية الصهيونية كانت الأقدر على استثمار هذه الحرب واستغلال نتائجها لصالحها، خصوصاً وأن هذه الحرب تحقق الأهداف التي سعى الصهاينة إلى تحقيقها عن طريق تفجير الوضع، وتوريط الإدارة الأمريكية. فقد انهزم الرئيس باراك أوباما أمام نتنياهو حين نكث بالتزاماته في مطلع ولايته الأولى تجاه القضية الفلسطينية، لاسيما في موضوع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس.

4- جنّدت المؤسسة العسكرية الصهيونية لهذه الحرب نخبة قواتها الجوية والبرية والبحرية. وهي تحاول أن تختبر، مدى قدرة الأنظمة الإسلامية الجديدة في كل من مصر وتونس وليبيا، التي جاءت إلى السلطة عقب ربيع الثورات العربية، لتجسيد طموحات وأهداف الجماهير العربية في مقاومة السياسة الأمريكية المنحازة دائماً لإسرائيل، ونصرة الشعب الفلسطيني من أجل تحرير أرضه السليبة. وهذا ما جعل الرئيس المصري محمد مرسي يقول عقب أدائه صلاة الجمعة بأحد مساجد ضاحية التجمع الخامس، مخاطباً إسرائيل: "نؤكد لهم أن الثمن سيكون باهظًا لاستمرار العدوان، وعليكم تحمّل المسؤولية... لن تستطيعوا احتمال وقفتنا أبداً". وتابع: "أقول لهؤلاء (الإسرائيليين) باسم الشعب المصري كله إن مصر اليوم مختلفة عن مصر أمس، وعرب اليوم مختلفون عن عرب الأمس، أقول بكل ثقة إن مصر لن تترك غزة وحدها".

5- كان إسقاط خيار الكفاح الفلسطيني المسلح، هو الهدف الاستراتيجي التاريخي للكيان الصهيوني من هذه الحرب، وهو هدف سعى العدو على امتداد العقود الماضية أن يحققه، وكانت التقديرات الصهيونية تنطلق من أن هذا الهدف بات أقرب للتحقق، لاسيما بعد أن خرجت السلطة ومعها بعض القوى الفلسطينية من ميدان المواجهة المسلحة مع الكيان الصهيوني، وبعد أن جنح النظام الرسمي العربي بكامله تقريباً من ميدان المواجهة إلى خيار "السلام" والتصالح مع المشروع الصهيوني، وبعد أن انفصلت  حركة "حماس" عن "محور الممانعة" (الإيراني – السوري)، وبالتالي  خدمة أهدافه الإقليمية، المتمثلة في تحسين شروط العلاقة مع الولايات المتحدة.

غير أن التطورات الميدانية على الأرض سجلت دخول غزة في معادلة" الردع" عندما أعلنت "كتائب القسام"و"سرايا القدس" قصف مستوطنات في القدس المحتلة، وتل أبيب، وفي الضفة الغربية بمئات الصواريخ التي أطلقت من غزة.ومن هنا فقد اكتسب صمود المقاومة وتصديها لهذه الحرب وإحباط هدفها الاستراتيجي، بعداً جديداً، تمثل في تمسك الشعب الفلسطيني ومن ورائه شعوب الأمة العربية والإسلامية بخيار المقاومة ومواصلة التصدي للهجمة الصهيونية الجديدة، ورفض منح الوجود الصهيوني أي شرعية على أرض فلسطين.

الاعتبارات الصهيونية للعدوان

1- إن الكيان الصهيوني هو الذي أعلن هذه الحرب على الشعب الفلسطيني، وهو الذي اختار توقيتها وطابعها العام، الذي اتسم بالهمجية والوحشية واستهداف المناطق المدنية وتعمد إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية بين صفوف المدنيين الفلسطينيين.

2- إن الكيان الصهيوني هو الذي صنع مقدمات وذرائع هذه الحرب العدوانية، فهو الذي أغلق كافة المعابر وأحكم الحصار التمويني والمعيشي على الشعب الفلسطيني، وهو الذي نقض شروط التهدئة السابقة ورفض الالتزام بتعهداته والتزاماته المتضمنة في بنود تلك التهدئة.

3- إن الطرف الفلسطيني المقاوم لم يسع إلى هذه الحرب، ولم يكن له مصلحة في خوضها، ولم يختر توقيتها، ولكنه عندما فرضت عليه هذه الحرب العدوانية، ثبت في ميدان المواجهة.

لقد شن الكيان الصهيوني هذه الحرب متسلحاً بترسانة عسكرية رهيبة وبإجماع شعبي صهيوني. وبحماس شديد لها من كافة القوى الصهيونية، وفي ظروف إقليمية ودولية ملائمة للكيان الصهيوني، في سبيل تحويل الشعب الفلسطيني إلى كتلة سلبية لا حول لها ولا قوة، إلى فائض سكاني بلا قضية ولا مقاومة، من خلال ما يسمى "كي الوعي". أي أنّ تَحمل الكلفة البشرية الهائلة والدمار الواسع الشعب الفلسطيني على عدم التفكير مستقبلاً بمهاجمة الكيان الصهيوني، والامتثال لإرادة العدو، والاستجابة لمخططاته. "كي الوعي" بهذا المعنى هو المرادف لقوة الردع، التي كانت تحمل أي طرف عربي قبل حرب صيف العام 2006 على لبنان على عدم التفكير في يوم من الأيام بمهاجمة الكيان الصهيوني، لكن عقب هذه الحرب، فقد الصهاينة قدرة الردع باعتراف لجنة فينوغراد. لذلك اعتبر وزير الحرب الصهيوني أيهود باراك في محاضرة له في عام 2009 من محرقة "الرصاص المسكوب"، أن هذه الجبهة (قطاع غزة) ستكون معياراً للنصر أو الهزيمة. وربما لأهميتها المفصلية في تحديد مسار مستقبل الكيان الصهيوني دعا أفيغدور ليبرمان إلى قصف غزة بقنبلة نووية. أو ليس هذا هو التطبيق الأمثل، والترجمة الأفصح، لشعار بن غوريون "العربي الطيب هو العربي الميت"؟.

4- إن الكيان الصهيوني لا يخفي مطامعه في السيطرة على احتياط قطاع غزة الضخم من الغاز الموجود في مياهها الإقليمية، والذي قدرت شركة "بريتش غاز" الدولية حجمه بما لا يقل عن 1.4 تريليون قدم مكعبة. في دراسة موثقة لميشال شوسودفسكي بعنوان" الحرب والغاز الطبيعي: الغزو الإسرائيلي وحقول الغاز قبالة شاطئ غزة" نشرتها "غلوبال ريسارتش" 8/1/2009 جاء "ثبت أنّ للغزو العسكري لقطاع غزة بواسطة القوات الإسرائيلية علاقة مباشرة بالسيطرة على احتياطات الغاز الإستراتيجية الكامنة قبالة الشاطئ وتملكها". وبحسب شوسودفسكي، اكتشفت احتياطيات غزة الإستراتيجية من الغاز الطبيعي العام 2008، وكانت سلطة الحكم الذاتي قد منحت شركة "بريتش غاز بي جي غروب"، وشريكتها التي تملكها عائلتا صباغ وخوري اللبنانيتان (من أصل فلسطيني)، والمعروفة باسم (سي سي سي)، رخصة للتنقيب عن النفط والغاز بموجب اتفاق موقع في تشرين الثاني 1999. وجرى تقاسم الحقوق المتعلقة بهذه الحقول الغازية على أساس النسب المئوية: 60% لـ "بريتيش غاز" و30% لـ (سي سي سي) و1% للسلطة الفلسطينية. كما انطوى الاتفاق المذكور على بنود بخصوص تطوير حقول الغاز وإنشاء أنابيب لنقل كمياته المستخرجة. ويقول شوسودفسكي: إن الرخصة المعطاة لـ "بريتيش غاز"، تغطي كامل المساحة البحرية قبالة شاطئ غزة، وتجاور بضعة مرافق غازية صهيونية تقع إلى الشمال منها. حفرت "بريتيش غاز" بئرين سنة 2000، قدرت على أثرهما احتياطات الغاز قبالة شاطئ غزة، يبلغ حجمها 1.4 تريليون قدم مكعبة، ولا تقل قيمتها عن 4 مليارات دولار. أما حجم احتياطات الغاز العائدة لفلسطين، فإنها أكبر بكثير.. ويؤكد شوسودفسكي أن السيادة على حقول غزة الغازية مسألة بالغة الأهمية.

شارون لدى وصوله إلى رئاسة الحكومة العام 2001 رفض سيادة السلطة الفلسطينية على احتياطات الغاز البحرية وقدم دعوى بهذا الخصوص إلى المحكمة العليا، وصرح بأن "إسرائيل لا يمكن مطلقاً أن تشتري غازاً من فلسطين". موحياً بذلك أن حقول غزة الغازية تخص الكيان الصهيوني. ولم يتوانَ عام 2003 عن نقض صفقة كانت تخول "بريتيش غاز" تزويد الكيان بكميات من بئري الغاز قبالة شاطئ غزة. ومع وصول أيهود أولمرت إلى رئاسة الحكومة، حدث تغير طفيف في سياسة الكيان الصهيوني إزاء استثمار حقول الغاز. إذ أجازت الحكومة اقتراحاً لأولمرت عام 2007 يقضي "بشراء الغاز من السلطة الفلسطينية". كانت قيمه الصفقة 4 مليار دولار، وقيمة أرباحها 2 مليار، يذهب مليار إلى السلطة الفلسطينية. غير أنّ تصميم الكيان الصهيوني على عدم مشاركة الفلسطينيين في تقاسم عائدات الغاز. دفع الحكومة الصهيونية إلى تأليف لجنة من الخبراء من أجل إعادة درس القضية لأن "السلطات الإسرائيلية تريد أن يجري تسديد الفلسطينيين حصتهم ببضائع وخدمات مع التصميم على ألا يذهب أي مال لحكومة حماس". إزاء تصميم حكومة الكيان الصهيوني على عدم تمكين الفلسطينيين من الحصول على مال من استثمار حقول النفط بدعوى الحؤول دون منع الإرهاب، اضطرت "بريتش غاز" في كانون الأول العام 2008 إلى قطع المفاوضات مع الكيان الصهيوني وإغلاق مكاتبها فيه. ومع وصول القضية إلى هذا المفترق يقول شوسودوفسكي، بدأ الكيان الصهيوني يخطط لغزو غزة، وكان أن وضعت عملية "الرصاص المصهور" قيد الإعداد في حزيران 2008. في هذا المجال تعزو صحيفة "هآرتس"، إلى مصادر عسكرية صهيونية قولها "إنّ وزير الدفاع باراك كلف جيش الدفاع إعداد خطة الغزو خلال ستة أشهر (أي في حزيران أو قبل حزيران 2008)، وذلك في الوقت الذي كان فيه الكيان الصهيوني قد بدأ بالتفاوض لعقد اتفاق التهدئة مع حركة حماس. وفي حزيران اتصلت السلطات الصهيونية بـ "بريتيش غاز" من أجل معاودة المفاوضات المتعلقة بشراء الغاز الذي تستخرجه من حقول غزة. وكان واضحاً – يقول شوسودفسكي – أن قرار حكومة أولمرت بتسريع المفاوضات مع "بريتيش غاز" تطابق زمنياً مع التخطيط الناشط لغزو غزة. وبالفعل جرى استئناف المفاوضات، في تشرين الأول 2008، أي قبل ثلاثة أشهر من مباشرة قصف غزة في 27/12. وهكذا يتضح دون شك أن أحد مقاصد الحرب هو إيجاد وضع سياسي وقانوني جديد يمكن استثماره لتحويل "السيادة" على حقول الغاز الغزاوية إلى الكيان الصهيوني(1).

التداعيات العربية للعدوان الصهيوني

لا شك أنّ العدوان الصهيوني، الذي تجلى في الحرب المعلنة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وضع العالم العربي على حافة الانفجار، فإما أن يتدارك النظام الرسمي العربي(بشقيه الأنظمة الجديدة المنبثقة عن  الربيع العربي، والأنظمة الأخرى المتنوعة في انتماءاتها للمحاور الإقليمية والدولية) مفاعيل هذا الانفجار بشكل إيجابي أو يُفرَض عليه الانصياع للمخططات الصهيونية - الأمريكية المعادية لتطلعات وطموحات الأمة العربية والإسلامية في التحرر.

وفي الواقع لم تكن الحرب الإسرائيلية المعلنة ضد الشعب الفلسطيني في غزة لتصل إلى ما وصلت إليه لولا التخاذل الرسمي العربي. إذ أنّ النظام الرسمي العربي لم يدرك أنّ الشعب الفلسطيني، كما كان دائماً، يقف في خط الدفاع الأول عن الأمة في مواجهة الأطماع الصهيونية للتوسع والهيمنة على المنطقة. كما لم يدرك أنّ عجزه عن ردع العدوان على غزة يجعل خيار السلام الذي أعلنه منذ مؤتمر مدريد في العام 1991، وأعاد تأكيده حين تبنى المبادرة العربية في قمة بيروت لعام 2002، في مهب الرياح العاتية.

فالحرب الإسرائيلية على غزة، لم تكن تعبر عن تفاقم التناقض الإسرائيلي- الفلسطيني فحسب، بل كانت تعبر بصورة أخرى عن انفجار التناقض بين محورين متباينين في رؤاهما الإستراتيجية، وفي مصالحهما الإقليمية والدولية: المحور الأول، ويتكون من الولايات المتحدة الأمريكية, والدول العربية المتواطئة، والسلطة الفلسطينية، والاتحاد الأوروبي، وبالطبع إسرائيل. والمحور الثاني، وتتزعمة إيران، ويتكون من سورية، و"حزب الله"، و"حماس". وتعتبر حركة "حماس" هي الطرف الأضعف في هذا المحور الإقليمي، الأمر الذي جعل إسرائيل تخوض الحرب ضدها لا على إيران أو سورية أو "حزب الله".

ولم تكن الحرب الإسرائيلية على غزة، تستهدف معالجة مسألة الصواريخ التي تطلقها حركة المقاومة الفلسطينية فحسب، بل إنها تستهدف القضاء على دولة "حماس" المسلحة المستقلة، حيث إن لدى حماس جيشا يتألف من 15000 مقاتل، وتملك أيضاً ترسانة كبيرة من الصواريخ.. صواريخ "قسام" محلية الصنع، و"كاتيوشا" روسية الصنع، تحصل عليها الحركة من خلال الدعم الإيراني، وصواريخ "غراد" تهرب عن طريق أنفاق سيناء. وتسيطر "حماس" على قطاع غزة الذي يقطنه 1.5مليون نسمة.

وفي خضم العدوان الصهيوني على غزة، اتجهت الأمور أكثر فأكثر، نحو تكريس الانقسام العربي من خلال بروز المواقف العربية المتباينة من العدوان، والتي عبرت عن نفسها بإصرار بعض الدول العربية على الدعوة إلى قمة طارئة في الدوحة تحت قوة الضغط الشعبي العربي والإسلامي، ورفض البعض الآخر لها. تساؤلات كثيرة يثيرها الواقع المرير الذي تمر فيه العلاقات العربية- العربية لاسيما تحت وطأة المحرقة المستمرة بحق فلسطينيي غزة، تساؤلات لكل الأشقاء الذين لا يمكن أن يستثنى أحد منهم "ممانعين" في شعاراتهم وطروحاتهم كانوا أو "واقعيين"، "متصالحين" مع إسرائيل، ومطبعين جهاراً مع الدولة العبرية في الإعلام والتجارة والمؤتمرات والمعارض على أنواعها.

لا يمكن لأي من الدول العربية أن تتنصل من مسؤوليتها عما حصل ويحصل وما يمكن أن يحدث من تداعيات هذا العدوان الصهيوني على غزة. وإذا كان من الضروري التركيز على واجب العرب والحث على تحمّل مسؤولياتهم الإنسانية والدينية والقومية إزاء الفظائع المرتكبة، فإن حجم الكارثة المأساة يقضي وضع الأمور في نصابها.

في المبدأ، لا شيء يمكن أن يبرر التأخير في انعقاد قمة عربية طارئة في ظل ما اُرتكب من جرائم في غزة. لكن من يراجع ملف العلاقات والانقسامات في مواقف الدول العربية الوازنة يكتشف أن الخلافات فيما بينها لم تبدأ بسبب الهجوم على غزة بل إن هذه الخلافات كانت موجودة أساساً بين الدول العربية "الممانعة"، وبين الدول العربية المتواطئة مع السياسة الأمريكية، التي تميل في ظل ما تعتبره غياب الرؤية أو التوافق على إستراتيجية للمواجهة والخلل في الموازين العسكرية والسياسية، تميل إلى نبذ خيار المقاومة، وتفضيل الحل السلمي على أساس مبدأ "الأرض مقابل السلام".

ويعتبر المحللون الغربيون المطلعون على شؤون الشرق الأوسط وأزماته، أن إسرائيل أرادت من خلال هذه الحرب العدوانية أن توجه رسالة إلى مختلف الدول والأطراف في المنطقة، مفادها أنها استطاعت في السنوات  الأخيرة تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها خلال حربها ضد "حزب الله" في صيف تموز 2006، وأنها استعادت قوة قدرتها على ردع أعدائها وخصومها ومواجهتهم بكثير من الفاعلية الحربية (ولاسيما "حزب الله" في حال قرر الحزب تفجير المواجهة مع إسرائيل)، وأنها أصبحت جاهزة لاستخدام القوة المفرطة ضد الذين يريدون قتالها.

العدوان الصهيوني على غزة لا يخرج عن كونه مشهداً في مسلسل محكم ومتصل الحلقات لإدارة الصراع العربي الصهيوني بالطريقة المعتادة، والمصممة لخدمة المصالح الصهيونية وحدها. فقد بات واضحاً الآن، وبعد ثلث قرن من بداية عملية التسوية، أن الأطراف العربية التي أبرمت معاهدات "سلام" ودخلت في علاقات مؤسسية مع الكيان الصهيوني وقعت في خطأ استراتيجي قاتل لأنها بنت مواقفها التفاوضية حينئذ على فرضية مفادها أن الكيان الصهيوني أصبح جاهزا لتسوية نهائية ومقبولة من جميع الأطراف المنخرطة معها في الصراع.

إسرائيل لا تريد السلام، لأن وجودها بالذات هو نقيض السلام، ولأن السلام يحرمها من دورها الوظيفي الذي قامت من أجله، ألا وهو خدمة المخططات الإمبريالية الغربية، ولاسيما الأمريكية منها من أجل إبقاء السيطرة الأمريكية على مقدرات الأمة العربية والإسلامية. فلا تزال إسرائيل اللاعب الوحيد المتحالف عضوياً مع الولايات المتحدة، التي تتبنى إستراتيجية خاصة لحل الصراع تقوم على تصفية القضية الفلسطينية، ورفض أي تسوية شاملة من خلال مؤتمر دولي تشارك فيه كل الأطراف، متبنياً، بدلاً من ذلك، سياسة "الخطوة خطوة" التي صكها هنري كيسنجر، وتصعيد حملات العدوان ضد الفلسطينيين.

كانت سياسة الكيان الصهيوني، كما هي سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، أيا كان الحزب الحاكم فيها، بقاء إسرائيل قوة كبرى في منطقة الشرق الأوسط، والحفاظ على أمنها واستمرارها دولة يهودية واحتفاظها بتفوقها العسكري على الدول العربية مجتمعة أو فرادى. وكان هذا يتطلب دائماً: بقاء التجزئة واستمرار التنافر بين البلدان العربية، وتفاقم صراع المحاور العربية – العربية، واستمرار انشغال كل قطر بمشكلة تستنزفه، ضروري لضمان انتصار الكيان الصهيوني في كل حرب، وازدياد هيمنة الامبريالية الأمريكية، التي لها مصلحتان حيويتان إستراتيجيتان في الشرق الأوسط: ضمان أمن إسرائيل، والسيطرة على النفط الذي تختزنه باطن الأرض في الشرق الأوسط بكميات كبيرة جدا، والحيلولة دون وقوعه تحت سيطرة أعدائها، وضمان استمرار تدفقه إلى العالم الغربي، في غياب البدائل النفطية.

هل يملك العرب خياراً آخر غير خيار مبادرة السلام العربية؟

بالتأكيد هناك خيار آخر، هو خيار المقاومة، وهو خيار الأمة، لا خيار دول الاعتدال. وهذا الخيار يقوم على ما يلي:

أولاً: قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وإعلان التحرر الكامل من كل اتفاقيات السلام معها، باعتبارها اتفاقيات أغلقت جبهات قتالية مع العدو الإسرائيلي، كانت من المفترض أن تكون مفتوحة، ما بقي الصراع العربي- الصهيوني مشتعلاً..

ثانياً: اعتماد المقاومة الشعبية المسلحة لا حرب الجيوش النظامية، غير المتكافئة مع الجيش الإسرائيلي، شرط أن تكون مقاومة شاملة تفتح كل الجبهات المحيطة بإسرائيل. فهل لدى الدول التي لها حدود مع إسرائيل الاستعداد لفتح جبهاتها أمام المقاومة ولا تخشى أن يكون الرد الإسرائيلي قاسيا باستهداف كل البنى التحتية والفوقية وتدمير كل المرافق العامة والخاصة، وتكبيد هذه الدول خسائر بشرية ومادية فادحة قد يكون من الصعب تعويضها، ولاسيما في الظروف المالية العالمية الصعبة؟.

ثالثاً: اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية الفاعلة وذلك باستخدام كل أوراق الضغط على إسرائيل لدى الدول الصديقة وعواصم القرار توصلاً إلى تحقيق تسوية عادلة مبنية على قرارات مجلس الأمن، وعلى مبادرة السلام العربية التي لا يجوز أن تكون بديلا عن خيار المقاومة.

رابعاً: إنّ التفجع والعويل والسخط العربي المكتوم، وحتى الغضب والهياج، كلها قد تغطي على مسؤولية الفاعلين الحقيقيين للعجز العربي. الأمر يتطلب الجرأة والحديث الصريح عن الظروف التي أدت إلى ما نحن عليه من عجز وضعف وتفرّق، وبالتالي الحديث عن الطريق الذي يمكن أن يخرج الأمة من أزمتها الراهنة. ومن المؤكد أنّ الأسباب تكمن فينا، داخل ذواتنا وحياتنا الداخلية، في البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لأقطارنا العربية.

إنّ الثبات على المبادئ والمصالح والقيم الأساسية لصراع الأمة العربية والإسلامية ضد معسكر أعدائها لا يتحقق بالخطابات والانفعالات والعواطف، وإنما بالفعل العقلاني الذي يحتاج إلى مؤسسات في الدول العربية والإسلامية، وأحزاب سياسية عربية فاعلة، وإلى معرفة طبيعة التفاعل الدولي الراهن، وما يفرضه ذلك من ضرورة إعادة بناء الحركة الشعبية العربية ومرجعياتها القومية والإسلامية، وإعادة صياغة الإرادة العربية المشتركة لوقف التدهور العربي، وإعادة بناء الموقف العربي والإسلامي المقاوم.

اعلى الصفحة