يوم عرفة: يوم وحدة المسلمين

السنة الحادية عشر ـ العدد 131 ـ (ذو الحجة 1433 هـ - محرم  1434هـ ) تشرين ثاني ـ نوفمبر ـ 2012 م)

بقلم: الشيخ د. جمال الدين شبيب*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

يوم عرفة من أفضل الأيام العشر من ذي الحجة ، وهو يوم مغفرة الذنوب والخطايا والعتق من النار، ويوم فيه يُباهي الله بأهل الأرض أهل السماء كما قال الصادق المصدوق (ص): [ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء](رواه مسلم)، وصومه يكفِّر السنة الماضية والباقية، وفيها يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر، وفيها التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح.  

إنه يوم وحدة الأمة الإسلامية.. ووحدة المسلمين منهج رباني، وهدي نبوي، جاء به الإسلام، وأرساه قيمًا، وسلوكًا، وعملاً، وعبادة في كافة نواحي الحياة؛ فما من عبادة، أو خلق إسلامي، أو أمر دنيوي إلا وتجد فيه الدعوة إلى الوحدة، والتوحيد، وتجسيد روح الترابط، والمساواة بين الأمة.

في يوم عرفة يتجسّد هذا المعنى بوضوح يقف ملايين المسلمين صفوفاً متراصة موحدة في النية والدعاء واللباس على صعيد عرفة لإحياء مراسم الوقوف في يوم الحج الأكبر ملبين لله معلنين العبودية والطاعة له وحده والبراءة من كل مشرك و الرفض لأي ظلم أو استكبار عالمي ضد الأمة الإسلامية والمسلمين كافة،إنه بحق يوم وحدة وقوة المسلمين.

أيها المسلمون.. ومع انتشار نور الإسلام في الآفاق، وسريان الهدى في كل القارات كان ملتقى الجميع في عرفات، هذا الموقف الذي لا يصح الحج بدونه؛ فعن عبد الرحمن بن يعمر قال: قال رسول الله(ص): "الحج عرفات، الحج عرفات، الحج عرفات.. أيام مِنى ثلاث؛ فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه، ومن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج"(تحفة الأحوذي، 8/316/4058).

هذا الموقف الذي يجمع المسلمين من القارات الخمس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات والطبقات ليعلنوا في خشوع وإخبات: "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك؛ لا شريك لك لبيك".

إن جميع من في الموقف يعلوهم شعار واحد؛ ألا وهو: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وفي هذا الموقف سقطت جميع الشعارات، فلا يمينية ولا اشتراكية، ولكن أمة إسلامية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من اليابان والصين إلى أمريكا وأوروبا.. إنه شعور فياض بين شعوب الأرض جميعًا بالأخوَّة التي ألَّف الله بها بين قلوب المسلمين، وصدق الله: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63)﴾(الأنفال).

فالحج أكبر تظاهرة إسلامية تختزن من خلال أبعادها التعبّدية بعداً سياسياً يعلن موقفه من المستجدات السياسية على الساحة السياسية الإسلامية. وينطلق هذا البعد لفريضة الحج من مفاهيم الوحدة الإسلامية حيث يحوّل الطواف بالبيت الحرام إلى طواف بمنهج الإسلام والحفاظ على وحدة المسلمين، ويتحول رجم الشيطان إلى رجم السياسات الاستعمارية التي تريد السيطرة على مقدرات الأمة وشعوبها.

في تلك البقاع الطاهرة التي تهوي إليها النفوس، وتتهافت إليها القلوب، وتسير إليها الركبان فرادى وجماعات يأتون من كل فج عميق؛ استجابة لنداء الملك العلام: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾[الحج: 27-29]. ليتنعموا بلحظات التجلي العظيم لله على عباده، ويعيشوا أياماً مباركات؛ قياماً وسجوداً، تهليلاً وتكبيراً، ذكراً وتلبيةً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، رافعين بذلك شعار العبودية الخالصة لله تعالى، مجسدين معاني الوحدة والأخوة الإيمانية بينهم، التي لا تكاد توجد في أي تجمع من تجمعات الكتل البشرية في هذه الأرض..

فلا رفث يسمع منهم، ولا فسوق عندهم، ولا جدال يقع بينهم؛ الكل هناك سواسية كأسنان المشط؛ لا رئيس ولا مرؤوس، ولا مالك ولا مملوك، لا غني ولا فقير؛ كلهم عباد الله إخوانًا، تجمعهم لغة التوحيد، يعملون عمل رجل واحد، في وقت واحد، وكأنك عندما تتحسس مشاعرهم وتقرأ في وجوههم معاني الإيمان الحقيقي تقسم أنهم في دنيا أخرى غير دنيانا الفانية.

تعيش الأمة الإسلامية النفحات الوحدوية في تلك الأيام المباركة أيام (الحج)، التي فرضها الله لعباده في أشهر معلومات، وزمن معلوم، ومكان محدود هو صعيد (عرفات) الطاهر.

الحج والوحدة

الوحدة بين أفراد الأمة الإسلامية من أهم مضامين الحج؛ وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في القول والعمل؛ لا إقليمية، ولا عنصرية، ولا عصبية للون، أو جنس، أو طبقة بعينها؛ كما هو مرفوض في الإسلام: "إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى".

الحج أكبر تجمع يمثل الوحدة الإسلامية على مختلف شعوبها واختلاف لغاتها، وليكون المؤتمر السنوي للأمة الإسلامية؛ تلتقي فيه الأفئدة والقلوب، وتذوب فيه كافة أشكال النعرات العنصرية بين آحاد الأمة الإسلامية، ويتساوى فيه الناس جميعًا؛ فيذكرهم بيوم الحشر والنشر بين يدي الله تعالى، فيجددّون فيه العهد مع الله؛ تراهم هناك كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

فالحج هو التجمع العالمي الوحيد الذي يجسد معنى الوحدة والمساواة بين الناس، تجمع لا مثيل له.. ويمثلها واقعًا يعيشونه بينهم، لا نظير له في كافة التجمعات البشرية والمؤتمرات العالمية بمختلف أشكالها وأنواعها وأهدافها. كيف لا يكون ذلك وهو التجمع الوحيد الذي هدفه الأول عبادة الله حقًّا، وأداء المناسك والشعائر التي تعبر عن تقوى المؤمن لله تعالى، وشهود المنفعة الدنيوية للأمة؟

يوم إكمال الدين

قال أحد المبشرين بالنصرانية: (سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التنصير النصرانية ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي).

نعم.. إنها شهادة الآخرين بعد أن يئسوا من الحد من انتشار هذا الدين، وسيظل الإسلام هكذا، صخرة عاتية تتحطم عليها كل سفن الكفر والإلحاد، وما تحمله من مؤامرات ودسائس لهذا الدين الحنيف، رغم أنف الأعداء؛ بفضل منهجه القويم، وشرائعه الربانية التي أكملها الله لعباده يوم الحج الأكبر؛ يوم عرفة، الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تتذكر فيه تلك النعم، والعناية الربانية لها، بأن أنعم الله عليها بالإسلام، وارتضاه لها ربنا، وحفظه من التبديل والتحريف.

في هذا اللقاء العام والمؤتمر السنوي لوفد الله وعمار بيته الحرام دعوة لجميع المسلمين إلى أن يحل الاتحاد والتقارب محلَّ التفرق والتباعد، والتآزر والتعاون محلَّ التنابذ والتخاذل، وأن يشعر المسلمون من خلال وحدتهم بالقوة والمنعة، فلا يستهان بالأقليات منهم في أي بلد من البلدان، ولا يُستضعفون ولا يُحرمون من حقوقهم وحرياتهم، ولا تُصادر أموالُهم، ولا يُمنعون عن القيام بواجباتهم؛ لأن هذه الأقلية في أي أرض كانت موصولةً بما يزيد عن مليار مسلم يتحركون من أجلها، ويناوئون قوى الأرض مجتمعةً في سبيل رفع الضيم عنها.

في يوم عرفة.. ذلك اليوم المشهود، تلتقي نفحات السماء بالأرض، وتتساوى فيه الرؤوس، وتنبذ فيه كل أنواع الشرك والكبرياء؛ فلا تقديس ولا تعظيم ولا تبجيل إلا لله الواحد الأحد.. إنه اليوم الذي أكمل الله فيه لهذه الأمة أمرها؛ ورضي لها الإسلام دينًا؛ فلا تبديل ولا تحريف لكلمات الله، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].

إنه يوم بيّن فيه الرسول لهذه الأمة مناسكها، وحرم فيه الدماء والأموال إلا بالحق، وبيَّن فيه مضامين صون الحقوق والأعراض، وأعلن فيه المساواة بين البشرية (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وأقر فيه حقوق الإنسان وكرامته قبل أن يعرفها الغرب المفتري وأعوانه الذين يجهلون التاريخ عنوة وتكبراً، ويكيدون العداء للإسلام حسداً وتحسراً.

تأتي فريضة الحج والآيات المنزلة فيه لتقطع عليهم الطريق؛ فلا ينالون من هذا الدين الإسلامي طالما أن الأمة تتمسك بمنهجه القويم، وتقيم شعائره بإخلاص وإيمان؛ فيعلنها الرسول  مدوية بحق عبر الوحي القرآني: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾[المائدة: 3]..

فهلاّ استقرأنا تلك المعاني والحكم من هذه الفريضة (الحج)، واستوعبنا تلك المواعظ والعبر، واستجبنا لنداء الملك العلام القائل: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء: 92]. وهلا عمل علماء الأمة جاهدين على بث هذه القيم في أيام الحج وجعلها واقعاً معاشاً بين المسلمين في كافة نواحي الحياة لتوحيد الأمة الإسلامية. أنظر[كتاب (موسوعة البحوث والمقالات العلمية) إعداد الباحث علي بن نايف الشحود.]

يوم تآلف القلوب

ومعلوم أن الله فرض الحج على كل مسلم استطاع إليه سبيلاً، وذلك لحِكمة عظيمة وغاية جليلة هي لفت المسلمين إلى أهمية الوحدة الإسلامية التي تتباهى في أوج قوتها، وأجمل معانيها، وأسمى صورها حيث تجتمع جموع المسلمين على اختلاف الطبقات والشعوب، وتنوع اللغات والبلدان، وتباين العادات والتقاليد يدعون رباً واحداً -لا إله إلا هو- في وقت واحد ومكان واحد متجهين إلى قبلة واحدة.

 لا فرق بين تلك الجموع الحاشدة والآلاف المؤلفة الذين ألَّف الله بين قلوبهم في الحج على صعيد واحد لا فرق بين الملك والمملوك والغني والفقير والرفيع والوضيع هم سواسية كأسنان المشط يؤدون الركن الخامس من أركان الإسلام. ذلك الركن الذي جمع كثيراً من فضائل الأعمال والخيرات وهو موسم عظيم تضاعف فيه الحسنات وتكفر السيئات.

فضل يوم عرفة

ويوم عرفة أفضل الأيام أيام عشر ذي الحجة التي ذكرها الله في كتابه الكريم وأقسم بها تشريفاً لها، وتعظيماً لشأنها، وبياناً لفضلها فقال الله: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (1-2) سورة الفجر.. وقال(ص): (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر) فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله: (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري..

في هذا اليوم العظيم يعم الله عباده بالرحمات، ويكفر عنهم السيئات، ويمحو عنهم الخطايا والزلات؛ مما يجعل إبليس يندحر صاغرًا؛ فعن طلحة بن عبيد الله بن كُرَيْز رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: "ما رُئي الشيطان يومًا فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى فيه من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رُئي يوم بدر؛ فإنه رأى جبرائيل عليه السلام يزع الملائكة"(رواه مالك والبيهقي) (الترغيب والترهيب 2/201).

يوم حرمة الدماء

أيها الإخوة المسلمون.. في هذا اليوم العظيم وفي يوم الحج الأكبر يُرسي الرسول (ص) دعائم القانون العام لحرمة الدماء والأموال والأعراض؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النبي (ص) يوم النحر؛ قال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا بلى، قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله اعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى قال: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا؛ إلى يوم تلقون ربكم.. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" (فتح 1/157/67).

وهنا نذكِّر المسلمين في كل بقاع الأرض الإسلامية بحرمة الدماء والأموال والأعراض، وليحذر المسلم كل الحذر من أن يزيّن له الشيطان سفك دم أخيه المسلم أو استباحة عرضه أو استحلال ماله؛ بما يلقيه من شبهات وزخرف القول ليردُّوهم وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ألا ما أروعَ هذا الميثاقَ النبوي الكريم الذي أعلنه في يوم عرفه!! هذا الميثاق الذي لو وعاه هؤلاء المسلمون المتقاتلون فيما بينهم السافكون لدماء إخوانهم بغير حق لوقف نزيف الدم، وأُغمدت السيوف، ووضَعت الحرب أوزارها، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.

نداء إلى الأمة في يوم الوحدة

يا أمة الإسلام.. إن أمة محمد (ص) أمة واحدة يجمع بين أبنائها روابط شتى؛ فربها واحد، ورسولها واحد، وكتابها واحد، وقبلتها واحدة، وعوامل تأصيل هذه الوحدة في حياة المسلمين متعددة في دين الله عز وجل؛ فالصلاة ينادَى لها فيسرع الجميع للوقوف في صفٍّ واحدٍ، ذابت فيه فوارق اللون والجنس، والغنى والفقر، وجميع الفوارق الطبقية تلاشت، وأصبح الجميع أمام ربهم سواء.. هذا يتكرَّر في اليوم خمس مرات، ثم تأتي صلاة الجمعة لتجمع بين أبناء الحي الواحد في المسجد الجامع.

إخوة الإسلام.. إن هذه الوحدة الإسلامية رباط مقدَّس بين المسلمين، افترضه الله علينا، وأوجب على المسلمين أن يشارك بعضهم بعضاً في السراء والضراء، والشدة والرخاء، وتشترك في الذود عن مصالحها، وتتعاون في رفع الأذى والضيم إذا نزل بأحد منهم. فينبغي علينا -نحن المسلمين- أن نستثمر مواسم الخيرات التي تمر علينا خلال الأيام أو الشهور أو السنوات بما ينفعنا في الدارين وذلك: بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، ففي التوبة فلاح للعبد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].

علينا أيها الأحبة أن نجدد العزم على اغتنام هذه الأيام بالأعمال والأقوال الصالحة والتمسك بكل ما يجمع كلمة المسلمين على الحق، والبُعد عن المعاصي، فكما أن الطاعات أسباب للقرب من الله تعالى، فإن المعاصي أسباب للبعد عن الله والطرد من رحمته، وقد يحرم الإنسان رحمة الله بسبب ذنب يرتكبه فإن كنت تطمع في مغفرة الذنوب والعتق من النار فاحذر الوقوع في المعاصي والذنوب.  وعلينا أن نغتنم هذه الفرص العظيمة، ونبادر إلى الخيرات قبل فوات الأوان، فقد صح عن الرسول (ص) أنه قال: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)رواه أبو داود والحاكم.

على هذه الأمة أن تعمل على ردّ العدوان إذا لحق بأي شعب مسلم، وتتقدم بطيب نفس لتتقاسم المنافع والخيرات بينها، فتواسي الشعوب المسلمة التي تحل بها النوازل، أو الزلازل أو الكوارث والحروب والنزاعات والمجاعات، وبذلك يحققون التوادَّ والتراحمَ فيما بينهم؛ فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله (ص): "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(فتح الباري 10/438/6011).

للحجيج كلمة

عباد الله.. إن الحج رحلة يرجع منها المسلم وقد ألقى عن كاهله أوزاره، وتطهَّرت صحائف أعماله، ويعود من نسكه كيوم ولدته أمه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم (ص) يقول: "من جاء يؤم البيت الحرام فركب بعيره، فما يرفع البعير خفًّا، ولا يضع خفًّا إلا كتب الله له بها حسنة، وحطَّ عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة، حتى إذا انتهى إلى البيت فطاف، وطاف بين الصفا والمروة، ثم حلق أو قصر؛ إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهلم نستأنف العمل"(الترغيب والترهيب 2/166، وعزاه إلى البيهقي).

ومع تطهُّر المسلم من ذنبه فإن يرجع بعد وقفته بعرفات وتعرضه لرحمات الله وقد تزود بالتقوى، والتي هي خير زاد.. ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾(البقرة:197).. فهنيئاً لمن حج وتقبل الله حجه..

وصدق الشاعر:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقي      ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله           وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

رئيس الهيئة الإسلامية للإعلام(*)

 

اعلى الصفحة