ما بين احتجاجات الضفة وحملة ليبرمان
انتفاضة ضد أوسلو.. الاقتصادي والسياسي

السنة الحادية عشر ـ العدد 130 ـ (ذو القعدة ـ ذو الحجة 1433 هـ ) تشرين أول ـ أكتوبر ـ 2012 م)

بقلم: مأمون الحسيني(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في مواجهتها الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة على خلفية تردّي الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية، لم تجد السلطة الفلسطينية أمامها سوى التراجع عن رفع أسعار المحروقات، وإعادة الضريبة المضافة إلى نسبة 15%، وتقليص النفقات الحكومية، وتشديد الرقابة من قبل وزارة الاقتصاد على الأسعار في السوق الوطنية، وفَرْض غرامات كبيرة على المخلين بها، وتخفيض رواتب الموظفين بنسبة 10%.

هذا فضلاً عن مناشدة الدول العربية تقديم دعم مالي عاجل للفلسطينيين، ومطالبة إسرائيل، رسمياً، إعادة التفاوض حول الشق الاقتصادي من اتفاقية أوسلو، أي اتفاق باريس الموقَع عام 1994، والذي وضع شروط العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، وكرّس اندماج الأراضي الفلسطينية جمركياً واقتصادياً بالاقتصاد الإسرائيلي، من موقع التبعية والاستلاب، وأسس لقيام معازل غير معلنة ترتبط جواً وبحراً وبراً وعملة واستيراداً وتصديراً واقتصاداً بالدولة العبرية، وذلك بالتزامن مع مسارعة إسرائيل، التي يبدو أنها غير مستعدة بعد للتعاطي مع تداعيات انهيار السلطة الفلسطينية، إلى تحويل 250 مليون شيكل (60 مليون دولار) كدفعة أولى من أموال الضرائب التي تجبيها من الفلسطينيين، لصالح السلطة الفلسطينية، بعد استشارة وزير المالية، وتوصية أجهزة الأمن الإسرائيلية بتبكير موعد تحويل هذه الأموال، والتوجه بطلب عاجل إلى الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بتحويل مئات ملايين الدولارات للسلطة لإنقاذها من الانهيار، علما أن الاتحاد الأوروبي خفَض هباته إلى السلطة في أعقاب الأزمة المالية التي تعيشها أوروبا، فيما تماطل الولايات المتحدة في تحويل مبلغ 200 مليون دولار التزمت به للفلسطينيين.

غير أن هذه الإجراءات، وسواها من المسكَنات الهجينة، اللهم باستثناء إعلان المفوضية الأوروبية عن تمويل جديد بقيمة 100 مليون يورو لفلسطين، من بينها 31 مليون يورو لدعم النفقات الجارية للسلطة عبر آلية "بيغاس"، وإعلان الخارجية الأمريكية بذلها جهودا لإقناع الكونغرس بتحويل مبلغ الـ 200 مليون دولار الموعودة لخزينة السلطة، غير مقدَر لها توفير أية زوارق نجاة من المأزق الفلسطيني البالغ التعقيد، والذي تتعانق في خضمه رزمة من العوامل الضاغطة، بدءا من الاحتلال والاستيطان المكثف وتبعاتهما الخانقة على كافة مفاصل وفروع الاقتصاد الفلسطيني، ومرورا بإملاءات اتفاق باريس الذي ربط هذا الاقتصاد بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي، وكذلك بضغوط الدول المانحة لإجبار القيادة الفلسطينية على التراجع عن خطوة طلب عضوية الأمم المتحدة، وانتهاء بتداعيات وأعباء الانقسام، وتأثير السياسات الاقتصادية لحكومات السلطة الفلسطينية التي فاقمت العجز في الميزان التجاري، ورفعت من منسوب انكشاف الاقتصاد الفلسطيني للخارج، وخفَضت نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 2%، وساهمت في تخفيض معدل حصة الفرد من الناتج المحلي، ورفع نسبة البطالة، ما مهَد التربة لظهور موجات حادة من ارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة، ناهيك عن تراكم الفساد في أوساط الطبقة القيادية في أجهزة السلطة المدنية والأمنية العليا التي تضخمت امتيازاتها باضطراد، وباتت تعيش في بحبوحة تفقأ العين.

سياسات فياض و"التسكين الاقتصادي"

من السهل، بطبيعة الحال، تحميل البعض، ولاسيما في أوساط حركة "فتح"، رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فيَاض وسياساته الاقتصادية النيوليبرالية التي تعتمد "التسكين الاقتصادي" الهش والمزيف، وتنسجم مع مقاربة "الأمن أولاً" التي تمثل جوهر اتفاقات أوسلو، والهادفة إلى وضع الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية فوق أيّ اعتبار سياسي آخر، كون القنوات التي تموّل المالية العامة للسلطة محكومة بالقيود والسياسات الإسرائيلية. من السهل تحميله مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية وإثقال كاهل الفلسطينيين بمديونية ضخمة تلامس حدود الـ 4 مليارات دولار، إلا أن ذلك لا يشكل سوى أحد وجوه الأزمة وتجلياتها التي تتمظهر، بشكل جلي، في اتجاهات عدة، لعل أبرزها نجاح إسرائيل، ووفقا لاتفاق باريس الاقتصادي، في جعل السوق الفلسطيني "الساحة الخلفية" للسوق والاقتصاد الإسرائيليين، وتالياً، استحالة بلورة بنية اقتصادية منتجة يمكنها إحداث تراكم رأسمالي محلي تنموي، وارتباط تدفق أموال المانحين الدوليين والعرب بمدى الاستجابة الفلسطينية للإملاءات والشروط الإسرائيلية، وتركيز رأس المال الفلسطيني الخاص على مضاعفة أرباحه ضمن سياق الحل المرغوب به أمريكيا، وبعيدا عن التنمية المجتمعية القابلة للتطور والاستمرار.

ومع ذلك، لا بد من الإقرار بأن السياسات الاقتصادية لفياض الذي عمل سنوات طويلة في البنك الدولي ساهمت، بشكل كببر، في تردي الأوضاع، كون الرجل الذي عمل كممثل للمؤسسات الدولية في جهاز السلطة الفلسطينية، عهد إليه، وعلى مدار عقد كامل تقريباً، مهمّة التصرف بأموال المانحين المتدفقة إلى الضفة الغربية وغزة وفق التصورات المصممة في تلك المؤسسات، والتي كانت إحدى مقارباتها الرئيسية في ضخ المانحين الدوليين لأموالهم تتجلى في بناء وعي فلسطيني متمحور حول صورتين: صورة غزة "المتمردة" وتالياً، الفقيرة والمهمّشة، وصورة الضفة الغربية "الوادعة" التي ستوفر لها كل سبل الرخاء والبحبوحة في ظل نموذج "الحكومة الرشيدة" المدعوم دولياً. وهكذا بدأ ما اعتبر "تحولاً نوعياً" لإعادة تأسيس "نموذج الضفّة الغربية" الذي يمثل استنساخاً لسياسة إسرائيل في ما عرف بـ"الجسور المفتوحة" في عقد السبعينات، والتي تقوم على معادلة مفادها، منح الفلسطينيين مزايا معيشية واقتصادية (كانت في السبعينيات فتح سوق العمل الإسرائيلي للعمالة الفلسطينيّة) كي ينسوا السياسة وينشغلوا بمتعهم الخاصة.

إلا أن هذا النمط من النهج النيوليبرالي المصمم خصيصاً لتصفية القضية الفلسطينية ودفن أعمدتها الرئيسية، والمستند إلى المساعدات الخارجية المسيّسة اصطدم بحقائق الواقع التي تفيد، ووفق ما جاء في تقرير أصدره البنك الدولي أواخر تموز/ يوليو الماضي، بأن المساعدات الخارجية للسلطة الفلسطينية أدت بين العامين 2007 و2011 إلى زيادة بنسبة 7.7% في الناتج القومي، ولكن فقط في قطاعات خدمات الدولة، العقارات والقطاعات غير المنتجة، فيما شهد قطاعا الزراعة والصناعة تراجعاً ملموساً خلال الفترة ذاتها. ومردّ ذلك هو أن الاقتصاد الفلسطيني خاضع كلياً للاقتصاد الإسرائيلي، والبنية الاقتصادية ـ منذ التوقيع على اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية ـ تعتمد على أموال ومشاريع الدول المانحة، وهو، بالأساس، اقتصاد هش لا يسيطر على الأرض الفلسطينية، حيث يخضع 62 % من مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 لسلطات الاحتلال الإسرائيلية، بما في ذلك منطقة الغور التي تشكل سلة الغذاء الفلسطينية، فضلا عن سيطرة دولة الاحتلال على نحو 80% من مصادر المياه الفلسطينية، فيما تقع القدس (الكبرى) خارج نطاق سيطرة السلطة، فضلاً عن  مواصلة سلطات الاحتلال مصادرة وتهويد الأراضي والبناء الاستيطاني الاستعماري عليها، واستمرار الحواجز والعراقيل الجمركية، وتهتك قطاع السياحة والخدمات لأسباب لها علاقة، أساساً، بسياسات وانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي، وعدم تمكن السلطة من بناء مطار دولي، وافتقادها كذلك لميناء بحري يمكَن من التواصل مع العالم الخارجي، ناهيك عن عدم وجود ممر امن بين الضفة والقطاع، ما يجعل من شبه المستحيل النهوض بالاقتصاد الوطني، وبناء بنية تجارية مقبولة.

اتفاق باريس والتبعية لإسرائيل

على أن سياسات فياض الاقتصادية لم تبدأ معه في واقع الأمر، إذ، وكما قال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فإن رئيس الوزراء (فياض) ينفذ سياسة السلطة، ومن يتحمل المسؤولية هو من وقَع اتفاق باريس. هذا الاتفاق الذي أطلق عليه رسمياً اسم "بروتوكول العلاقات الاقتصادية بين حكومة دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية" وقع في 29 نيسان/ إبريل 1994، وتتضمن نقاطه الرئيسية التالي:

- سياسة الواردات: "لدى إسرائيل والسلطة الفلسطينية سياسة شبه متطابقة فيما يتعلق بالواردات والجمارك. ومع ذلك فان السلطة الفلسطينية تستطيع استيراد منتجات بتعريفات جمركية مختلفة عن تلك المطبقة في إسرائيل عقب إجراءات متفق عليها بصورة مشتركة. وبالإضافة إلى ذلك تستطيع السلطة الفلسطينية استيراد منتجات من الدول العربية بكميات محدودة متفق عليها. وسيتم اتخاذ ترتيبات لتدير السلطتان بشكل مشترك الحدود في أريحا وغزة".

- الضرائب المباشرة: "تطبق السلطة الفلسطينية سياستها الخاصة في فرض الضرائب المباشرة بما في ذلك ضريبة الدخل على الأشخاص والشركات وضرائب الملكية ورسوم البلديات، وفقاً للسياسة التي تحددها السلطة الفلسطينية، ويقوم الطرفان بجمع الضرائب في الأنشطة الاقتصادية التي تجري في مناطقهما. وتنقل إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية 75% من ضريبة الدخل التي تحصلها من الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل".

- الضرائب غير المباشرة: "تطبق السلطة الفلسطينية نظاماً لضريبة القيمة المضافة مماثلاً لذلك المطبّق في إسرائيل، وتراوح معدلات ضريبة القيمة المضافة لدى السلطة الفلسطينية بين 15 و16%.

- الوقود: "يتم تحديد أسعار الوقود في منطقة الحكم الذاتي على أساس سعر الشراء في منطقة الحكم الذاتي والضرائب المفروضة على الوقود في منطقة الحكم الذاتي. وينص الاتفاق على أن سعر الوقود لا يمكن أن يكون أقل من 15% من السعر الرسمي في إسرائيل".

وعلى الرغم من أن الاتفاق يقضي بحرية التجارة، وبالانتقال الحرّ للسلع والبضائع بين إسرائيل وأراضي السلطة، إلا أن السلطة الفلسطينية تحتاج إلى إذن مسبق من السلطات الإسرائيلية لاستيراد السلع التي تستوردها. وبحسب البروتوكول ذاته، تنفرد الدولة العبرية في وضع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من قبل السلطة الفلسطينية وزيادتها من طرف واحد. في المقابل، فإن ٨٥٪ من الصادرات الفلسطينية تصدّر لإسرائيل. ومن الأخيرة تستجرّ الأراضي الفلسطينية الكهرباء والمحروقات التي تفرض السلطة عليها رسوما وضرائب تسهم في تغطية النفقات العالية للسلطة وأبرزها لدفع رواتب الموظفين. وحسب الصحافية الإسرائيلية عميرة هس، فإنهم "استطاعوا في أوسلو أن يكتبوا عقداً يترك لإسرائيل الموارد والسيطرة عليها وسلطات السيد، ويمنحوا السلطة المشكلات والمسؤولية عن حلها بلا سلطات وبلا موارد". وبموجب ذلك تضيف هس: "تستغل إسرائيل الموارد الطبيعية كالماء ومقالع الحجر والبحر الميت والأرض الزراعية ومواقع السياحة والمناطق الصناعية وتسيطر على المجال الإلكترومغناطيسي، وتمنع صيادي الأسماك من تجاوز ثلاثة أميال، وتحظر استيراد الإنتاج الزراعي من قطاع غزة، وتفرض السفر عبر طرق التفافية". والأسوأ هو الوحدة الجمركية التي تربط ضريبة القيمة المضافة بمعدلاتها التي وصلت إلى 17% في إسرائيل بالأراضي الفلسطينية. ما يجعل ارتفاع الأسعار في إسرائيل يؤدي إلى ارتفاع تلقائي في الأسعار الفلسطينية، مع وجود فارق جوهري هو ربط الأسعار بالأجور في إسرائيل، وهذا أمر متعذر الحدوث في الأراضي الفلسطينية. ويربط العديد من الخبراء موجة الغلاء وارتفاع الأسعار في مناطق الضفة الغربية، خلال الأشهر الأخيرة، بموجات مماثلة في إسرائيل، حيث تأتي هذه الموجة كنتيجة لاستجابة السوق الفلسطينية تلقائياً للتغيرات في السوق الإسرائيلية.

الإشكالية وجوهرها المتعدد الأوجه

في كل الأحوال، فإن الإشكالية، في جوهرها، لا تتعلق فقط ببنية الاقتصاد الفلسطيني الهشة، وارتهانها لشروط ومتطلبات الاحتلال، وضغوط الدول المانحة، وأعباء الانقسام، أو بالسياسات "الفيّاضية" التي تفتح الباب واسعا أمام ترجمة مشروع "السلام الاقتصادي" الذي يطرحه اليمين الإسرائيلي"الحاكم، والذي كشف الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع واصطدموا بقوات الأمن الفلسطينية، ورشقوا الأحذية على صور رئيس الوزراء سلام فياض، وهاجموا رموز السلطة، عريه بالكامل، كما يرى آفي يسخروف في "هآرتس"، كما لا تتعلق كذلك، حصراً، إملاءات "اتفاق باريس" الذي يؤكد وزير المال الإسرائيلي السابق أبراهام شوحط الذي وقّع الاتفاق، أنه "أصبح من المنطقي تعديله، أو إلغاؤه"، وإنما تتجاوز ذلك إلى طبيعة اتفاق أوسلو "الإشكالي" الذي أنجب سلطة فلسطينية لا تمتلك مقوّمات الدولة، وتعتاش على المال الأجنبي، وتصرَ في نفس الوقت على أداء دور الدولة التي ترسم وتقرّر، وذلك على رغم فشل خطة بناء المؤسسات وإثبات الجدارة كطريق لإنهاء الاحتلال، وتهاوي شعار تقليص الاعتماد على المساعدات الخارجيّة وصولا إلى الاستغناء عنها كلياً في العام 2013، ورفع الصوت عالياً لاستدعاء المساعدات الخارجيّة لإنقاذ السلطة من الأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة، ما يفضي إلى الحسم بأن لا حلّ اقتصادياً فلسطينياً بدون حلٍّ سياسي يعيد تشخيص المشكلة في فلسطين، ويضع اليد على طبيعة علاقات القوّة الاستعمارية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، ويؤسس لتجاوز سياق أوسلو، وإعادة فتح أفق مشروع التحرّر الوطني، بعيداً عن أوسلو وتجلياته التي أنتجت إدارة فلسطينية محدودة أثبتت تجربة العقدين الأخيرين أن مآلها النهائي هو أن تعمل كوكيل محلّي للقوة الاستعمارية العسكرية.

في المقابل، وعلى الرغم من البعد الاقتصادي- الاجتماعي الذي لا يمكن فصله عن البعد السياسي- الوطني للاضطرابات والأحداث الأخيرة، لا يمكن فصل ما جرى عن الصورة العامة الملبدة بالغيوم تحت وطأة تداعيات "الربيع العربي"، وما رافقه من صعود للإسلام السياسي، ولاسيما في مصر، والذي قاد إلى تهميش القضية الفلسطينية، وتحفيز إسرائيل للإسراع في تطبيق المخططات التوسعية والاستيطانية والعنصرية، وسط تأكد انهيار عملية التسوية، واستمرار وتكريس الانقسام الفلسطيني، ومحاولات نقل فيروساته إلى الضفة الغربية التي أشّرت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة إلى إمكانية إدخالها في دوّامة الفوضى، ما يفرض على السلطة: إما إعادة النظر في شكلها ووظائفها ودورها والتزاماتها في إطار مشروع وطني يشارك الجميع في بلورته تحت راية منظمة التحرير التي ينبغي وضع عملية إصلاحها على نار حامية، وإما الرحيل بشكل مدروس ومبرمج يجنَب الفلسطينيين ويلات الفلتان الأمني الذي تسعى إليه أطراف مختلفة بغية تحقيق هدفين متناظرَيْن: إعادة صياغة السلطة وقياداتها كي تقبل بالمعروض عليها، ولو اقتضى الأمر أن تبقى على حافّة الهاوية، أو تمكين الإسرائيليين من الانسحاب من مناطق الكثافة السكانية ما وراء جدار الفصل العنصري، وتركها فريسة للفوضى، وربما الاقتتال الداخلي الذي يفتح الباب واسعاً أمام دفن ما تبقّى من شرعية دستورية وثورية، ومن حقوق وطنية مشروعة.

ماذا عن إلغاء أوسلو؟!

وفق هذه الأرضية، تكتسب أسئلة رئيس السلطة الفلسطينية التي طرحها على اجتماع ما يسمى "القيادة الفلسطينية"، قبل أيام، أهمية خاصة لها علاقة بواقع ومستقبل السلطة والمصالحة الوطنية التي تتضاءل إمكانية تحقيقها باضطراد. ففي هذا الاجتماع الذي ضم أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والأمناء العامين لفصائل المنظمة، وأعضاء اللجنة المركزية لحركة "فتح"، فاجأ أبو مازن الحضور بطلب الإجابة على التالي: ما موقف الحضور من إعلان إجراء الانتخابات الفلسطينية في كل من الضفة والقطاع بمعزل عن موافقة أو اعتراض حركة حماس، ما فهم على أنه جس نبض لإمكانية تنظيم الانتخابات في الضفة الغربية فقط كون "حماس" تمنع إجراء الانتخابات في القطاع. أما السؤال الثاني فتعلق بموقف الحضور من فكرة طلب عقد اجتماع مع نتنياهو بقصد إبلاغه إلغاء الجانب الفلسطيني من طرف واحد لاتفاقيات أوسلو، ما طرح علامات استفهام عن سبب ربط إلغاء الاتفاق بإجراء اجتماع مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.

ومع أن الإجابة جرى تأجيلها إلى وقت لاحق، كون اتخاذ المواقف بشان هاتين القضيتين المصيريتين يحتاج إلى دراسة وتمحيص وتوافق سياسي وطني، إلا أن مجرد طرحهما يؤشر إلى مدى المأزق الذي تعيشه القيادة الفلسطينية ورئيسها الذي يحاول جاهداً اختراق حاجز الجمود القائم في الحلبة السياسية مع كل من حماس داخلياً (انعدام المصالحة) ومع إسرائيل عبر جمود التسوية بل وتراجعها. ومن غير المستبعد أن تكون هذه الخطوة نوعاً من الرد على ما يحاول أفيغدور ليبرمان بلورته كسياسة إسرائيلية جديدة تقوم على أساس نسف اتفاقيات أوسلو، واستبدالها، ووفق ما ترى صحيفة "معاريف"، باتفاق انتقالي طويل المدى يتمحور حول تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وزيادة حرية التنقل في الضفة الغربية للفلسطينيين.

وكان وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قد استهل بحملة شرسة على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بدأها باتهامه بممارسة "الإرهاب السياسي"، والضعف وعدم القدرة على ترتيب انتخابات في مناطق السلطة الفلسطينية، وعلى "احترام التزاماته" تجاه إسرائيل، قبل أن يتطور الأمر ويصف الرئيس الفلسطيني بأنه "كذّاب وجبان وبعوضة"، ويشير إلى أنه (ليبرمان) بصدد إعادة النظر في اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين، وفي العلاقة مع السلطة الفلسطينية، ما اعتبر من قبل الكثيرين أكبر من مجرد رد فعل فاشي من قبل بلطجي متطرف، سبق وأن دعا إلى قصف السد العالي، وإلى تفجير كافة مراكز ومؤسسات السلطة الفلسطينية وتدمير قطاع غزة، على توجه السلطة إلى الأمم المتحدة لنيل اعتراف أممي بعضوية منقوصة لـ "الدولة الفلسطينية" في المنظومة الدولية، وما يمكن أن يجرّه ذلك من تشجيع على مقاطعة الدولة العبرية، وتكريسها كـدولة فصل عنصري، ومحاكمة الجنود الإسرائيليين بتهمة "ارتكاب جرائم ضد الإنسانية" في المحكمة الجنائية الدولية، وأبعد مدى من محاولة الحد مما أسماه البعض في السلطة "الاختراق والنجاح الدبلوماسي الفلسطيني"، ولاسيما بعد تبني وزراء الخارجية العرب، في اجتماعهم الأخير في القاهرة، التوجه الفلسطيني نحو الأمم المتحدة.

دلائل ومؤشرات ما سبق تقديره تتوزع في أكثر من منحى: الأول، هو أن هذا العنصري البغيض الذي يرشح تطرفاً وزعرنة ووقاحة، بادر إلى توجيه رسائل رسمية إلى أمين عام الأمم المتحدة، ومجموعة الرباعية ووزراء الخارجية في العالم، دعا فيها إلى ممارسة النفوذ والضغط لتنحية رئيس السلطة الفلسطينية، وأعلن، بوضوح، أن رئيس وأعضاء الحكومة الإسرائيلية الذين حاولوا التنصل من تصريحاته، كانوا على علم بالرسائل التي يرسلها إلى العالم ضدّ عباس، ما يؤشر إلى أن ليبرمان الذي لم يتعود ممارسة "التقية" كغيره من المسؤولين الإسرائيليين الذين تتماهى لديهم المصالح الانتخابية بالرؤى والتوجهات السياسية والإستراتيجية، ينطق، في الواقع، بلسان الائتلاف الحكومي الذي يتناقض موقفه حيال مستقبل السلطة، وفق المصادر الإسرائيلية، مع موقف المؤسسة العسكرية والاستخبارات التي ترى أن تفكك السلطة التي تمثّل "عائقاً أساسياً أمام أي هجوم إرهابي ضد إسرائيل" وتتمسك بالتنسيق الأمني، على الرغم من توقف المفاوضات، وتدهور العلاقات بين الجانبين، والتهدئة الواقعية ما بين الاحتلال وسلطة غزة، من شأنه أن يطلق "موجات من الحوافز" لدى الشعب الفلسطيني، وتدفعه نحو "الإرهاب" من جديد، كما أنه (ليبرمان) يعكس صورة ما يسمى المجتمع الإسرائيلي الذي يتموضع في مربعات التعصّب والتطرّف والعنصرية القائمة على مبدأ "نقاوة وتفوق اليهودي".

مرحلة جديدة في علاقات الجانبين

المنحى الآخر له علاقة بحقيقة انهيار وهم حل الدولتين الذي سبق وأن نعاه البروفيسور الأمريكي جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية ومنسق برنامج "سياسة الأمن الدولي" في جامعة شيكاغو عندما شرح، خلال ندوة في "مركز فلسطين" في واشنطن قبل أكثر من ثلاثة أشهر، كيف أن إسرائيل "ليست في وارد السماح للفلسطينيين بإقامة دولة قابلة للحياة في غزة والضفة الغربية". وهنا لا يتصل الأمر فقط برؤى وتوجهات وسياسة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وبالأخص حكومة نتنياهو الحالية المتخمة برموز التطرف والعنصرية، والتي يجب عليها مواجهة بيئة إقليمية وداخلية تسودها حالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار، وفق تقديرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية المختلفة، وإنما كذلك بتخندق هذه الحكومة في خنادق الاستيطان الاستعماري، وضرب ركائز التسوية السياسية المفترضة، وحسم المستوطنين للمسألة، وتحويلهم خيار الدولتين من حل متفق عليه نظريا ومبدئيا، إلى هذيان وهذر وعباءة للتغطية على عملية التصفية الفعلية للقضية الفلسطينية وركائزها، بعد ارتفاع أعداد هؤلاء المستوطنين في الأراضي المحتلة العام 1967 إلى أكثر من 650 ألف مستوطن، والإعلان عن مشاريع لبناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية الجديدة.

وعليه، وانطلاقاً من مؤشرات البيئة الإستراتيجية المستجدة المفتوحة على احتمالات شتى، يجوز التقدير بأن تصريحات ورسائل ليبرمان المعادية لرئيس السلطة الفلسطينية الذي يعتبر السياسي الأكثر اعتدالاً في التاريخ الوطني الفلسطيني المعاصر، وفق ما يصفه الإسرائيليون أنفسهم، هي توجهات إسرائيلية رسمية تعكس السياسة الخارجية للحكومة، وتؤشر إلى ولوج مرحلة سياسية نوعية في العلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية يمكن انتظامها في أحد احتمالين: إما محاولة لإعادة صياغة إسرائيلية مستمرة للسلطة، بحيث تبقى سلطة حكم ذاتي محدود ووكيلا أمنيا للاحتلال، وتكف عن العمل من أجل السيادة والاستقلال وإقامة دولة فلسطينيّة على حدود 1967، بدليل استعادة سلطات الاحتلال جزءًا مهما من صلاحيات هذه  السلطة، وإما رفض التعامل مع هذا الشريك الفلسطيني الذي مازال يعبّر بشكل أو بآخر، ورغم كل التحفظات، عن وحدة التمثيل الوطني والسياسي الفلسطيني، والسعي إلى تدميره بهدف تهيئة التربة أمام الخطة الوحيدة التي تحظى بإجماع إسرائيلي ممكن ألا وهي خطة الانسحاب من طرف واحد من مناطق التجمعات السكانية في الضفة الغربية (نحو نصف أراضي الضفة) ورسم حدودها مع الفلسطينيين والأردنيين، من دون مفاوضات ولا اتفاقيات ولا مرجعيات ولا شرعية دولية، ما يفتح الباب أمام تنازع، وربما اقتتال فلسطيني داخلي وفوضى أمنية جراء مواجهات مع السلطة الفلسطينية تتعاظم مؤشراتها باضطراد، بهدف السيطرة على الأرض "المحررة" وإدارتها وضبط أمنها في إطار صورة الخرائط السياسية التي ترتسم في مجمل المنطقة.

على أن المفارقة التي تسترعي الاهتمام في تصريحات ورسائل وزير الخارجية الإسرائيلي المتضمنة تنويها بجهود الحكومة الأردنية، "التي أجهضها عباس وشركاؤه"، للعودة إلى المحادثات المباشرة، والتي تأتي في لحظة سياسية استثنائية تؤجج فيها حكومة نتنياهو  الحرب على أكثر من جبهة، في مقابل واقع سياسي عربي مثقل بالصمت المريب حيال الفلسطينيين ومستقبل قضيتهم، هي تزامنها مع ارتفاع وتيرة الحديث عن مشروع "دويلة غزة" ومؤشراته الميدانية، والذي دفع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إلى تأكيد رفضها "بشكل قاطع أية محاولة، من أي نظام عربي أو إقليمي، للمساس بوحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني من خلال المنظمة"، وتحذيرها من مغبة الوقوع في فخ المخطط الإسرائيلي الذي سعى دائماً إلى محاولة الفصل التام بين غزة والضفة الغربية، وتكريس غزة ككيان منفصل يدفع نحو مصر، وتزامنها كذلك مع تصعيد حركة "حماس" هجومها ضد عباس، واتهامه "بعدم إمكانية الخروج من العباءة الإسرائيلية والأمريكية"، وهي ذات الاتهامات التي كانت توجه للزعيم الراحل ياسر عرفات قبل استشهاده، وتحوَله إلى "حائط مبكى" لدى خصومه السياسيين، من الفلسطينيين والعرب.

كاتب فلسطيني(*)

اعلى الصفحة