المعاهدات في الإسلام.. دستور المدينة نموذجاً

السنة الحادية عشر ـ العدد 130 ـ (ذو القعدة ـ ذو الحجة 1433 هـ ) تشرين أول ـ أكتوبر ـ 2012 م)

بقلم: الشيخ الدكتور علي ناصر(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في ظل الهجمة على الإسلام والنبي (ص) نكتب هذه المقالة التي تتناول دستور المدينة كرد علمي ديني تاريخي على الذين يحاولن تشويه صورة الإسلام. البحث يثبت أن الإسلام دين حوار وتعايش مع الديانات الأخرى، ويجسد عظمة النبي محمد (ص).

لا شكّ أن لدستور المدينة أهميّةً بالغةً في التاريخ الإسلاميّ، فقد شكّل منعطفاً دينيّاً، وسياسيّاً، وحضاريّاً، على مستوى البشريّة جمعاء. فمن يتمعَّن فيه ويحلِّل بنوده ويأخذ منه العبر، يرى فيه نموذجاً يُحتذى، ليس فقط على مستوى الجزيرة العربيّة، وقبل أربعة عشرة قرناً، بل على مستوى العالم، وفي أيّ مكان وزمان. إنّه نموذج للتعايش الدينيّ المشترك، ولحقوق الأقليّات الدينيّة في المجتمع المسلم، حيث نرى المواطنيّة والعدالة الاجتماعية تعمُّ الجميع، بشرط أن لا يسلبها الإنسان جوهرها، فيخون وطنه ويتآمر على أبناء بلده ويكون عميلاً للأعداء.

ولم تترك هذه الوثيقة(1)، أو الصحيفة(2)، أو الكتاب(3)، أو دستور المدينة(4)، جانباً مهمّاً من جوانب الحياة الدينيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، في المدينة إلا وتناولته. فقد أقرَّت هذه الصحيفة التعاون المُخلِص بين جميع الأطراف خصوصاً بين المسلمين واليهود، وحريّة الأديان والمعتقدات(5)، والدفاع عن يثرب كوطنٍ للجميع، والضرب على أيدي المعتدين ومدبِّري الفتن، ومقاطعة المشركين في مكّة وعدم إسداء العون لهم، والوقوف صفّاً واحداً ضدَّهم فيما لو حاولوا غزو يثرب والعدوان عليها لينتقموا من النبيّ (ص) وأصحابه. كما تضمَّنت النُصحَ والنصيحة والبرّ والنُصرة والأسوة لليهود إن التزموا بالعهد والميثاق، إضافةً إلى حفاظهم على أموالهم(6). زد على ذلك مضامين أخلاقيّة راقية وتكافلٍ اجتماعيّ حقيقيّ(7).

أولاً: صِحَّة الصحيفة ونصها

أ- شموليّة الصحيفة:

تلقّى المؤرِّخون والمحدِّثون هذه الوثيقة بالقبول، ولم يُثر أحدٌ من المحدِّثين جدلاً حول صحّتها بالجملة، علماً أن الحكم بالصحّة وعدمها، أو التشكيك في النصوص التاريخيّة، يخضع لثلاثة معايير(8):

1- المعيار الداخليّ:

يتعلّق بتركيب النصّ، ولغته، ومضمونه، وانسجامه مع الواقع الخارجيّ، والمحيط الاجتماعي والسياسيّ الذي يُدَّعى أنّ النصَّ قد صدر فيه. فنصُّ الصحيفة طويل، وقد تكون الصحيفة تعرَّضت لبعض التغيير بسبب التصحيف، أو لبعض التغيير في تركيبها من حيث التقديم والتأخير، أو لبعض الحذف والزيادة في جُملها أو مفرداتها نتيجة للنسيان والسهو لتناقلها من راوٍ إلى آخر، أو لأنَّ الراوي ينقل جزءاً منها بحسب حاجته إليها.

ولكن كلّ ذلك لم يؤثِّر على جوهر النصّ وبُنيته العامّة، وعلى تكامله ووحدته. فمن حيث اللغة، فإنَّ الأسلوب الذي صيغَت به الصحيفة وتركيب الجُمل والمصطلحات، يتناسب مع العصر الذي تُنسب إليه الصحيفة، أي أوّل الهجرة إلى المدينة. كذلك فإنّ المفردات اللغويّة التي استعملت في الصحيفة، كانت شائعةً في تلك الفترة، فالتعبير بالمؤمنين يتناسب مع المرحلة الأولى في مكّة، وفي أوّل الهجرة، حيث إنّه لم يستقر الاستعمال على كلمة المسلمين إلا بعد ذلك. ولم يرِد التعبير بالمسلمين في الصحيفة إلا ثلاث مرات. أضف إلى ذلك أنَّ البساطة في ذكر اسم النبيّ (ص) تتناسب مع تلك المرحلة من تاريخ الإسلام، حيث لم يقترن اسم النبيّ (ص) بالدعاء والتعظيم كما هو الشأن السائد عند ذكر اسمه الشريف في العهود المتأخِّرة.

2- المعيار النقديّ الاتّهاميّ:

ويقوم على الفحص عن إمكانيّة وضع النصّ واختراعه بحسب إمكانات ومصلحة الأطراف ذوي العلاقة بمضمون النصّ. فالفكرة المركزيّة التي تُعَبِّر عنها الصحيفة، هي قدرة الإسلام على التأسيس لعلاقة مع الآخر، ولو كان يعتنق ديناً سماوياً غير الإسلام، وإنشاء مجتمعٍ سياسيّ تعاقديّ بين جماعتين هما: المسلمون واليهود، وتشكيل دولة إسلاميّة لهذا المجتمع شريعتها الإسلام، وحاكمها النبيّ (ص). أمّا الفكرة الثانويّة فهي تنظيم العلاقات الداخليّة بين المسلمين أنفسهم. ولا توجد أي دواعٍ أو حوافز لدى أيِّ طرفٍ من المسلمين، سواء المهاجرين أم الأنصار أم غيرهم، لاختلاق نصّ ونسبته إلى النبيّ (ص).

إن العداء الذي وقع بين المسلمين واليهود جعل من الصعوبة بمكانٍ على أيّ جهةٍ أن تخترع وتضع وثيقةً من هذا القبيل. زد على ذلك أن وثيقةً كهذه، تُدخل المسلمين في التزامات مجتمعيّة وسياسيّة مع اليهود، وتحظى بهذا الرواج والذيوع والقبول الواسع النطاق بين المحدِّثين، وكتَّاب السيرة، والفقهاء، والمؤرِّخين، والأوساط العلميّة والفكريّة في المجتمع الإسلاميّ، دون أن تواجه أيّ اعتراض من السلطة السياسيّة في عهد الخلفاء، بعد أن قضوا على النفوذ اليهوديّ في الحجاز، ولم يعد لليهود أيُّ ثقلٍ اقتصاديّ أو سياسيّ أو عسكريّ في الدولة الإسلاميّة، تُلغي من احتمال أن تكون الصحيفة موضوعة في عهدٍ متأخِّر، وتؤكِّد أصالتها وصحّتها وكونها من إنجازات النبيّ الأولى في أوّل هجرة المسلمين إلى يثرب.

3- المعيار الخارجيّ:

يتعلَّق المعيار الخارجيّ بالسند الذي وصل إلينا النصُّ عن طريقه، ومدى وثاقة رواته، وتواتره، أو شهرته، أو ندرته. فقد نُقل النصُّ الكامل للصحيفة في كُتب السيرة والحديث والتاريخ، كما نُقلت مقتطفاتٌ منها وإشاراتٌ إليها في العديد من كتب الحديث(9). ولعلّ أقدّم من نقل إلينا النصُّ الكامل للصحيفة المحدِّث الراوية الشهير محمّد بن إسحاق(10)، الذي يُعتبر مرجعاً في السيرة النبويّة.

ولعلّ التاريخ المُناسب لوضع الصحيفة، هو ما قبل بدر الكبرى، ولكن ليس في الأشهر الأولى للهجرة، وإنِّما بعد تبلور شكل المجتمع السياسيّ الإسلاميّ في يثرب، وظهور تصميم النبيّ (ص) على الدفاع والمقاومة، التي تجلّت في الغزوات والسرايا الأولى بعد ستة أشهر من هجرته المباركة. ففي الأشهر الأولى كان اليهود يراقبون التجربة الجديدة، وسياسة المسلمين، ومدى تلاحمهم وتصميمهم، وقدرتهم العسكريّة. وبناءً عليه كان اقتراحهم على النبيّ (ص) أن يعقدوا معه اتِّفاقات تعايشٍ سلميّ.

ويرى بعض المفكرين أنَّ الصحيفة لم تكن في أهميّة النصِّ القرآنيّ أو السُّنة التي تشتمل على بيان أحكام الشريعة، بل كانت من قبيل كُتبه وعهوده التي تناقلها الرواة(11).

ولكننا نرى أن الإسلام دين اجتماعي معاملاتي أكثر منه فردياً عبادياً، ودين حكومة وسياسة أكثر منه دين طقوس دينية، ومن هنا تكمن أهمية أن يخوض النبي تجربة الحكم الأولى في الإسلام، فيؤسس لمفهوم العيش المشترك وفق قوانين عادلة تعطي للمواطنين من أي دين ومذهب وانتماء سياسي كانوا حقوقاً كسائر المواطنين، وتحملهم مسؤولية أداء الواجب، وعدم الخيانة. كما تؤسس لأحكام الحكومة والولاية، ولفقه الجهاد، وكيفية التعامل مع المحاربين، والجرحى، والأسرى، وغيرهم. وبالتالي فهي لا تقل أهمية عن السنة الشريفة، بل هي جزء منها.

 ب- نص الصحيفة:

قال ابن اسحاق: وكتب رسول الله (ص) كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمّد النبيّ (ص) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبِعَهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنّهم أمّة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم(12) يتعاقلون(13) بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، كلُّ طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجـار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عـوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تفـدي عانيها بالمعـروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وأنَّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً(14) بينهم، أن يُعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وإنّ المؤمنين المتَّقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة(15) ظلمٍ، أو إثمٍ، أو عدوانٍ، أو فسادٍ بين المؤمنين. وأنَّ أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمنٌ مؤمناً في كافرٍ، ولا ينصر كافراً على مؤمن. وأنَّ ذمَّة الله واحدةً، يجير عليهم أدناهم. وأنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وأنَّ من تبعنا من يهود، فإنَّ له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم. وأنَّ سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمنٌ دون مؤمنٍ في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. وأنَّ كلَّ غازية ٍغزت معنا يعقب بعضها بعضاً. وأنَّ المؤمنين يببيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. وإنَّ المؤمنين المتَّقين على أحسن هدى وأقومه. وإنَّه لا يجير مشركٌ مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن. وإنَّه من اعتبط(16) مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنَّه قود به، إلا أن يرضى وليّ المقتول، وإنَّ المؤمنين عليه كافّة، ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه. وإنَّه لا يحلّ لمؤمنٍ أقرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر: أن ينصر محدثاً(17)، ولا يؤويه، وإنَّ من نصره أو آواه، فإنَّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنَّكم مهما اختلفتم في شيء، فإنَّ مرده إلى الله عزّ وجل، وإلى محمد (ص). وإنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإنَّ يهـود بني عـوف أمّة مع المؤمنين، لليهـود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ(18) إلا نفسه وأهل بيته. وإنَّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وإنَّ جفنة(19) كأنفسهم. وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ البر دون الإثم. وإنَّ موالي ثعلبة كأنفسهم. وإنَّ بطانة(20) يهود كأنفسهم. وإنَّه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد (ص). وإنَّه لا ينحجز على ثار جرح. وإنَّه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم. وإنَّ الله على أبر هذا(21). وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وإنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإنَّ بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. وإنَّه لم يأثم امرؤ بحليفه. وإنَّ النصر للمظلوم. وإنَّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإنَّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. وإنَّ الجار كالنفس، غير مضابى ولا آثم. وإنَّه لا تُجار حرمة إلا بأذن أهلها. وإنَّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإنَّ مرده إلى الله عزّ وجل، وإلى محمد (ص). وإنَّ الله على اتقى ما في هذا الصحيفة وأبره. وإنّه لا تُجار قريش، ولا من نصرها. وإنّ بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنَّهم يصالحونه ويلبسونه، وإنَّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدّين(22)، على كلّ أناس حصّتهم(23)، من جانبهم الذي قبلهم. وإنَّ يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. وإنَّ البر دون الاثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإنَّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه. وإنَّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. وإنَّه من خرج فهو آمن، ومن قعد فهو آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم. وإنَّ الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله (ص)(24).

ثانياً: أهميّة الصحيفة

تُبرز الصحيفة أهميّة معاهدة المدينة أو دستور المدينة، فتكوين المجتمع المسلم مقصدٌ أساسيّ لهذا الدِّين. ولم يتحقّق للنبيّ(ص) ذلك إلا بالهجرة إلى يثرب، حيث أقام المجتمع على أساس الأخوّة، والعدل، والمسؤوليّة الفرديّة، والتكافل الاجتماعيّ، وصون العلاقات بين أفراد المجتمع، وعلاقته بالمجتمعات الأخرى في السلم والحرب. كما أكّدَ على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقصاص، والديات، ونصّ على حقوق المواطنين، وحافظ على دمائهم.

لقد تضمّن ميثاق المدينة أحكاماً عمليّة ومنهاجاً واقعيّاً، التزم به المسلمون فأصبحوا أفضل المجتمعات وأقواها. وممّا يجدر ذكره أنَّ الرسول (ص) وبحنكة السياسيّ الخبير، والقائد الفذّ الحكيم، لم يعقد مع اليهود معاهدةً لأنّ لهم قوّة ثقافيّة، ومعنويّة، واقتصادية، وعسكريّة، وحسب، بل تعامل معهم بأخلاق الإسلام، وتعاليم الشريعة السمحاء، التي لا تُحاسب إنساناً إلا بعد أن تُلقي الحجّة عليه. لقد كان من أركان هذه العلاقة: حريّة المعتقد، وحريّة الملكيّة، والنُصرة حال العدوان، والأخوّة والتعاون. فهذه الصحيفة تدلّ على أنَّ الإسلام يقبل فكرة تأسيس مجتمعٍ سياسيّ متنوّع في دولةٍ واحدةٍ، ونظام حكمٍ واحد على أساس الإسلام، يتمتّع الجميع فيها بحقِّ المواطنة الكاملة. ولا يُشترط لإقامة الدولة أن تكون لمجتمع إسلاميّ نقيّ خالص، والمسألة تحتاج إلى مزيد من البحث والتأمّل(25). لقد حقّق النبيُّ محمدا (ص) من خلال هذه الصحيفة أهدافاً إنسانيّةً، ودينيّةً، واجتماعية، وسياسيّةً عظيمة:

1- توثيق الصلات بين المسلمين وتحقيق الأمن والاستقرار: لقد كان هناك تفاوت اجتماعيّ، وثقافيّ، ونفسيّ، ومعيشيّ، بين المهاجرين والأنصار. كما كانت العلاقات بين الطوائف التي تسكن المدينة علاقات حربٍ وعداء، والحال التي كانت سائدةً بين الأوس والخزرج خيرُ مثالٍ على ذلك. وقد ساهمت هذه الصحيفة في توثيق الصلات وتعزيز الروابط والعلاقات الأخويّة بين المسلمين، أي بين المهاجرين والأنصار. كما ساهمت في تذويب العصبيّات والنزاعات الجاهليّة التي كانت تتحكَّم في مصير الأفراد والجماعات، وتجرّهم إلى الحروب، وإراقة الدماء، واستباحة الأعراض والأموال.

2- التعبئة الثقافيّة: لقد أمَّنت هذه الصحيفة نوعاً من الأمن والاستقرار، ما ساعد الرسول (ص) على أن يعبِّئ نفوس المسلمين من مهاجرين وأنصار بتعاليم الإسلام والإيمان دون إكراهٍ، بل بالحكمة والموعظة الحسنة. فالإسلام يبدأ بالشهادتين، لكنّه يحتاج إلى عقلٍ واعٍ منفتحٍ، وقلب سليم، ويحتاج إلى معرفة عميقة بصفات الله عزَّ وجلَّ، وبأصول الدِّين، وفروعه، ولاسيّما الجهاد، وهو القتال في سبيل الله تعالى، أي القتال المشروع الذي يرضي الله ورسوله (ص)، وأولي الأمر من بعده. فإن لم يكن القتال تحت راية ولي أمر المسلمين الحاكم، الفقيه، العادل، الخبير، المخلص لله ولأمته، والشجاع الذي لا يخاف في الله لومة لائم، فالحرب تحت راية غيره لا تكون شرعية، ولا يدخل من يموت فيها إلى الجنة، ولاسيما إذا خالفت مبادئ الإسلام، ومقاصده، وأحكامه، وآدابه.

 هذه التعبئة الثقافيّة الأصيلة، والمعرفة الإسلاميّة المركَّزة، كانت ضروريّةً لبناء مجتمعٍ إسلاميّ متماسك، يخوض اللججَ، ويبذلُ المهجَ، في سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله(ص).

3- الحريّة الدينيّة: لقد أعطى الرسول(ص) الحقَّ لأصحاب الأديان الأُخرى في المناقشة، والمناظرة، والبحث عن الحقيقة على ضوء ما تهدف إليه تلك الأديان، وما يدعو إليه الإسلام من عبادة الله الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ولم يجبر الرسول(ص) اليهود على إتِّباع الإسلام، بل دعاهم إليه وترك لهم حريّة الاختيار بين دينهم القديم الذي توارثوه على مَرِّ السنين، مع كلِّ ما طرأ عليه من تحريفٍ وتشويه، وبين الدّين الجديد، والرسالة الإلهيّة الخاتمة، التي تُقرُّ بجميع الرسل والأنبياء، وتشمل تعاليمهم الحقيقيّة، وتشريعاتهم الأصيلة، بل تفُوقُها على مستوى السعة والشموليّة، والدقّة، والعمق، والمناسبة لكلِّ زمان ومكان، وفي كلِّ شؤون الحياة. فالإسلام يدعو للبناء والعمران في الدنيا والآخرة، لتنتظم الحياة، ويستوفي كلُّ فردٍ نصيبه دون بغيٍ أو عدوانٍ، وهذا ما ينسجم مع الفطرة الإنسانيّة.

4- تحقيق الوحدة بين جميع سكّان يثرب: لقد كان مجتمع يثرب مجتمعاً غير متجانسٍ، ولا متعاونٍ، مجتمعاً يسود علاقاته التوتّر، والتربّص، وهي مشكلةٌ كبيرة وخطيرة، ولا بدّ من حلّها لكي يتسنّى للنبيّ(ص) أن ينشر دعوته ويركِّزَ دعائم دولته. وقد عالج النبيُّ(ص) هذه المشكلة بخطوةٍ سياسيّة بارعةٍ وحكيمة، ففي السنة الأولى للهجرة، وبعد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وضع النبي(ص) هذه الوثيقة السياسيّة الهامّة لتنظيم العلاقة بين المسلمين أنفسهم من جهةٍ، وبينهم وبين اليهود من جهةٍ أُخرى، فقد بذل النبيُّ(ص) جُهداً كبيراً لتحقيق الوحدة بين جميع سكّان يثرب، من مسلمين، ومشركين، وأهل كتاب(26)، باعتبار أنَّ الجميع يمثِّلون مجتمعاً سياسيّاً واحداً، متنوِّعاً في انتمائه الدينيّ.

لقد حقَّق النبيُّ(ص) وحدة يثرب على ما كان بين المواطنين من عداءٍ، وخصوماتٍ موروثة، ووضع نظامها السياسيّ بالاتِّفاق مع اليهود، على أساسٍ متين من الحريّة والتحالف. ولولا ذلك لوجد من الصعوبات والمشاقّ في نشر دعوته وهو في يثرب، ما لا يقلّ عما لاقاه وعاناه وتعرَّض له من صنوف العذاب في مكّة طوال ثلاثة عشر عاماً.

5- تجنّب خطر قريش ونشر الدعوة: إنَّ هذا التدبير الحكيم الذي أبدى فيه النبيُّ محمّداً (ص) منتهى المهارة، والمقدرة، والحنكة، جنَّبه خطرين:

- خطر التفكّك والخصومات المحليّة.

- وخطر طمع قريش به وبالمسلمين، حيث حاولوا مطاردته وإرجاعه إلى مكّة، ولكنّهم لم يفلحوا في ذلك.

كما مكَّنه هذا التدبير الحكيم من أمرين:

- إلقاء الحجّة على اليهود.

- وتحقيق الانتصارات الباهرة، ونشر الدعوة في شبه الجزيرة العربيّة خلال سنوات معدودات.

ثالثاً: موقف اليهود

دعا النبي (ص) سكاّن المدينة واليهود على وجه التحديد إلى معاهدة وطنيّة، خالدةٍ عبر الزمن، لا تزال منهاجاً يُحتذى به إلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة. فقد أنجز دستور المدينة مع فرقاء عديدين، حيث كان هناك أمةً يهوديةً، وأمةً إسلاميةً، داخل الجماعة السياسيّة نفسها.

لقد أحسن اليهـود استقبـال الرسول(ص) بحسب الظاهر، وبـادر هو إلى ردِّ تحيِّتهم بمثلها، بل بأحسن منها، وعمل على توثيق صلاته بهم، فتحدّث إلى رؤسائهم، وتقرّب إليه كبراؤهم، وربط بينه وبينهم برابطة المودّة، باعتبار أنّهم أهل كتاب موحِّدون، وعقد معهم معاهدة صداقة وتحالف وتقرير لحريّة الاعتقاد.

لقد رحَّب اليهود والمشركون في المدينة بهذه المعاهدة، حيث ظنّوا أنّها تتّفق مع مصالحهم ومنافعهم وتحفظ لهم نفوذهم. ولكنهم صمتوا صمت المستريب، بعد أن رأوا أن الإسلام سيوحِّد بين العرب، ويجعل من المسلمين على اختلاف أجناسهم أمّة واحدة، وأنَّه يحارب الاستغلال والجشع، ويُحَرِّم الربا وكلَّ المنافع التي تأتي عن طريق الغشِّ والخداع، فأيقنوا بالخطر على مصالحهم، بل على وجودهم القائم على التسلّط واستغلال الآخرين، ورأوا أنَّ الإسلام يضعّفهم اقتصاديّاً، ويزيد في قوّة المسلمين ومِنعَتهم سياسياً، فأعلنوا موقفهم من الدعوة، ونكثوا بالعهد والميثاق، وانحازوا إلى جانب المشركين. ممّا اضطرّ النبيّ (ص) إلى استعمال القوّة ضدهم.

لقد خان اليهود الصحيفة وغدروا بالنبيّ (ص) والمسلمين، وتآمروا عليهم مع قريش المشركة، ونتيجة لذلك حاربهم المسلمون في مواقع عدّة حتّى تمَّ التغلّب عليهم وإجلاؤهم، ونشأت لذلك حالة عداء وتربُّص بين المسلمين واليهود.

وهكذا لم يكن اليهود صادقين في توقيعهم على المعاهدة، ولكنهم وقَّعوا عليها لأنّهم كانوا يخافون على مصالحهم الاقتصادية، وعلى علاقاتهم مع الأوس والخزرج إن هم واجهوا الرسول (ص) منذ البداية، ولأنَّهم كانوا يطمعون في حماية المسلمين لهم من حملات المسيحيين الروم.

الخاتمة

تلك هي الوثيقة الهامّة التي يجب أن يَهتمَّ بشأنها المؤرخون، ولا يُهمل دراستها وتمحيصها الكُتَّاب والباحثون، نُوَجِّه إليها أنظار الطامحين إلى البحث والتدقيق والتمحيص، ونأمل أن تحظى منهم بما يليق بها من اهتمام، على أمل التوفيق لدراسة هذه الوثيقة بصورة أعمق وأدق وأشمل، لما لها من أبعاد سياسيّة، وإنسانيّة، وحضاريّة، تحتاجها البشريّة في كلِّ عَصرٍ ومِصر، ولاسيما في أيامنا هذه التي تهتك فيها حرمة النبي، ويشوِّه فيها التكفيريون صورة الإسلام المحمدي الأصيل، ويقدمون بذلك خدمة جليلة إلى أعداء الدين والإنسانية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

هوامش

(1) اسم استعمله المعاصرون، ولاسيما المستشرق اليهودي مونتغمري واط في كتابه "محمد في المدينة".

(2) الاسم الذي تردد ذكره في ثنايا النص كثيراً.

(3) الاسم الذي أطلق في مقدمة النص حيث ورد فيها "هذا كتاب من محمد النبي.. "، وفي البند الختامي "وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم".

(4) أسم استعمله المستشرقون وغيرهم.

(5) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.

(6) على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم

(7) يتعاقلون بينهم، يفدون عانيهم، لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه  بالمعروف.

(8) راجع: شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الإسلامي، مرجع سابق، ص: 284-300.

(9) كصحيح مسلم، ومسند أحمد، وكنز العمال للمتقي الهندي، والسنن الكبرى للبيهقي، والتهذيب للشيخ الطوسي، وبحار الأنوار للعلامة المجلسي، وأصول الكافي وفروع الكافي للكليني، والسيرة الحلبية، والسيرة الدحلانية، وسيرة ابن سيد الناس، إضافة إلى كتاب الأموال والروض الأنف، وأمهات معاجم اللغة كلسان العرب.

(10) توفي سنة 151 هـ.

(11) شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الإسلامي، مرجع سابق، ص: 297.  

(12) الرّبعة: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.

(13) العاقل: الأسير. والمعاقل: الديات.

(14) المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال.

(15) الدسيعة: العظيمة، أي طلب دفعاً على سبيل الظلم، ويجوز أن يراد بها العطية.

(16) اعتبطه: قتله بلا جناية منه توجب قتله.

(17) المحدث: من أحدث في الإسلام بدعةً، أو ضلالةً، أو فتنةً.

(18) يوتغ: يهلك.

(19) بطن من ثعلبة.

(20) بطانة الرجل: خاصته وأهل بيته.

(21) أي على الرضا به.

(22) وإذا دعوا اليهود إلى صلح حليف لهم، فإنهم يصالحونه وإن دعونا إلى مثل ذلك، فإن لهم ما على المؤمنين إلا من حارب الدين.

(23) على كل أناس حصتهم في الأموال، وعلى كل أناس حصتهم من النفقة.

(24) الحميري المعافري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، السيرة النبوية، ط1، بيروت، مؤسسة المعارف، 1425هـ- 2004م، ص: 254-255.

(25) شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الإسلامي، ط2، بيروت، المؤسسة الدولية، 1419هـ - 1983م، ص: 266.

(26) كبني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، من اليهود المقيمين في المدينة وعلى مقربة منها. إن العلاقات المتوترة بين الأوس والخزرج من جهة، وبينهما وبين اليهود من جهة أخرى، انعكست على التوزيع السكاني لهذه الجماعات، فقد كانت كل مجموعة من هذه العشائر تسكن في مُجَمَّع سكني خاص بها، وكانت هذه المجمّعات السكنية متباعدة بعضها عن بعض، وتشبه الحصون العسكرية، وقد سموها الأطام. (الأطم: هو حصن بناه أهل المدينة من حجارة).

اعلى الصفحة